; آه.. لو فقهنا الدرس | مجلة المجتمع

العنوان آه.. لو فقهنا الدرس

الكاتب د. عادل شلبي

تاريخ النشر السبت 16-مارس-2002

مشاهدات 9

نشر في العدد 1492

نشر في الصفحة 46

السبت 16-مارس-2002

على مشارف قريتنا وفي نهاية يوم الخميس من كل أسبوع، اعتدنا أن نقف مع باقي الأطفال ننتظر القادمين من السوق الأسبوعي محملين بالبضائع.. باع منهم من باع واشترى منهم من اشتری.. کسب منهم من کسب، وخسر منهم من خسر، قدم بعضهم سعيداً وعاد بعضهم منكسرًا حزينًا.

واليوم وبعد عشرات السنين رأيتني أقف لأرى الحجيج وقد عادوا من رحلتهم الكبرى.. وأرى في عيونهم تلك التعبيرات التي كنت أراها في عيون العائدين من السوق.. منهم فرح بما كسب من رضا الله ومغفرته فهو عائد كيوم ولدته أمه، فمطعمه حلال وملبسه حلال.. ولقد كان في حجه صابراً محتسباً، فلمْ يرفث ولمْ يفسق ولم يجادل، فهو عائدً من ضيافة ربه فرحاً متهللاً وكأنه - باذان قلبه - سمع الرحمن يقول له: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، غير مأزور.

والآخر عائد مهزوماً نفسياً «فلا أرضًا قطع ولا ظهراً أبقى» أنفق ماله ويذل جهده ولكنه عاد محمّلاً بأوزاره وأوزار مع أوزاره، فهو في حجه لم يكُف عن الجدال، ولم ينته عن الفسوق، ولِم يتحر النية، ولم يتحر الحلال في ماله، ولم ينق قلبه من أمراض القلوب.. فكأنه يشعر بيديه وقد ردتا إليه خائبتين بعدما رفعهما ملبيًا. وكأنه سمع صوتا يهز كيانه وحده -بين الباكين الخاشعين المتذللين- يقول له:

لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مأجور.

فهذا خسر وقته، وجهده وماله. ذهب مع الذاهبين ولكنه كان يحمل حقده وضغينته وتفاخره بمنصبه وجاهه، ثم عاد مع العائدين وهو ما زال يحمل ما كان يحمل، ويعتز بما كان يعتز، ويتفاخر بما كان يتفاخر به، ويصر على ما كان يفعل من معاص، ويحلم بالعودة إليها، ويتباهى بقدرته على الغش والخديعة والتلاعب، ونصب الفخاخ، والإيقاع بالآخرين، والطعن من الخلف.

فيا ليتنا فقهنا حكمة الحج ومشروعيته.. فهو لم يُفرض لكي يذهب الناس ليُعذبوا نفسيًا وجسدياً بين طواف وسعي ورمي، ووقوف على الجبال، ومبيت في الصحراء، ولا لكي ينفقوا أموالهم في تنقلهم وإقامتهم.

ولكنه مؤتمر سنوي عام لكل مسلمي العالم يأتيه مندوبون من كافة الأقطار ليجددوا البيعة لهذا الدين ويجددوا الانتماء له ويجددوا الولاء لهذا المكان، ولهذه الرسالة وليعلنوا لأنفسهم وللعالم أنهم ومن خلفهم من المسلمين سائرون على نفس الخطى التي سار عليها رسولهم الكريم سائرون على نفس الخطى الحسية والمكانية، وعلى نفس الخطى النفسية والمعنوية.. وليقتبسوا الهدى والنور من التبع الأول للهدى والنور، ومن المحضن الأول للرسالة والرسول، وليعودوا بعدها سفراء إلى بلادهم وإلى ذويهم «ليسيروا على هدى ذلك النور الذي اقتبسوه» حتى المؤتمر المقبل من العام القادم، وهكذا كان الحجيج من الرعيل الأول يذهبون إلى هناك ليتعلموا المزيد عن الإسلام ويجددوا البيعة على الثبات عليه، فكان النبي «يقابل الوفود هو وأصحابه فيسألون ويناقشون ويبايعون، ثم يعودون إلى بلدانهم سفراء لهذا الدين».

فهل شعر حجيج اليوم بهذه المعاني؟ هل شعروا بأنهم وهم قرابة الثلاثة ملايين لابد أن يعودوا بعد الحج أحسن مما ذهبوا إليه وأتقى؟ هل شعروا بأنهم لابد أن يتمسكوا بما اختلج في قلوبهم من معانٍ وأحاسيس وروحانية وشفافية عائقتها أرواحهم في هذه الرحلة؟! هل شعروا بأنهم لابد أن يتمسكوا بالدين وتعاليمه ويعضوا عليه بالنواجذ لأن من خلصت حجته منهم عاد كيوم ولدته، أمه فلا بد أن يتمسك بهذه الفرصة، فلقد محيت ذنوب عشرات السنين! هل شعروا بأنهم كانوا سفراء لمن لم يكتب لهم الحج ليعودوا لهم محمّلين بمعان جديدة وبدفعة جديدة نحو الإيمان الصادق! هل شعروا أنهم لابد أن ينتشروا بين الناس مصححين ما فسد، مذيبين ما تراكم على القلوب من ران ليأخذوا بأيدي الناس نحو ما شعروا به من سمو الروح وشوق للجنة؟!.

لو فقهنا ذلك ما كنا قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، فالعام تلو العام، والحج بعد الحج، والعمرة بعد العمرة، والسفراء بعد السفراء، وما تغَيرنا ولا غيرنا ولا تأثرنا ولا أثَّرنا.. ولكن للأسف.. أفواج ذهبت للحج، أفواج تطوف، وأفواج تسعى، وأفواج تتدافع، وطائرات تنقل الحجيج، وسيارات وحافلات وبواخر.. حالة طوارئ واستنفار في أجهزة الأمن والمطارات ومواقف السيارات.. جوازات سفر وتأشيرات وموافقات، وشيكات ومراسلات.. أفواج بالملايين، ونفقات بالمليارات، ولكن! واه من لكن! لكنها القلوب.. قلوب شتى، مختلفة ومتخالفة، جامدة غير متآلفة، وانقسامات وعرقبات، وطبقيات ومحسوبيات، وحُفر يحفرها الأخ لأخيه، وفخاخ ينصبها الزميل للزميل، وأحقاد يحملها الجار لجاره.. ومن كان غير هؤلاء وهؤلاء فهو تائه غافل لاه عما يحدث لدينه ووطنه، لا يهمه النار التي تحوم حول بيته وولده، لا يدري بل لا يجهد نفسه أن يحاول أن يدري أن النار -يومًا- أكلته وولده وبيته.

أه ثم أد.. آه لو تلاحمت قلوبنا.. أه لو أزيل الران من عليها.. آه لو صفت النفوس.. أه لو خلصت النوايا.. آه لو تحررنا من جاذبيتنا للأرض وعلاقتنا بالطين.. اه لو سمت الأرواح.. أه لو ذابت الشحوم في سبيل الله، اه لو تعانقت الأرواح بدلاً من تعانق الكروش، آه لو خفقت بالحب القلوب.. أه لو فقهنا درس الحج، والعبرة من الحج، واه لو عملنا بما فقهنا، وتحرينا عمّا جهلنا، لعدنا كما كنا: خير أمة أخرجت للناس.

 

الرابط المختصر :