العنوان مكانة الحج بين أركان الإسلام
الكاتب محمد سلام مدكور
تاريخ النشر الاثنين 17-ديسمبر-1973
مشاهدات 19
نشر في العدد 180
نشر في الصفحة 14

الاثنين 17-ديسمبر-1973
مكانة الحج بين أركان الإسلام
للدكتور محمد سلام مدكور أستاذ الفقه والأصول بكلية الحقوق والشريعة بجامعة الكويت
الحج من العبادات التي تتطلب من الإنسان استعمال قلبه و بدنه وماله، والعبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه من شأنها كلها أن تطهر القلب وتزكي النفس وتبعث على الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، وتقرب الناس بعضهم من بعض، وقد غسلت من قلوبهم الضغينة والحقد، وجعلتهم متحابين كالبنيان يشد بعضه بعضًا وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
كان تشريع الحج آخر الفرائض العملية لما فيه من جمع عبادة النفس والبدن والمال معًا.
إذ العبادات المعروفة منها ما هو بدني كالصلاة والصوم ومنها ما هو عبادة مالية صرفة كالزكاة أما الحج فقد جمع بين أعمال القلوب والجوارح وما تتطلبه رحلته من الإنفاق والبذل والحج يشارك العبادة البدنية، لكنه أشق العبادات البدنية، فهو عبادة شاقة مجهدة، تظهر فيها عدة تضحيات في سبيل تحقيق أمر الله، فإنه يجمع بين معاني العبادة البدنية والمالية فوق ما فيه من اتجاهات روحية متعددة، وذكريات دينية طيبة، فهو يشارك العبادة البدنيـة كالصلاة وهو أشق منها على الجسد، وأكثر منها تحاملًا على النفس، ولذا فإنه لم يفرض إلا على القادر عند الأمن ومرة واحدة في العمر. يقول الله سبحانه وتعالى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (سورة آل عمران: الآية 97).
والواقع أن رحلة الحج فيها حركة كثيرة، وتنقل متتال، وطواف وسعي وهرولة. عمل كله نشاط يجدد القوة ويبعث الهمة ويعود الانسان عـلى الامتثال والصبر والطاعة والخشونة وتقوية العزيمة وغرس روح الجندية وتعويد الاعتماد على النفس، وحط الرحال وسرعة الترحال، وضبط النفس عن السب والفسوق.
وتحسن المبارزة بالحج عند الاستطاعة، وإذا كان الفقهاء يتفقون على أن التعجيل أفضل عند القدرة فإن منهم من يرونه واجبًا يأثم المرء بتأخيره حتى قال بعضهم أنه يفسق وترد شهادته إذ في تأخيره بعد التمكن تعريض لفوات أداء الحج.
وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف، وهو مذهب الحنابلة والظاهرية والشيعة الجعفرية وقول عن مالك. لكن الذي استظهره متأخرو المالكية أنه واجب على التراخي وهو ما اتجه إليـه محمد بن الحسن الفقيه الحنفي وهو مذهب الشافعي لأنه مفروض في العمر مرة واحدة.
فكان العمر فيه كالوقت فـي الصلاة. ومع هذا فلا جدال في أن المبادرة أفضل يدل على ذلك ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله «حجوا قبل أن لا تحجوا»
والحج يشارك العبادة المالية الصرفة كالزكاة لما يتطلبه من تضحيات مالية وراءها إيمان قوي بأن الله هو الرزاق وأنه هو المعطي والمخلف لكل أنفاق في سبيله. وليس معنى هذا أن يتكبد المسلم فوق طاقته أو أن يضحي بضروريات حاجاته لبعد هذا عن روح الإسلام الذي فرض الحج على المستطيع مما فضل عن حاجته وحاجة أهل بيته دون أن يوقعه ذلك في استدانة أو تقصير في حق من الحقوق
وتشريع الحج في الحقيقة تلبية لداعي الروح وإرواء لظمأ النفس المطمئنة، وما أعظم ما يشعر به المسلم من القوة في إيمانه حين يجدد عهده بذكريات الجهاد من الرعيل الأول: جهاد النفس وجهاد العدو تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم، وحين يجدد عهده بذكريات الجلاء الذي بدأ فيه الإسلام غريبـًا واضطهد فيه أولئك القلة حتى أعلن الحق عن نفسه واستعلن الإسلام بقوة دعوته. فهنالك يجد أنه لا يأس من انتصار الحق وان الله مع الصابرين الصامدين المخلصين الصادقين في إيمانهم .
