; إعادة ترتيب أوراق الخلافة الإسلامية.. الحلقة الأربعون .. الحركة الوهابية في الميزان «الشبهات» | مجلة المجتمع

العنوان إعادة ترتيب أوراق الخلافة الإسلامية.. الحلقة الأربعون .. الحركة الوهابية في الميزان «الشبهات»

الكاتب أ.د. عجيل جاسم النشمي

تاريخ النشر الثلاثاء 28-أكتوبر-1980

مشاهدات 24

نشر في العدد 502

نشر في الصفحة 41

الثلاثاء 28-أكتوبر-1980

التكفير والقتال

  • يقول ابن عبد الوهاب في التكفير: وأما التكفير فأنا أُكفر من عَرَفَ دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله.

  • لم يغفل محمد بن عبد الوهاب في التفرقة بين الذنب والشرك وأنه لا يجوز التكفير بالذنب.

  • أهل السنة مذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك.

  • ذكرنا في الحلقة السابقة والتي قبلها طرفًا من الشبهات التي رميت بها حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورأينا ردود الشيخ عليها ودورنا في ذلك.

  •  واليوم نتكلم عن قضية جعلها البعض شُبهة حين لم يعرف حقيقتها ومراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب منها فلننظر لهذه القضية:

التكفير.. والقتال:

التكفير والقتال من أبرز القضايا التي اختلطت على الدارسين للحركة وكانت محور النقاش بين الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء عصره، وكما اختلطت هذه القضية على أولئك فإن بعض الجماعات المعاصرة لم تفهم حقيقة هذه القضية عند الإمام محمد بن عبد الوهاب، وربما وقع بعضهم فيما وقع فيه علماء عصر بن عبد الوهاب وفهمت بعض الجماعات المعاصرة التكفير والقتال على إطلاقه فأخذوا بذلك أقصى الحيط في هذا الأمر، واستندوا في إثبات ذلك بكلام محمد بن عبد الوهاب وغيره، وفهمت جماعة أخرى أنه لا تكفير ولا قتال إلا بقيود وشروط فأدى الأمر إلى أنْ طغت هذه القيود على حقيقة الأمر وعَطَّلَته، فأخنوا بذلك بالطرف الأقصى الآخر من هذا الخيط وبين أولئك وأولئك، كان الإمام محمد بن عبد الوهاب يبين هذه القضية بكل ما أوتى من حجة وقوة بيان، فكتب فيها رسائل موجهة إلى عموم المسلمين علماء وعامة، وخَصَّ رسائل للعامة وأخرى للعلماء، وابتهل إلى علماء عصره أن يُقيموا الحجة في مخالفته.

وقوم آخرون من العلماء الثقات المعاصرون للشيخ محمد بن عبد الوهاب التبس عليهم الأمر ولكن ليس في حدود التكفير ومبدأ القتال- ولكن في حقيقته عند الحركة الوهابية، ومن هؤلاء عالِم الشام المشهور ابن عابدين صاحب حاشية رد المختار فأسمعه يقول -معذورًا- «كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم المسلمون وأنَّ من خالف اعتقادهم مشركون استباحوا قتل أهل السنة وقتل علمائهم...» «رد المختار 3/309 عن بحث «الشبهات» للدكتور عبد الرحمن عميرة 40» والغريب أن يصل تشويه مبادئ ومفاهيم الحركة الوهابية إلى هذا الحد ويلتبس على ابن عابدين، والأغرب من ذلك أن كلام ابن عابدين يُشير إلى أنهم دخلوا الحرمين وهذا إنما كان متأخرًا بعد وفاة إمام الدعوة، بمدة، ورغم ذلك وقعت مثل تلك الشبهة وذاك الالتباس.

والإمام محمد بن علي الشوكاني على جلالة قدره التبس عليه واقع ما يدعو إليه محمد ابن عبد الوهاب ولا نستطيع القول أنه يخالف حقيقة ما يدعو إليه محمد بن عبد الوهاب فيقول عن الوهابية «ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلًا تحت دولة صاحب نجد وممتثلًا لأوامره خارج عن الإسلام، وتبلغ عنهم أشياء الله أعلم بها» ولقد قال الشوكاني ذلك قبل أن يتضح له حقيقة الدعوة، ولكن بعد... صار من أنصارها المدافعين عنها «البدر الطالع 2/5 أنظر بحث الدكتور عبد الرحمن عمير «الشبهات 41».

وهكذا التبست الدعوة في حقيقة التكفير على هؤلاء الأقطاب، ولو كان من مثل ابن سحيم وابن دحلان فليس الأمر مستغربًا فقد قالوها إعراضًا وصدًا عن الحق والله أعلم فقد قالها ابن دحلان حين قال «وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه» وقال عن الحركة أيضًا وكثر شرحهم وتزايد ضررهم واتسع ملكهم وقتلوا من الخلائق ما لا يحصون، واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم «فتنة الوهابية 66» ويقول ابن سحيم في رسالته «من لم يوافقه في كل ما قال ويشهد أن ذلك حق يقطع بكفره...»

