العنوان أثر التربية الإسلامية في مكافحة الجريمة (الحلقة الأولى)
الكاتب الأستاذ محمد قطب
تاريخ النشر الثلاثاء 26-أكتوبر-1976
مشاهدات 11
نشر في العدد 322
نشر في الصفحة 14
الثلاثاء 26-أكتوبر-1976
- مقدمة: وسائل الإسلام في منع الجريمة
إن الإسلام نظام شامل ومن عظمة هذا النظام أو من إعجازه أنه يحيط بكل أمر من أمور الحياة إحاطة كاملة، والجريمة والعقاب موضوع من الموضوعات التي يعيشها البشر والتي يعالجها الإسلام وهو كعهدنا به يحيط بهذا الموضوع من جميع جوانبه، ولعل الإسلام هو النظام الوحيد الذي عرفته البشرية الذي يعمل على منع الجريمة قبل وقوعها لا على معالجتها بعد أن تقع.
كما تصنع النظم البشرية التي نسميها أو كما سماها الله- سبحانه وتعالى- النظم الجاهلية لأن الله يقول ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50)
- فيقسم الحكم إلى نوعين- حكم الله- وحكم الجاهلية.
فالأحكام والنظم التي يضعها البشر لأنفسهم بعيدًا عن منهج الله هي في تسمية الله سبحانه وتعالى، نظم جاهلية- فالنظم الجاهلية في موضوع الجريمة والعقاب تهتم بمعالجة الجريمة بعد أن تقع أكثر مما تهتم بمنع حدوثها، أما الإسلام فهو لا يبدأ بالتفكير في العقوبة إنما يبدأ بالعمل على منع الجريمة أو تضييق نطاقها، وله في ذلك وسائل كثيرة التربية من بينها؛ أو نستطيع أن نقول إن التربية من أهمها، ولكن كما قلت أحب أن أعرج تعريجًا سريعًا على تلك الوسائل التي يستخدمها الإسلام لمنع الجريمة أو لتحديد نطاقها. إن الإسلام يعالج الأمر من جميع جوانبه.. من الجانب السياسي.. من الجانب الاقتصادي من الجانب الاجتماعي من الجانب الفكري من الجانب الروحي من الجانب التربوي، لا يدع الإسلام ثغرة واحدة يمكن أن تنفذ الجريمة منها؛ ومن جراء ذلك نرى کواقع تاریخي أن المجتمع الإسلامي هو أقل مجتمعات البشرية جرائم؛ وحتى حين انحرف المسلمون عن المعنى الشامل للإسلام؛ عن التطبيق الشامل للإسلام؛ بقي المجتمع الإسلامي رغم الانحرافات التي وقعت فيه أقل مجتمعات العالم جرائم، وهذا بسبب أن الإسلام ينفذ إلى الأمر من جميع جوانبه ويعمل عملًا واقعيًا لمنع الجريمة أو تضييق نطاقها.
نقول سريعًا عن جريمة السرقة مثلًا إن الإسلام يضع لها حلًا رادعًا هو قطع اليد، ولكن هذا ليس هو مبدأ الطريق إنما هذه نهاية للطريق، أما مبدأ الطريق فهو أن يربي إنسانًا مسلمًا ينفر من جريمة السرقة، وهذا سنتحدث فيه تفصيلًا. ثم يضع منهاجًا اقتصاديًا يكفل للإنسان المسلم من كسب الحلال الطيب- من کسب بیده أو من كفالة المجتمع المسلم له أو من كفالة بيت المال.. فلا يحتاج بعد ذلك إلى جريمة السرقة، فإذا ارتكب الجريمة وهو غير معذور، فعندئذ تطبق عليه هذه العقوبة الرادعة الشديدة وهي قطع اليد.
ولكن الإسلام حتى وهو يقدم هذه الحلول الاقتصادية والاجتماعية التي تمنع حدوث جريمة السرقة، لا يسارع إلى قطع اليد في الجريمة التي تقع، حتى ينظر في كل جريمة مفردة؛ هل صاحبها معذور أم غير معذور.
وادرأوا الحدود بالشبهات، ولأن يخطئ الإمام بالعفو خير من أن يخطئ بالعقوبة، هذا لون من ألوان معالجة الإسلام للجريمة قبل أن تقع ليمنعها.
منها جريمة الزنى مثلًا- يحتاط الإسلام لها لكي لا تقع؛ فيحث على الزواج المبكر ولا يجعل هذه الدعوة دعوة نظرية، إنما يكفل لها من الحلول الاقتصادية ومن كفالة الأسرة ومن كفالة بيت المال ومن التوجيه الاجتماعي والروحي ما يجعل الشاب يقدم على الزواج المبكر قبل أن تحدثه نفسه في جريمة «الزنى»، فلا يحتاج إذا ما دام الطريق الشرعي مفتوحًا ثم يضع حلًا لذوي الطبائع غير العادية الذين قد لا يكفيهم زواج الواحدة؛ يضع حلًا إضافيًا في إباحة الزواج بأكثر من واحدة حتى يقفل باب الجريمة من جميع جوانبه، ونحن نعلم من حياة أوربا المعاصرة التي أبت أن تأخذ بتشريع تعدد الزوجات أنها تبيح زوجة واحدة شرعية وعشرات من الزوجات أو الخليلات؛ أو سموهن كما تسمونهن غير شرعيات، أما الإسلام بواقعيته ونظافته؛ فإنه ينظر إلى هذا الأمر بعين الجد، ويعرف أن هناك طبائع قد لا تكتفي بزوجة واحدة يعطيها هذا الباب الإضافي لكي يمنع الجريمة منعًا باتًا، وهو مع ذلك مع أنه يعمل على منع الجريمة قبل أن تقع ويشدد العقوبة على المجرم غير المعذور حين يرتكب جريمته، فإنه كما رأينا في السرقة لا يسارع في تطبيق العقوبة حتى يتأكد أن هذا الذي ارتكبها غير معذور على الإطلاق، فإذا كانت هناك شبهة فالشبهة تدرأ الحد؛ وهكذا.. إذا تتبعنا كل الجرائم وكل العقوبات نجد أن الإسلام لا يسارع إلى تطبيق العقوبة معًا إنما يعمل أولًا على تهيئة الظروف التي تمنع حدوث الجريمة أو تضيق نطاقها إلى أضيق الحدود.
