; دروس من الهجــرة وما سبقها | مجلة المجتمع

العنوان دروس من الهجــرة وما سبقها

الكاتب د. عبد المنعم تعيلب

تاريخ النشر الثلاثاء 17-مارس-1970

مشاهدات 734

نشر في العدد 1

نشر في الصفحة 18

الثلاثاء 17-مارس-1970

سير المرسلين عبرة، وأنباء خاتم النبيين تثبت الفؤاد وتقوي اليقين، وما أحوجنا إلى زاد يرد إلى النفوس سكينتها ويأخذ بید الحائرين إلى صراط الله المستقيم. وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست الأولى في هجرة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فمن قبل هاجر نوح ونجاه الله ومن معه وترك الجاحدين يتمرغون في اللجج والطين، وهاجر من بعده إبراهيم ونجاه الله ولوطا إلى الأرض المباركة، وأهلك الله الظالمين، وأمر لوط بعد تواطؤ قومه على الجريمة والفحش أن يرتحل عن القوم الفاسقين وما إن هاجر عليه السلام حتى جعل الله عالي ديار المجرمين سافلها.

 

رسول ليس بدعا من الرسل

إذن فلم يك رسول الله بدعا من الرسل، وإن كان قد استبعد بادئ ذي بدء أن يعمل قومه – وهو المصدق فيهم والأمين، استبعد أن يقصوه عن وطنه مهوى نفسه. وذاك يوم نزل عليه الوحي بأول آيات من كتاب الله، وذهب إلى ورقة بن نوفل ابن عم خديجة رضي الله عنها، وكان يقرأ التوراة ويومها قال ورقة للنبي: أبشر فهذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى.. ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.. والنبي صلى الله عليه وسلم حمل أمانة دعوة الأنس والجن إلى الإيمان بالله والتمسك بكتابه، فلاقى صدودا وصدا. وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يستعد ويعد للهجرة قبلها بعشر سنين.

 

 التعرض للحجاج

نقل الحفاظ الراسخون أن النبي لبث عشر سنين يوافي الموسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم وفي المواسم بعكـاظ ومجنة وذي الحجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة. فلا يجد أحدا ينصره ويقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا..

ويعرض على الناس أن يتعهدوا بإيوائه ونصرته ويناديهم: من يؤمّني ومن يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي.. فلا يظفر بأحد يؤويه. حتى إن الرجل ليرحل من مصر أو اليمن إلى ذي رحمة فيأتيه قومه فيقولون له: "احذر غلام قريش لا يفتنك". ويمشي بينهم يدعوهم إلى الله ومن خلفه كفار قريش يقولون: لا تسمعوا له إنه صابئ إنه كذاب.

هكذا مكث رسول الله بضع سنين يبحث عمن يقبلون هجرته ونصرته فما لاقى إلا سخرية واستهزاء، لكنه ظل حفيظا على دعوته، معتزا بنور الله الذي آتاه، مستعلنا بالحق الذي جاءه مستجيبا لأمر الله الذي يهيب به.

﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾. ( سورة الحجر: 94).

وعلم الله العليم الخبير أن الحق الذي يحمل لواءه سيواجه خصوما الداء. فليقرع بنذره أسماعهم وذلك قول الله سبحانه ﴿وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾ (مريم:97)

 

عبرة من صبر الرسول

فهل آن للمسلمين اليوم أن يتلقوا هذا الدرس عن نبيهم وأن يعرضوا حقهم عرضا صابرا مستبشرا واثقا من وصول هذا الهدى إلى القلوب مهما طال المدى وأرجف المبطلون.

 قديما تواصى المشركون بالتثبت بأصنامهم خشية أن تصرفهم دعوة التوحيد عن إفكهم

﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ ( الفرقان: 42 )

وتجمعوا على أباطيلهم يلتمسون استمرار زيفها

﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ ( ص: 6 )

واليوم يأتمر أبناء صهيون والصليبيون وعباد الوثن والملحدون.

﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ (الصف: 8).

فماذا أنتم فاعلون؟

قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. ﴿تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ ( محمد: 7 )

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ﴾ (يوسف: 21 )

﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد: 17).

واعتبروا بما قضى الله لنبيكم بعد سبع سنين من تلمس الإيواء والنصرة..

السابقون من أهل يثرب

في الموسم التالي للسبع الشداد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الخزرج فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا ثم رجعوا إلى الإسلام فدعوا أهلهم إلى الإسلام فاستجابوا ولم يمض عام حتى لم تبق دار من دورهم ألا وقد دخلها الإسلام.

 

بيعة العقبة الثانية

يروي جابر ما كان بعد دخول نور الإيمان إلى قلوب السابقين من أهل المدينة فيقول: اجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحلنا إليه حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدنا بيعة العقبة فقال له عمه العباس: يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك.. هؤلاء أحداث. فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فقمنا نبايعه فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين فقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك؛ فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها. فبايعهم رسول الله وانصرفوا إلى المدينة وبعث معهم عمر بن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ويدعوان إلى الله عز وجل..

 

 

عاقبة الصبر

 أرأيت كيف تكون عاقبة الصبر؟ وكيف يجيء بعد الضيق الفرج؟

محمد الذي ظل عشر سنين يسعى ويتلمس أذنا سميعة، يسعى إليه عشرات الرجال يعرضون عليه أن يشترط لنفسه ولربه ما يحب؛ فلا يقبل الرسول منهم معاهدة على نصرته وحمايته فقط، وإنما يطالبهم بالنهوض بالمثل العليا والبذل من أجل الحق والخير على كل حال. والأخذ بيد الإنسانية إلى مدارج الكمال، وزودها عن مراتع الشر والهلكة وحراسة منهاج الله من كل عاد من قريب أو بعيد وليس لكل هذا من ثمن سوى الجنة!

﴿أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (سورة الأنعام: 90).

بايع ربك وعاهد نبيك على أن تسمع لله وتطيع فيما خف على نفسك أو ثقل عليها، وفيما تنشط له أو تكسل عنه، وأن تجود مما استخلفك الله فيه من نعمة ومن مال قل أو كثر، وتنفق لحمايـة الأوطان، وصيانة الأعراض. واستنقاذ الحرمات على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وتأمر دائما بالمعروف. وتنهى وتزجر وتصد عن المنكر. وتقف حاميا لحدود الله وشرعة الله لا يثنيك عن ذلك تثبيط المثبطين.

 

تجديد البيعة

 ذلك الدين القيم فأحيطوا به من جميع جوانبه ولا تأخذوا من الدين بعضا وتعرضوا عن بعض فتجزئته وتشقيقه لا تغني أصحابها في الدنيا ولا في الأخرة. وعلموا المنتسبين إلى الإسلام والمتجافين عنه أركان التبايع مع الله حتى يكونوا على بصيرة ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال: 42).

واحملوا هذا الإسلام الشامل الكامل الوافي إلى من يلونكم حتى تورثوهم الدين صافيا ناصعا واضحا كما ورثناه، فقد تركنا رسول الله على المحجة البيضاء والطريق الواضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

واقدروا الأمانة حق قدرها وتدبروا ماذا عليكم حين تقدمون على حملها.

 

الدعوة والدعاة

إن أصغر السبعين الذين بايعوا رسول الله أمسك بيد النبي قبل أن تمتد إلى يد أي منهم لينبه قومه إلى تكاليف البيعة، وبحكمة وفكر ثاقب وبصر بالعواقب يستكشف ما يستتبع هذا الموثق. إن إخراج النبي يعني الخروج على إجماع العرب، وكسر الطوق والأغلال كبلوا بها أهل الإيمان، ولن يسكت هؤلاء عنكم حتى يعملوا السيوف في رقابكم. فإن رضيتم بكل تلك التضحيات فامضوا بيعتكم واستبشروا بمثوبة الله لكم. وإن خشيتم أن تضعفوا عن الوفاء، فتنحوا عن الطريق منذ الساعة.

