العنوان الهجرة وتدبُّرها
الكاتب محمد عبد الفتاح
تاريخ النشر السبت 01-أكتوبر-2016
مشاهدات 21
نشر في العدد 2100
نشر في الصفحة 37
السبت 01-أكتوبر-2016
الهجرة وتدبُّرها
حين نحاول استدعاء بعض ما تثيره ذكرى الهجرة من عِبَر في النفس المسلمة - بل النفس الإنسانية - لا بد أن نذكرَ بعض الأمور التي تعين في فهم وقع انتزاع المرء من بلده الذي يرجو له ولأهله الخير، فيبادلونه بهذه المشاعر كيداً يصل إلى حد السعي إلى قتله وإزهاق روحه؛ طلباً لراحة مما يمثله لهم من تهديد لصدع مكانة وفّرتها لهم بيئة جاهلية ظالمة، وما يمثله لهم أيضاً من صداع وأرق نفسي، يمنع عليهم ديمومة ما هم فيه من غفلة والاستمتاع بها.
أول الأمور التي نستدعيها لتعيننا على فهم بعض ما تمثله الهجرة من دروس وقيم، حادثة ليست بالبعيدة عن وقت الهجرة، وهي حضور جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه ملك الجبال ليأمره بما يمكن أن يريح المغيظ من قوم معاندين؛ بأن يطبق عليهم الأخشبين، فتبتلعهم الأرض فتخلو البيئة من شرهم، ويدعو محمد غيرهم، لكن محمداً لم يكن مغيظاً، بل كان رحيماً رؤوفاً، ولم يكن من أمره إلا مناجاة وابتهال لربه، ورجاء بأن يخرج من أصلاب هؤلاء القساة من يوحّدون الله تعالى.
ما كان أسهل على محمد الكريم أن يطلب من ربه أن يسوّي بهؤلاء أرضاً ليبقى هو فيها، ليفكّر ويدبر فيما يفعله بدعوةٍ هو أمينٌ عليها، حريص على تبليغها، لكن محمداً اختار أن يرحل هو؛ ليبقى الأمل في هداية هذه القلوب، إذا رأت يوماً تغيراً في موقف محمد وموقفها، حين يصبح الحديث معها هو حديث الند للند، عندما تكون له دولة وصولة تمنع عن هذه القلوب غشاوة حالت بينها وبين الإيمان.
هجرة أم فرار وهرب؟
لم تكن الهجرة إذن هروباً من اضطهاد استفحل أو عجزاً عن مواجهة ممكنة، حتى لو كانت مواجهة باستمداد هلاك هؤلاء المعاندين إذا طلبه النبي، ولكن الهجرة كانت انتقالاً لإستراتيجية جديدة، يبدّل فيها أمين الدعوة من آليات تعامله مع مناوئيه الذين يرجو لهم الخير، ويسعى في هدايتهم.
لم تكن الهجرة هرباً؛ إذ الهرب يكون لأي مكان يعنّ أو يتوافر، ولكن محمداً كان يعدّ لهذا الأمر منذ حين.
كانت الخريطة السياسية والجغرافية حاضرة في ذهن النبي حين اختار المدينة، وندب أصحابه للهجرة إليها قبله، بعد أن هاجر قبلهم آخرون إلى الحبشة، التي لم يرها النبي إلا ملجأ آمناً إلى حين توفير المستقر الدائم للدولة التي ستجعل من همها الأول ضم مكة؛ لما تمثله من مكانة دينية وسياسية واجتماعية.
الهجرة إذن لم تكن هروباً، بل مفصلاً تاريخياً استعد له النبي وتوقّعه، وخطط له وأحسن إدارته، ولم يلق الأمر على عواهنه، منتظراً من السماء تدخلاً في غير محله، أو وقته.. وهكذا يكون القائد البصير.
مفصل بين تاريخين ومرحلتين
الهجرة إذن بداية تأسيس الدولة، والانتقال من مرحلة إعداد الفرد وتهيئته وبنائه، إلى مرحلة الاستفادة من هذا الفرد المربى والمبني على أساس متين في بناء دولة تدوم وتستمر بمنهاج رباني قويم.
الهجرة انتقال من حال التفكير في إدارة أفراد داخل بيئة خانقة، إلى فتح الآفاق لهؤلاء الأفراد وتوجيههم وإشراكهم لإدارة مجتمع منفتح فاعل ومؤثر في محيطه المحلي والإقليمي والعالمي بعد ذلك.
لم يكن بدعاً إذن أن يتفق مع عمر رضي الله عنه أغلب الصحابة على التأريخ للدولة الإسلامية بالهجرة؛ إدراكاً منهم لما تمثله من تأثير على وجود الدولة الإسلامية، وما أحرانا اليوم أن نستعيد هذه الذكرى بمزيد من الدرس والتمحيص والتدبر كلَّ آن، لنسترشد بها في واقعنا الآني المعاصر.
نتدبر كيف أدار النبي الصراع مع المناوئين.
نتدبر كيف أدارت الجماعة المسلمة في المدينة استقبال النبي لإظهار المكان والمكانة الحقيقية له.
نتدبر الفرق بين هجرة النبي محمد ونبي الله موسى، لندرك مدى جهد النبي وبأسه وشجاعته وتخطيطه وإدارته.
نتدبر ضرورة استحضار حالة هجرة المؤمن وصاحب الدعوة دائماً لربه ودعوته، وكيف يكون ذلك.
نتدبر كيف تُبنى الدول، كيف تستقر الجماعات في بيئات جديدة كما فعل المهاجرون والأنصار.
نتدبر كيف يمكننا تعليم السيرة لأطفالنا وشبابنا بطريقة حية توقفهم على مراميها ودلالتها، على منطوقات أحداثها لا على الأحداث فحسب.
نتدبرها أفراداً، ومؤسسات، ليدرك الفرد دوره قائداً ومقوداً، وتدرك المؤسسة دورها رائدة وموجهة، منافسِة ومناصِرة.
نتدبر لنعمل لا لمجرد التثقف الميت غير الفاعل.
ما أحرانا بإعادة قراءة أحداث الهجرة لنستعيد ذلك كله أو بعضاً منه.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل