العنوان الواقع الثاني في الأدب الإسلامي
الكاتب د. محمد عادل الهاشمي
تاريخ النشر الثلاثاء 25-يونيو-1996
مشاهدات 722
نشر في العدد 1205
نشر في الصفحة 52

الثلاثاء 25-يونيو-1996
* الواقع الثاني في الأدب الإسلامي طرح أدبي جديد لمنهج متفرد في الأدب والتصور
* الواقع الإسلامي ارتفاع الإنسان على واقعه الحادث في عملية صعود وارتقاء وهو تحقيق لإنسانية الإنسان وكشف أدبي عن طاقاته الفذة
شاع في أوساط عامة الناس - تأثراً بالثقافة الوافدة. أن الواقعية تعني مجرد وقوع الحدث، أو ما يبدو للناس من ممارسات يدركونها بشكل محسوس، أما الأوساط المتأدبة التي تقتبس منهجها من الآداب الأوروبية فنظرها إلى الواقعية في ترجمة وقائع الحياة، تبدو من خلال مذاهب أو أوجه عدة للواقع حسب مبادئ الأدب الأوروبي وواقعياته الأدبية، منها الواقعية النقدية التي تصور الواقع السيئ مبالغة فيه ومنفرة منه ورائدها بلزاك والواقعية الطبيعية التي تصور الإنسان يصدر عن غرائزه وتركيبه (الفيزيولوجي) ورائدها إميل زولا، والواقعية الاشتراكية التي تبشر بالمذهب المادي الاشتراكي ومن روادها جوركي، و«تشيكوف، وما سوى ذلك من الواقعيات فما الواقعية المتميزة التي نقصد إليها في مقالنا.
إن الواقعية الإسلامية هي الطرح الأدبي الجديد لحقائق فكرية وفنية هي ميدان واسع للتناول الأدبي والتنويع الفني، تعرض منها لخاصة فريدة هي الواقع الثاني، فما الواقع الثاني؟ وما ميادينه وآفاقه.
إن الواقع الثاني في الأدب الإسلامي قفزة أدبية على الواقع الراهن وتطلع من خلال الواقع الحادث إلى واقع أعلى، إنه ليس وقوفا عند الواقع المادي الذي تعتمده المذاهب الأدبية اشتراكية أو براجماتية.
من منهجه إن كان الواقع المادي والنزوع الحيواني واقعا حادثا في حياة الإنسان فهناك واقع آخر حري بالتسجيل والتجربة الأدبية يميز إنسانية الإنسان برهافة مشاعره، وطلاقة روحه وارتقاء غاياته، ويغطي هذا الواقع الإنساني شطرا كبيرا من حياة البشرية في تاريخها الغابر، وأشواقها في المستقبل.
إن الواقع الحادث حقيقة ما في ذلك شك. ولكن الارتفاع عن الواقع الحادث حقيقة واقعة كذلك([1]). فكم من إنسان مغمور استطاع في واقع قاس متخلف أن يرتفع على واقعه الحادث، وأن يطور نفسه ويصبح في مستوى عال رفيع، وهذا ما يدل على أن الارتفاع فوق الواقع الحادث. وعدم الرضا بالمنزلة السابقة أو المستوى البشري الراهن حقيقة إنسانية وواقع إنساني يؤيدهما التصور الإسلامي والحياة الإسلامية التي لا ترتضي الجمود وتتطلب الإضافة والرقي، يعبر عن ذلك حديث رسول الله r: «ولا بورك لي في مطلع يوم لم أزدد فيه علما» يمثل لهذا الواقع القافز فوق الواقع الحادث انطلاق العرب من حدود الحياة القبلية الضيقة في الجزيرة العربية في الجاهلية ليصبحوا رواد العالم وسادته في العلم والحضارة في الإسلام، ولم يكن ليتحقق ذلك لولا الواقع الإسلامي الذي لا يرتضي للمسلم السكونية والجمود، ويتطلب الارتقاء والارتفاع، وقد سجل الأدب الإسلامي في فجر تألقه آفاق هذه النقلة في ميادين شعره ونثره.
لقد حقق الأدب الإسلامي عن طريق هذه القفزات فوق الواقع الحادث التطلع الإنساني الذي عجزت عنه الرومانسية في أفق العالم الثاني.. فظل لدى الرومانسية أملاً واهمًا وخيالا مهومًا وهروبا على حين قفز الأدب الإسلامي إلى هذا الواقع الأكبر على مستوى التصور والإبداع الفني، ولنعرض لبعض ميادين الواقع الثاني لتجلية حقيقته.
1- عملية التحويل الإسلامية:
أنتجت ثمرات الإيمان تحولا خطيرا في سير البشرية وسجل النتاج الأدبي رجع هذه الثمرات مذ أعلن رسول الله محمد دعوة ربه فنهضت بها تلك النفوس العالية التي خرجت من جاهليتها لتعتنق الإسلام وتتمثله وتضحي في سبيل ذلك بالنفوس والمهج، وقد عبر شعر الفتوحات الإسلامية والمواقف الأدبية فيها عن أفاق هذا التحول الحضاري العجيب لقد ودعت تلك النفوس البشرية واقعها الحادث في الجاهلية لتستقبل واقعها الثاني في الإسلام، فتتفوق علي نفسها وعلى الآخرين وكأنها قد أضحت خلقاً ثانيا، وإن كانت ترجع إلى أصولها البشرية الأولى بالنسب وقد يقال إن هذه التحولات ليست دائمة، ولكنها واقع يصنع التاريخ، ويجترح المعجزات ويرفع الأمم.
2- مرتقيات الفاعلية والإيجابية:
إن الإنسان في التصور الإسلامي إذا توهج قلبه بالإيمان لن يستريح حتى يحيل الإيمان إلى حقيقة واقعة في نفسه وفيما حوله، هذا الجهد والطاقة المبذولة يضيفان إلى الحياة إنجازا جديدا يطور الإنسان ويرفع من واقعه الحادث إلى واقع أعلى في الإيمان أعلى في التقوى أعلى في البناء، أعلى في المناشط الوجدانية، وهذا ما يقودنا إلى الكشف عن سر تفوقنا في منجزاتنا وحضارتنا عبر تاريخنا الزاهر، لقد كنا أعلى من عدونا في ميزان القيم الإنسانية، وأعلى في ميزان الإيجابية الإنسانية المنبثقة عن التقوى، وهذا هو السر الواقعي في ارتقاء العرب، لقد كانوا أمة جاهلية بادية، جامها الإسلام فجعلها بعبادته تتفوق على نفسها، وتسابق الأمم التي كانت قبلها في الحضارة لقد أصبحت الأمة المسلمة التي يمشي النصر في ركابها تفتح العالم شرقا وغربا في مدى نصف قرن، وتروده إلى الحياة القويمة المهتدية بهدي الله هذا السر الواقعي في التفوق ينبئنا عن النص الذي يدبجه الخليفة الراشد الأديب عمر ابن الخطاب إلى قائده سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنهما – يقول:
أما بعد: فإني أمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وأمرك ومن معك أن تكون أشد احتراماً من المعاصي منكم من عدوكم.. وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا تنصر عليهم بفضلنا لم تغليهم بقوتنا ..([2])
إذن كان نصرنا على عدونا بارتقائنا عليه بالطهر، وبالغاية العليا، وبالمهمة الربانية، وأجمل بهذه المعطيات من فاعلية وإيجابية هي التي قفزت بأمتنا إلى الواقع الثاني، وقد سجل الأدب الإسلامي قفزات هذا الارتقاء والفاعلية في نتاجه عبر العصور.
٣- حوافز العقيدة في اليوم الآخر:
اليوم الآخر ميادين وجدانية للآداب أطلقت خيال الأدباء في مختلف العصور فكان أروع نتاجهم، ولكن لم يبلغ مستوى الواقع الثاني في الأدب الإسلامي وسر ذلك أن التصور الإسلامي للحياة زود الإنسان المسلم بشحنات وجدانية في مواقفه من هذا اليوم فأخذ بشد نفسه إليه بشغف وتفان يبذل كل طاقاته في الدنيا وفاعلياته أملا بالظفر بالجنة ورضوان الله، وهكذا يزداد كل يوم حوافز وفاعليات ويقدم جهوداً وتضحيات، ليكون عند الله في الدار الآخرة من الظافرين.
المسلم بالواقع الثاني يشق الحاجز الأرضي فيسمو على مواضعات الأرض لأن عينيه ترنوان إلى العالم الآخر من حيث لا يستطيع الرومانسي مثلاً أن يزايل هذا الحاجز الأرضي الذي يريد الخلاص منه إن الرومانسي في محاولة صعوده قد تصارعت فيه القدرة المقطوعة عن النبع الأصيل مع الآمال الكبيرة فعاد من رحلته مشتتا ممزقاً محطمًا، أما الإنسان الذي صاغه الإسلام فأبواب الاتصال بخالقه كثيرة وفرياته التي ترفعه عند الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة غزيرة والمؤجل من الخير إلى الآخرة أكرم واجزل وأرفع مقاماً، وهذه كلها حوافز للإنسان المسلم أن يطلب خير الآخرة. حيث الواقع الأعلى والعطاء الأوفى، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
هذه التصورات العليا للإنسان المسلم جلاها لنا الأدب الإسلامي في لوحات وضيئة من نعيم الجنة، فكانت آفاقا أدبية جديدة على التناول الفني فتحت للأدباء الموهوبين مجالات رحيبة فوق مألوف الواقع، تروى التطلع الإنساني إلى واقع علوى ليس تهويما أو سبحات خيال وإنما هو واقع محقق بوعد الله يحبو المتقين في اليوم الآخر من الإكرام ورفيع المنزلة ما لا تدرك شأوه الأبصار أو العقول إنه لعالم أدبي لا يطيق تصوير علاه إلا أدب رفيع كالأدب الإسلامي في واقعه الثاني.