 ما أبرك الداعية والمدعوين. داعية يبين الحق وإن كان ثقيل العبء لا يكتم منه شيئا. والمدعو حصيف منصف يزن الأمور بعقله، ثم يعقد على الوفاء بها عزمه، ثم يفوض إلى الله عاقبة أمره ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ (الروم: 4).

ونشط أصحاب البيعة الأولى وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فكثر الإسلام بالمدينة وظهر وأقيمت شعيرة الجمعة، وأسلم على يدي عمرو ومصعب بشر كثير ووافى الموسم الثاني جمهور غفير من الذين يريدون أن يوثقوا عهدا مع الله على أيدي رسوله أنهم سيفتدون دينهم بالمهج والأرواح. وتسلل إلى النبي ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان فبايعوا الرسول خفية على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. ولما تمت البيعة استأذنوا رسول الله في أن يميلوا على أئمة الكفر بأسيافهم فلم يأذن لهم في ذلك، وانصرفوا راجعين إلى المدينة.

الإذن بالهجرة

عندئذ أذن رسول الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة فبادر الناس، وكان أول من خرج أبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة لكنها احتبست دونه ومنعت من اللحاق به سنة وحيل بينها وبين ولدها ثم خرجت بعد السنة لولدها إلى المدينة.

 

المؤامرة

فلما رأى المشركون ما آل إليه أمر المؤمنين من البأس والمنعة، وأحسوا أن محمدا يوشك أن يلحق بأنصاره وأجناده فلا يقدرون على صده بعد ذلك أبدا، فكروا في إحكام خطة للتخلص من هذا الخطر الذي يهدد كبرياءهم، ويكشف ضلالهم، ويذهب ريحهم.

واجتمعوا لاختيار واحدة من ثلاث: إما أن يطرد محمد حتى يصيب من غيرهم ويصيب غيرهم منه وتستريح قريش، وإما أن يحبس حتى يموت ويحال بينه وبين نشر دعوته، وإما أن يختار من كل قبيلة فتى ويحمل الفتية على محمد بسيوفهم فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر أهله على المطالبة بدمه والأخذ بثأره.

وأقروا فكرة الإجهاز على حياة النبي وحددوا لذلك موعدا وظنوا أنهم يقدرون على إنفاذ ما توسوس به شياطينهم. ولكن هيهات أن يمكنهم الله من حبيبه ومصطفاه؛ فإن عين الله لا تنام والله يسمع ويرى ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ (الزخرف: 79، 80).

 

أوحى الله إلى نبيه بما ابرموا وبما أبرم الله تعالى له:

﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30).

 

عظة وعبرة

وهكذا يعلمنا الله الحكيم العليم أن له قوانين يمضيها في الخلق ما تتخلف؛ يمهل الله الظالمين، ويمد للضالين، حتى إذا عقوا عما نهوا عنه نكل بهم ورد كيدهم الى نحورهم، ونجي أحبابه وأجناده مصداقا لوعده الكريم: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 103)، فحققوا معنى الإيمان فيكم ﴿يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ (الكهف: 16). ولا يحزنكم تآلب أهل الشر والبغي عليكم ما دمتم أجنادا للحق وأنصارا له ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ (النساء: 139).

ولن يذر الله الفجار والأشرار يطمسون طرائق الهدى. لا، بل يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

فاستعينوا بالله على ملاقاة أعداء الله، ولا تتخلوا عن حماية لواء الله وحرمات الله ونصرة الشريعة التي جاء بها صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم، وثقوا أن الله من نصره، وإن قصر الناس عن حراسته ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 40).

الرابط المختصر :