العنوان على صهوة الكلمة.. (۱) اغتراب المسلم المعاصر
الكاتب د. عبد الله فهد النفيسي
تاريخ النشر الثلاثاء 08-ديسمبر-1987
مشاهدات 31
نشر في العدد 846
نشر في الصفحة 50
الثلاثاء 08-ديسمبر-1987
على المهتمين بشأن المسلم المعاصر أن يدركوا نقطة جوهرية في الموضوع، وهي أنه -أي المسلم المعاصر- يشعر أو بالأدق يعاني من الاغتراب بمعناه الواسع.
ويرجع اغتراب المسلم المعاصر عن المجتمع الحديث لبعد الأخير عن المكونات الفكرية والعقائدية التي زرعها الإسلام في يقين الأول، وقد كتب عن موضوع الاغتراب الكثير، وكلما قرأت فيه أكثر ازددت فهمًا وتحسسًا (لأزمة) المسلم المعاصر، لقد كتب في هذا الموضوع العصري العديد من المفكرين: كارل منهایم، وغرودزن، وهيجل، ودرخايم، وماكس فيبر، وفرويد، ويونغ، ورايسمان، وفوير باخ، وهيدغر، وسارتر، وكيركيغارد.
يعرف غرودزن حالة الاغتراب على أنها «الحالة التي لا يشعر فيها الفرد بالانتماء إلى المجتمع». طبعًا لهذا أسبابه، ومن أهمها هو حالة اللامعنى واللاقدرة، وفقدان الماهية والهامشية، والوحدة والعزلة التي يجد الفرد في ظل المجتمع الحديث نفسه يتوغل فيها يومًا إثر آخر، أيضًا لهذا أسبابه، ومن أهمها عدم توافر أهداف أساسية للمجتمع الحديث تعطي معنى لحياة الفرد، وتحدد اتجاهاته، وتستقطب نشاطاته، يقول كارل منهايم في كتابه «تحليل لعصرنا» DIAGNOSIS (OF OUR TIME عبارة لها دلالة عظيمة، وهي: «لا شيء يثير الحماسة في هذا العصر، كل شيء صار صفرًا».. وهذا أفضل تعبير عن اللامعنى، ويضع توفلر Toffler إصبعه في قاع الجرح حين يقول في كتابه الثمين الموجة الثالثة «WAVE THE THIRD» إن الحياة في حضارة الغرب باتت بلا معنى، ولا مذاق، ولا هدف جدير بالاحترام (۱) ويؤكد توفلر بأن الفرد -أينما كان- يحتاج لإشباع ثلاثة ميولات طبيعية لديه: أولها الانتماء لجماعة تستحق احترامه، وثانيها وضوح المعايير والمقاييس التي تحدد الصحيح من غير الصحيح في هذه الجماعة، وثالثها أن تحدد هذه الجماعة أهدافًا واضحة وأساسية لهذه الحياة.
ويقول توفلر بأن الذي يعيش في المجتمع الغربي لم يتمكن من إشباع هذه الميولات الطبيعية؛ لأن المجتمع الغربي لا يشجع ولا يحرض الفرد لأن ينتمي إليه، فتكوين ذلك المجتمع يؤكد على الفردانية، ويفعل صراعه مع النموذج الماركسي يحارب الجماعية.
وهذه الطبيعة الفردانية للمجتمع الغربي أسقطت وانعكست على إشكالية المعايير والمقاييس، فجعلت كل شيء نسبيًا، ولا شيء مطلقًا، فما يراه ذلك الفرد صحيحًا قد لا يراه الآخر صحيحًا (ليس المقصود هنا الرأي والخلاف فيه، ولكن المقصود القيم الأساسية) فاهتزت مجالات المعايير والمقاييس، يقول توفلر -ولهذه الأسباب- انهارت روح الانتماء للمجتمع بفعل الفردانية المتوغلة، وانهارت كل بناءات المعايير والمقاييس بفعل الفوضى الفكرية والثقافية المتدثرة بالحرية، ونتج عن هذا غياب المعنى الكامن وراء هذه الحياة.
- نعود للمسلم المعاصر ونسأل عن السبب الرئيسي الذي يجعله يعاني من الاغتراب الاجتماعي، ونقول بأن معظم ما قاله توفلر حول المجتمعات الغربية يمكن تطبيقه وسحبه على المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة خاصة، وأن معظمها يتبنى النموذج الغربي (طبعًا ولا يرقى إليه) في هياكله الأساسية، إن تبني النموذج الغربي-كنموذج تنموي- أقحم مجتمعاتنا العربية والإسلامية في عملية اصطناعية شديدة التعقيد وباهظة التكاليف الحضارية والأدبية والمعنوية- أدت فيما أدت إليه لتمزق اجتماعي، وغياب الأهداف الأساسية، واهتزاز لمنظومة القيم الأساسية التي توارثناها، وكانت تشكل عامل استقرار وتثبيت لمجتمعاتنا، ومن ضمن ما أدت إليه-بالضرورة- تبني قوانين ومعايير وأدوات فحص واختبار غربية محضة، لا علاقة لها البتة بمناخنا الاجتماعي وقوانينه ومعاييره وأدوات فحصه واختباره، موجة (التغريب) هذه الطاغية على الحركة اليومية في الشوارع والأسواق والمصالح والمؤسسات كانت الشرارة الأولى التي انقدحت في عقل المسلم المعاصر، فأخذ يسأل نفسه هل هذا هو المجتمع الذي يريده الإسلام ؟ واستشهد من أجل بنائه عمر، وعلي، وحمزة، وعمار، وقوافل الشهداء في هجير مكة، وسعير الهند، وزمهرير القوقاز؟
(ونكمل في الأسبوع القادم بإذن الله).
___________
(1) ص ۳۷۷ طبعة ۱۹۸۱ سلسلة - Pan Books لندن.