; مأزق الديكتاتوريات في عصر التغيير | مجلة المجتمع

العنوان مأزق الديكتاتوريات في عصر التغيير

الكاتب عبدالمنعم سليم جبارة

تاريخ النشر الثلاثاء 27-أكتوبر-1992

مشاهدات 18

نشر في العدد 1022

نشر في الصفحة 34

الثلاثاء 27-أكتوبر-1992

يبدو أن الحركة الإسلامية بشتى فصائلها لم تعد- على الأقل في بعض الأقطار ولبعض الوقت- متهمة بتهديدها للوحدة الوطنية وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية، وهو الاتهام الذي اتخذ ذريعة وعلى مدى سنوات طوال لحرمانها من حقها في العمل والنهوض بواجبات الدعوة إلى الله على الساحة الشعبية.

ولا يعني هذا أن صكًا بالبراءة قد صدر في حقها، أو أنها حظيت بعفو أسقط عنها كل ما جرى بالحصافة بها من خلال محاولات مستميتة ساهم فيها الإعلام الرسمي في بعض أقطار عربية بالدور الترويجي الأكبر.

خاصة وأن سجل النظم الحاكمة في هذه الأقطار حافل بعديد من الدلائل والوقائع التي تؤكد لجوءها إلى الحركة الإسلامية في مواجهة فتن طائفية استفحل أمرها، واتسع نطاقها ومدى شررها حتى تأكد العجز الرسمي عن مواجهتها، وأثمرت محاولات الحركة الإسلامية حينئذ ثمارها في اجتثاث جذور وأسباب التنافر، وإحلال أسباب الوئام والتآلف شعبيًا، بل وأكثر من ذلك فسجل الحركة الإسلامية في هذه الأقطار حافل بوقائع وأحداث تؤكد أنها دون غيرها الحريصة على الوحدة الوطنية من خلال فهم للإسلام أصيل يلتزم الحق والعدل والإنصاف ويذخر بالحب والحرص على الأمن والأمان، وحماية الأعراض والأموال والأرواح، وأن الجميع في الحقوق والواجبات سواء..

ومن أطرف الطرائف التي تحكيها وتؤكدها الوقائع أن السلطات الأمنية في الخمسينيات في أحد الأقطار قامت بالقبض على مجموعة أفراد من الطائفة المسيحية بتهمة تشكيل حزب لا يحظى بالصفة القانونية، وحكم على اثنين منهم بالسجن أحدهما رئيس الحزب والآخر سكرتيره، ولأن لائحة السجون الداخلية في هذا القطر تحظر سكن اثنين دون ثالث في زنزانة واحدة فكان لابد من حل للمشكلة بالبحث عن ثالث يطمئنان ويأنسان إليه ويرضى هو الآخر بالإقامة معهما، وكان في السجن في ذلك الوقت عدد من المسجونين السياسيين ينتمي أغلبهم للحركة الإسلامية إضافة إلى عدد من الماركسيين وثلاثة أفراد من اليهود الذين تم حبسهم في قضية «لافون» المعروفة، ووافقت إدارة السجن على أن يختار الاثنان ثالثًا لهما من بين الاتجاهات الموجودة في السجن فجاء اختيارهما لثالث لهما ينتمي إلى الحركة الإسلامية! مؤكدًا لمفهوم الحرص على الوحدة الوطنية عند الحركة الإسلامية ومعبرًا عن الاطمئنان والثقة فيها عند المسيحية.

ومن ثم فإن إسقاط أو تنحية هذا الاتهام عن الحركة الإسلامية- في أغلب الظن- إنما يعود لكونه صار غير مناسب ولا متلائم- كما يرى فريق المتتبعين مع مرحلة ما بعد انتخابات الجزائر والتي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية بالأغلبية الساحقة، وتبين من خلالها أن النظام الحاكم على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، إضافة إلى جبهته التي اعتمد عليها شعبيًا قد فقدا مصداقيتهما، وصارا لا يتمتعان بشيء من ثقة الشعب ولا بشيء من تأييده، وسقطت واندثرت كل مزاعمهما التي ظلا وعلى مدى هذه السنوات يرددانها بأنهما الممثلان الشرعيان للشعب، وأن الحب والولاء الشعبي يحيط بهما، فقد تأكد من خلال هذه الانتخابات أن الأصالة والهوية متأصلتان متجذرتان في أعماق القلوب والعقول على مستوى الشعب الجزائري، بل وعلى مستوى كل الشعوب، ولم يتأثرا بما جرى ترويجه من تجارب مستوردة عبر توجه النظام تارة إلى الغرب الرأسمالي وتارة إلى المعسكر الماركسي خاصة وأنه لم يجن من وراء هذا إلا كل الخسائر، ولم يجن من وراء ذاك إلا كل الكوارث.

إن مرحلة ما بعد انتخابات الجزائر التي فجرت عديدًا من المفاجآت بالنسبة لجهات داخل الساحة العربية وجهات خارجها تقتضي وتتطلب- كما يرى هذا الفريق من المتتبعين- اتهامات جديدة توجه للحركة الإسلامية تبرر استمرار حجبها وحجب صوتها، والحيلولة بينها وبين ممارسة دعوتها وإحياء مفاهيم الإسلام نهجًا ونظامًا وتشريفًا في النفوس والقلوب والعقول.