«روضة الأفكار 294»

ولقد تصدى الإمام محمد بن عبد الوهاب لهذه القضية الخطيرة وجلاها كأحسن ما يكون التوضيح والبيان ونحن سنقتصر على القدر الكافي في ذلك فنقول محمد بن عبد الوهاب يُبين مراده، فتراه يقول في رسالته إلى عبد الرحمن بن عبدالله «... وأما التكفير فأنا أكثر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادَى من فعله، فهذا هو الذي أُكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك. «الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبد الوهاب 38 و108» 

ويقصد الإمام بـ«من عرف دين الإسلام ثم سبه ونهى الناس عنه... إلخ» بأقوام ممن تصَدُّوا له كما سيأتي ذكر بعضهم، ويوضح في كلمته هذه أن عموم الناس مسلمين ما داموا لم يفعلوا فعل أولئك الكفار، وهو يقصد المسلمين عامة، لا أهل البلدان في نجد وما جاورها فإنهم ينطبق عليهم ما ذكر، ونأخذ تلك من رسالته إلى علماء البيت الحرام فقد جاء فيها «... وما أشاعوا عنا من التكفير وأني أفتيت بكفر البوادي الذين ينكرون البعث والجنة والنار، وينكرون ميراث النساء، مع علمهم أن كتاب الله عند الحضر، وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بُعث بالذي أنكروا، قلما أفتيت بكفرهم مع أنهم أكثر الناس في أرضنا استنكر العوام ذلك وخاصتهم الأعداء ممن يدعي العلم، وقالوا من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ولو أنكر البعث وأنكروا الشرائع كلها، ولما وقع ذلك من بعض القرى -فلاحظ أنه يتكلم عن واقع فعلًا- مع علمهم اليقين بكفر من أمن ببعض الكتاب وكفر ببعض حتى أنهم يقولون من أنكر فرعًا مجمعًا عليه كفر، فقلت لهم إذا كان هذا عندكم فيمن أنكر فرعًا مجمعًا عليه فكيف بمن أنكر الإيمان باليوم الآخر؟ وسب الحضر وسفه أحلامهم إذا صدقوا بالبعث... وأنتم تعلمون أن من هو أجل منا لو تبين في هذه المسائل قامت عليه القيامة، وأنا أُشهد الله وملائكته وأشهدكم على دين الله ورسوله أني متبع لأهل العلم، وما غاب عني من الحق وأخطأت فيه فبينوا لي، وأنا أشهد الله أني أقبل على الرأس والعين، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل» «الرسائل 42» ومن هنا فابن عبد الوهاب لا يكفر على العموم وإنما يكفر على خصوص من قامت عليه الحجة، ويقول أيضًا في رسالة لأحد علماء المدينة «... فإن قال قاتلهم أنهم يكفرون بالعموم فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم الذي تكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله وبين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويُسميهم الخوارج ، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد..» «الرسائل 48 و58».

  • و اعتبر ابن عبد الوهاب الشرك الواقع بين قومه مع العِلم به مخرجًا من المِلَّة بلا ريب وإن هذا الشرك لا يعذر فيه أحد فهو مما ينبغي أن يدركه عموم الناس خاصهم وعامهم لا فرق في ذلك بين عالم ومتعلم وعامي. فأسمعه يبين ذلك في رسالته إلى أحمد بن إبراهيم شيخ منطقة مرات من بلدان الوشم وكان قد أرسل إليه رسالته فأجابه الشيخ بهذه بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن إبراهيم هدانا الله وإياه وبعد:

ما ذكرت من مسألة التكفير، وقولك أبسط الكلام فيها فلو كان بيننا اختلاف أمكنني أن أبسط الكلام أو أمتنع، وأما إذا اتفقنا على الحكم الشرعي لا أنت بمنكر الكلام الذي كتبت إليك، ولا أنا بمنكر العبارات التي كتبت إليّ، وصار الخلاف في أناس معينين أقروا أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي تنهي عنه في الحرمين والبصرة والحسا هو الشرك بالله، ولكن هؤلاء المعنيين هل تركوا التوحيد بعد معرفته وصدوا الناس عنه، أم فرحوا به وأحبوه ودانوا به وتبرأ وأمن الشرك وأهله؟ فهذه ليس مرجعها إلى طلب العلم بل مرجعها إلى علم الخاص والعام» «الرسائل 204» ثم يضرب لذلك أمثلة وشواهد من أحوال أهل الحسا والزبير وغيرهم. 

ولقد أكَّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب على طواغيت الأرض وأن الواجب إنكار فعلهم وعدم الرضى لأن الرضى القلبي بالكفر كفر، وأن أولئك الذين استحقوا أن يكونوا طواغيت أعلنوا بالكفر ودعوا الناس إليه وأبغضوا بين النبي- صلى الله عليه وسلم- سمعه يقول ذلك في رسالة إلى خصمه اللدود سليمان بن سحيم في مسألة الوسائط فيقول: «وأما مسألة الوسائط تدل على ذلك -أي التكفير- والناس يشهدون أن هؤلاء الناكرين يجعلونهم وسائط وهم مقرون بذلك.