٤- الهجرة:
الهجرة مغادرة البلد الأصلي إلى بقعة أخرى لتحقيق إنسانية الإنسان في البلد الجديد من خلال إقامة شرع الله فيه ثم الانكفاء إلى البلد الأصلي لتحريره من الرجس والطغيان وإرساء قواعد الحياة الإنسانية المهتدية بهدى الله فيه وتمثل هذه الهجرة في التصور الإسلامي الواقع الثاني، لأنها هجرة من ديار الشرور والهبوط إلى بقعة أرضية أو فكرية، يقيم فيها المسلم شرع الله ونظامه.. إنها قفزة إنسانية فوق الشر إلى الخير. يمثل لهذه الهجرة في أدبنا الإسلامي المعاصر الأستاذ أحمد رائف في مسرحيته البعد الخامس، وتتيح له خصائص الأدب الإسلامي أن يبنى عالماً جديداً يشد إليه الإنسان الذي حطمته المادية والاستغلال وشرور الحروب، ففي مسرحية على سطح المريخ، قد انتقلت أنظار البشر من عالم الأرض الذي ساد فيه الشرور والطغيان إلى العالم الثاني العالم الجديد الذي أخذ ينشد فيه الإنسان خلاصه ويودعه تطلعاته وأمانيه التي لم تتحقق على الأرض أو في الواقع الحادث، وعلى سطح المريخ حصل التغيير في بعض النفوس التي ملأها الشر – على الأرض فأخذت تثوب إليهم بعد هجرتهم من الأرض نفوسهم ورؤاهم الإنسانية بعيداً عن الطغيان وإهدار إنسانية الإنسان.
أخذ المهاجرون من الأرض إلى المريخ أو إلى الواقع الثاني يستعيدون إنسانيتهم في واقع جديد حافل بالأطايب والخير .. فكانت الهجرة رحلة فكرية وجدانية نفضت عن النفوس ما علق بها من الأوضار والشرور لتستقبل عالم الفطرة الشيق النقي، ونمثل لذلك من المسرحية بالحوار الآتي:
ليديا: تسأل الأمريكي الذي اهتدى على المريخ من شرور دولته كيف يكون إنقاذ العالم من ويلاته وشروره التي صنعتها الدول الكبرى؟ فنقول:
وكيف يمكن أن يتنبه العالم للهاوية التي يتحرك نحوها ؟
سكوت الأمريكي المهتدى يجيب بأن لا بد من عملية الواقع الثاني للإنقاذ فيقول:
لا فائدة كلهم يجرى السباق الجنوني نحو الموت ولكى يستيقظوا من هذا السبات عليهم أن يقطعوا الرحلة التي قطعناها أنا وأنت والآخرون .([3])
ويمثل للواقع الثاني في شعرنا الإسلامي المعاصر وعملية التحويل الشاعر محمود مفلح الذي يشد أمنه المنكوبة بالاحتلال والاستغلال إلى عالم ثان تتمثل فيه آفاق العقيدة وتتحرك فيه طاقاتها التي تبعث الحياة في الأمة من جديد، عن طريق نفسية عبر عنها بالإسراء:
لم يمت شعبنا العظيم ولا جفت *** على الدهر تربتي السمراء
نحن من أكسب الحجارة نبضاً *** فإذا الأفق برقها والشتاء
لم يزل ينتخي الجموع صلاح *** الدين يزهو في قبضتيه اللواء
كيف نلقى السلاح والمسجد *** الأقصى جراح والمهد والأحياء
كيف تلقى السلاح والمجرم الوغد *** على صدرنا رحى ووباء
وإذا هزت العقيدة شعباً *** سقط الزيف وابتداء الإسراء([4])
إن الواقع الثاني نفحة أدبية من نفحات الواقعية الإسلامية التي تتميز عن الواقعيات الأوروبية بنظرتها الإنسانية ومنهجها المتفرد، وهي ذات خصائص فريدة تمثل لأصالتنا الأدبية وتعكس شخصيتنا الحضارية وتعبر عن أفاق الأدب الإسلامي ولنا معها جولات فنية قادمة.
([1]) انظر منهج الفن الإسلامي ص 56.
([2]) العقد الفريد أحمد بن عبد ربه 1: 40
([3]) مسرحية البعد الخامس أحمد رائف ص 185- 186.
([4]) ديوان الراية : محمود مفلح 11- 13.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