ومن ثم فلم يكن غريبًا أن تطلع صحف رسمية في قطر عربي على الناس بقولها: إن من أهم وأخطر النتائج التي أفرزتها أزمة الخليج ازدياد نمو التيار الديني واتساع نطاق حركته وتأثيره.. إن هذا الاتجاه يشكل خطرا كبيرًا على الديمقراطية والتعددية لأنه لا يؤمن بها ولكنه يتخذها سبيلًا ووسيلة للوصول إلى السلطة، فإذا ما وصل تنكر للديمقراطية وتنكر للتعددية، فألغى هذه وأجهز على تلك، إضافة إلى أن التطرف في فكر وسلوك هذا الاتجاه ونزوعه إلى الإرهاب وأن الوقت والوضع يقتضيان علاجًا لهذه الظاهرة التي انتشرت وتفحمت، كما يتطلبان البحث عن سبيل يسمح لها بالعمل دون تهديد للديمقراطية أو تهديد للتعددية.

* إن اتهام الحركة الإسلامية بمعاداة الديمقراطية وكراهية التعددية أو التطرف والإرهاب يجافي الواقع والحقيقة

واتهام الحركة الإسلامية بمعاداة الديمقراطية وكراهية التعددية أو بالتطرف والإرهاب فيه من السطحية مثلما فيه من إنكار للواقع والحقائق وكلاهما محفوران في الأذهان وماثلان أمام العيون والعقول كما أنه يجافي المنطق الصحيح.

فعلى طول وعرض العالم العربي والإسلامي لم ينفرد فصيل من فصائل الحركة الإسلامية بالسلطة، بل لم يصل أغلب فصائلها إلى مواقع السلطة والتأثير، ومن ثم فلم يمارس فصيل إسلامي دوره من خلالها لتتوافر للناس فرصة الحكم على التجربة والممارسة وهل هي ترتكز على أسلوب القمع والملاحقة، وقطع الأعناق، وإهدار المليارات على الأجهزة الأمنية، واستيراد الخبراء والجهابذة في فن التعذيب وإصدار ترسانات القوانين الشاذة وتشكيل شتى أشكال المحاكم الصورية أم أنها ترتكز على مبادئ أصيلة تؤكد الحريات والأمن والأمان.

ثم إن كل ما وصلت إليه الحركة الإسلامية عبر فصائلها ذات الجذور والقواعد الشعبية العريضة هو المشاركة في المجالس النيابية في عدد من البلاد العربية، وقد جرت المشاركة بالقطارة وفي الحدود المرسومة بدقة ومهارة، كما أن هذه المشاركة قد أثبتت أن عناصر الحركة الإسلامية في هذه البرلمانات فاقت غيرها بمراحل في تحمل المسؤوليات، وفي أسلوبها المتميز في الممارسة والحوار والنهوض بالأمانات، اعتمد منطقها على الحجة والمعرفة والإلمام بالحقائق وفي موضوعية علمية لم ترفع سيفًا في الوجوه ولم تشهر مسدسًا موجهًا إلى الصدور.

* الحركة الإسلامية أعلنت نظريًا وعمليًا انحيازها للشعوب فتصدت لمصادرة حقوق الشعوب في الأمن والأمان وإبداء الرأي وإسداء النصيحة

وإضافة إلى ذلك فقد أعلنت الحركة الإسلامية نظريًا وعمليًا انحيازها للشعوب، فدافعت عن حقها في التمثيل الشعبي الصحيح وعن حقها في المراقبة والمناسبة وضرورة إطلاق الحريات وتعميم وتأكيد الأمن والأمان وإلغاء كافة القيود والقوانين الشاذة والسوداء، تنكر وتستنكر استعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، كما ترى من خلال مفهومها للإسلام أن مصادرة حق العباد في الأمن والأمان وإبداء الرأي وإسداء النصيحة هو جريمة نكراء حسابها عسير وكبير، وأن واجب التصدي لهذه المصادرة فيه شرف عظيم وأجر من الله كبير.

ولقد سلبت هذه الحركة حقها كما منعت من ممارسة واجبها في الدعوة إلى الله، وصودرت حريات أفرادها، وغيب الألوف منهم في السجون، وعلق عدد كبير منهم على أعواد المشانق وهم الداعون إلى الحريات المطالبون بالعدل والمساواة الحريصون على تأكيد معالم الإخوة وحقوقها ورفع كافة أشكال الظلم والطغيان.. فهل من المنطقي أن يتهموا بعد ذلك بمعاداة الحرية والتآمر على الديمقراطية، والتخفي والتنكر في شتى الأزياء للوثوب إلى السلطة وتاريخهم لم يسجل ولو مرة واحدة امتطوا فيها بضع دبابات بليل، مع حفنة من العسكر مغمض العيون والعقول لينتفضوا على موقع السلطة في هذا البلد أو ذاك ثم ينسبون لأنفسهم أعمال البطولة والشهامة، وقوائم الإنجازات، ثم يلهبون الظهور بالسياط متهمين الناس بالخروج على الشرعية أو تهديد الديمقراطية والتعددية أو بالاعتداء على المكاسب الثورية.

إن اتهام الحركة الإسلامية بمعاداة الحريات ومجافاة الديمقراطيات وهما في واقع الأمر والحال من المفتقدات في أغلب الساحات، لا يختلف عن اتهامها بتهديد الوحدة الوطنية وإثارة النعرات الجاهلية فكلاهما يؤكد مأزق النظم الديكتاتورية المتشبثة بالسلطة والهيلمان ترفض التغيير في عصر التغيير وبالأسلوب السلمي الصحيح لأنه في نظرها طريق الالتقاء بين الشعوب والحركة الإسلامية.

الرابط المختصر :