كل هذا وما يحف به يستشعره الناسك وهو يتردد لأداء مناسك الحج بين تلك المعاهد الكريمة المقدسة. فيرتبط بمهد النبوة وبما كان سببًا لتقديس هذا المكان من وجود هاجر وابنها إسماعيل وحدهما في هذا المكان المقفر، ولطف الله بهما استجابة لدعوة إبراهيم. إلى جانب ذكره الله بالتكبير والتلبية.
فيزداد إيمانًا إلى إيمانه، ويعود وقد غسل نفسه وطهرها من كل معاني الإثم والشر؛ لأن الإيمان إذا انبثق من القلب وفاض من جوانبه لم يعد هناك مجال لمسلك من مسالك الشر يلج إلى هذا القلب المؤمن الصادق مصداقًا لقول الرسول عليه السلام «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
ولما كان الحج يجمع بين العبادة البدنية والمالية والروحية، اقتضت حكمة الله في التدرج في تشريع الأحكام أن يؤخر تشريعه حتى تقوى نفوس المؤمنين على الإيمان، وحتى يتم تطهير البيت الحرام من دنس الشرك و محو كل آثار الوثنية التي كانت تضمها هذه الأماكن. وإن في عبادة الحج تقوية للصلة بالله سبحانه وتحقيق لمعنى الطاعة والامتثال لأوامر الشرع وتوجيهاته ولو لم يكن للعقل مجال فيها، انظر قول عمر بن الخطاب لما طاف بالبيت واستلم الحجر: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك» وهو ما يشير إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لبيك حقًا حقًا تعبدًا ورقًا» فبهذه العبارة في هذه المناسبة تدل على ما في الحج من تأليف النفوس على أن تتلقى توجيهات الله بالتسليم والقبول واعتياد الخضوع والانقياد لأوامر الدين وتأليف النفوس على حب الخير والتعاون على البر. فالكثير من نسك الحج ومن الأمـور التعبدية لم تتكشف لنا حكمته ولم نتبين علته ليمحص الله إيمان المؤمنين ويغرس فيهم الخضوع والامتثال لأمره.
وفي هذا يقول الإمام الغزالي في كتابه الإحياء «واجبات الشرع» ثلاثة أقسام:
قسم هو تعبد محض لأن قل للحظوظ والأغراض فيه، فمقصـود الشارع فيه الابتلاء بالعمل ليظهر العبد رقه وعبوديته بفعل ما لا يعقل له معنى...» ويقول في موضع آخر من نفس الكتاب: «أن ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق»
ومن عجب أمر الانقياد في هذه الشعيرة أن الإسلام وقد طهر معتنقيه من عبادة الأوثان ونهاهم عن التمسح بالأحجار وتقديسها لما في ذلك من وثنية وشرك والاستهانة بالعقل فإن قادوا وحطموا كل ما عندهم من أوثان. عاد سبحانه فطوفهم بأمر منه حول أحجار الكعبة، وسعى بهم سبحانه بين الصفا والمروة على أن الطواف والسعي من شعائر الله فالانقياد والعبودية هما من أبرز مظاهر الحج التربوية، وهي التي تتفق مع غرس روح الجندية في النفس المؤمنة المطمئنة.
ولقد كان الحج في الأزمنة السابقة موسمًا عظيمًا مؤتمرًا سياسيًا كبيرًا، ولا شك أنه في هذه الآونة يجب أن يبرز فيه هذا المعنى بصورة أدق وأوضح حتى يجتمع شمل المسلمـين وتتوحد كلمتهم، كما جمع الله شمل العرب ووحد كلمتهم فعلا شأنهم وعظمت كلمتهم
نسأل الله سبحانه أن يهيئ نفوسنا للاستفادة بأحكام الدين وأن يملأ قلوبنا بالإيمان وأن نكون مخلصين في أعمالنا قاصدين وجه الله في عباداتنا وسائر تصرفاتنا لا نبغى بها التفاخر والتظاهر، ولا أن تكون وسيلة لتحقيق المكاسب الدنيوية فقط وإنما هو الإيمان الكامل والدين الخالص.
اللهم طهر قلوبنا ويسر أمورنا ووحد صفوفنا واجمع كلمتنا على الحق حتى نكون من عبادك المخلصين الصادقين فنستحق منك النصر الذي وعدت به عبادك المخلصين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
عميد كلية الشريعة بالرياض د. سعود الفنيسان: « السُّنة والجماعة» هم السلف الصالح ومن نطق بالشهادتين وقام بأركان الإسلام
نشر في العدد 2101
707
الثلاثاء 01-نوفمبر-2016