و أما استدلالك بقوله: من قال أنذروا لي وأنه إذا رضي وسكت لا يكفر فبأي دليل؟ غاية ما يقال إنه سكت عن الأخذ الراقي وعلم من دليل آخر، والدليل الآخر إن الرضى بالكفر كفر صرح به العلماء وموالاة الكفار كفر، وغير ذلك هذا إذا قدر أنهم لا يقولونه فكيف وأنت وغيرك تشهد عليهم أنهم يقولون ويبالغون فيه؟ ويقصون على الناس الحكايات التي ترسخ الشرك في قلوبهم. ويبغض إليهم التوحيد ويكفرون أهل العارض لما قالوا لا يعبد إلا الله. وأما قولك ما رأينا للترشيح معنى في كلام العلماء فمن أنت حتى تعرف كلام العلماء؟.

وأما الثانية: وهي أن يجعل الوسائط هو الكافر، وأما المجعول فلا يكفر فهذا كلام تلبيس وجهالة.

 ومن قال إن عيسى وعزيرًا وعلي بن أبي طالب وزيد ابن الخطاب وغيرهم من الصالحين يلحقهم نقص بجعل المشركين إياهم وسائط حاشًا وكلا ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (فاطر: 18)، وإنما كفرنا هؤلاء الطواغيت أهل الخرج وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم منها أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها أنهم يدعون الناس إلى الكفر، ومنها أنهم يبغضون عند الناس دين محمد- صلى الله عليه وسلم- ويزعمون أن أهل العارض كفروا لما قالوا لا يعبد إلا الله وغير ذلك من أنواع الكفر، وهذا أمر أوضح من الشمس لا يحتاج إلى تقرير، ولكن أنت رجل جاهل مُشرك مبغض لدين الله. وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم، وإلا فهؤلاء الجهال لو أن مرادهم اتباع الحق عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون» «الرسائل الشخصية 222».

ولم يغفل ابن عبد الوهاب في التفرقة بين الذنب والشرك، وأنه لا يجوز التكفير بالذنب، وهو يرد في ذلك على من أراد أن يلبس على الناس ويدعي أن محمد بن عبد الوهاب يكفر بالذنب وأن الناس ما داموا من أهل القبلة فلا يكفرون مهما كان صيغهم واعتقادهم فأسمعه يوضح ذلك في رسالة له إلى ابن سحيم فيقول: «ومن أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام أن أهل العلم قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب. وهذا حق ولكن ليس هذا ما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زَنَى أو من سرق أو سفك الدم بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر.

وأما أهل السنة فمذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك وأنت رجل من أجهل الناس تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر، فإذا كنت تعتقد ذلك فما تقول في المنافقين الذي يصلون ويصومون ويجاهدون قال الله تعالى فيهم ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (النساء: 145) وما تقول في الخوارج الذين قال فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أينما لقيتموهم فاقتلوهم» أتظنهم ليسوا من أهل القبلة؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره فأضرم لهم علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- نارًا فأحرقهم بها وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس أنكر تحريقهم بالنار، وقال يقتلون بالسيف أتظن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟ أم أنت تفهم الشرع وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يفهمونه؟ أرأيت أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة قال أبو بكر لا نقبل توبتكم حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار أتظن أن أبا بكر وأصحابه لا يفهمون وأنت وأبوك الذين تفهمون يا ويلك أيها الجاهل الجهل المُركب إذا كنت تعتقد هذا، وأن من أم القبلة لا يكفر فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة التي ذكرها العلماء في باب حكم المُرتد التي كثير منها في أناس أهل زهد وعبادة عظيمة، ومنها طوائف ذكر العلماء أن من شك في كفرهم فهو كافر، ولو كان الأمر على زعمك الباطل كلام العلماء في حكم المُرتد إلا مسألة واحدة وهي الذي يصرح بتكذيب الرسول وينتقل يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا ونحوهم هذا هو الكفر عندك يا ويلك ما تصنع بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تعبد فئة من أمتي الأوثان» وكيف تقول هذا وأنت تقر أن من جعل الوسائط كفر؟ فإذا كان أهل العلم في زمانهم حكموا على كثير من أهل زمانهم بالكفر والشرك، أتظن أنكم صلحتم بعدهم يا ويلك؟ «الرسائل لابن عبد الوهاب 234» وبقى سؤال هام يواجه ابن عبد الوهاب، من هم الطواغيت؟ ومتى تقوم الحجة عليهم؟ وما هي الحجة التي بها يقاتلون؟ وهذا ما نلاحقه من ابن عبد الوهاب في الحلقة القادمة إن شاء الله- تعالى.

الرابط المختصر :