- - التربية الإسلامية وأثرها في مكافحة الجريمة:-
الإسلام في الواقع هو التربية.
فإن الإسلام لا يكون له واقع منظور مشهود إلا بتربية أفراد المجتمع على تلك المعاني وعلى تلك القيم وعلى تلك المبادئ التي نزلت من السماء؛ سواء في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة- يظل ما في القرآن وما في السنة شعارات وقيمًا نظرية حتى تطبق في واقع الأرض والسبيل إلى تطبيقها هو التربية- وكان الجهد الأكبر الذي بذله الرسول- صلى الله عليه وسلم- في مكة أولًا ثم في المدينة بعد ذلك، هو جهد التربية مع الدعوة، لم يكتف الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأن يقول هناك إن الله يأمركم بكذا ويدعوكم لكذا، إنما جاهد جهاده الطويل في تربية فئة من الناس تترجم هذه القيم وهذه المبادئ واقعًا عمليًا مشهودًا، وأودع في هذه الأمة تلك العقيدة أنه لا يكون للإسلام واقع منظور ومشهود إلا بتربية الناس على هذا الدين وإلا بقي الأمر شعارات نظرية بعيدة عن التطبيق.
فالطريق الأكبر الذي سلكه الإسلام هو طريق التربية وهدف هذه التربية إذا شئنا أن نحدده في إجمال؛ هو إنشاء الإنسان الصالح- التربية الإسلامية محددة الهدف هدفها تربية الإنسان الصالح؛ وفي هذا يختلف الإسلام عن كل النظم الأخرى التي نسميها نظمًا جاهلية، لأن الله هو الذي سماها بذلك؛ فكل النظم الأخرى تنص في ديباجتها على أن هدف تربيتها هو إنشاء المواطن الصالح، أما الإسلام فيهدف إلى إنشاء الإنسان الصالح؛ ولقد يتبادر إلى الذهن بادئ ذي بدء أنه لا فرق بين المواطن الصالح والإنسان الصالح، فالمواطن الصالح بداهة لا بد أن يكون إنسانًا صالحًا!!؟
ولكن هذا في الحقيقة وهم لا أساس له من الصحة، ولننظر في الجاهليات المعاصرة أو في أي جاهلية من جاهليات التاريخ؛ لنتبين الفرق بين المواطن الصالح والإنسان الصالح- ربما كانت التربية الإنجليزية قبل الحرب العالمية الأخيرة نموذجًا مثاليًا في التربية، لأنها أقرب ما تكون إلى التوازن الذي يهدف الإسلام إليه، ولكن هذه التربية التي كانت تعتبر مثالية بالنسبة لنظم التربية الجاهلية، والتي هدفها تربية المواطن الصالح من وجهة التربية الإنجليزية، فلننظر إلى هذا المواطن الصالح ونقيسه بالمقاييس الإسلامية لنرى إلى أي مدى يقترب أو يبتعد عن الإنسان الصالح.
إن المواطن البريطاني قبل الحرب- وأنا أكرر وأصر على قبل الحرب لأن الحرب الأخيرة أفسدت كثيرًا جدًا في المجتمع الأوربي وأزالت كثيرًا من نظمه الطيبة التي كانت فيه؛ فزادت الأمر سوءًا على سوء- ولكن نأخذ هذه التربية في أوجها حين كانت أعظم ما تكون وحين كانت تربي مواطنًا صالحًا يعتبر مثاليًا في الكرة البشرية، كيف كان سلوك هذا المواطن الصالح البريطاني حين يخرج من الجزر البريطانية ليسوس العالم في الخارج، كيف كان هذا المواطن الصالح في الهند وكيف كان في السودان وكيف كان في مصر محتلًا؛ وكيف هو في كل مكان وطئه مستعمرًا، أين ذهبت أخلاقه الطيبة التي كان يعيش بها في داخل الجزر البريطانية، وأين ذهبت مثاليته وأین ذهبت أمانته وأین ذهبت كل الأخلاقيات الفاضلة التي ربي عليها؟ هل تغير؟، أنا أرى أنه لم يتغير، لقد ربي على ذلك إنه لم يرب ليعبد الله -سبحانه وتعالى- ولم يرب على قاعدة إنسانية تحترم الإنسان بوصفه إنسانًا، إنما ربي على عبادة وثن يسمى بريطانيا العظمى؛ وهو في داخل بريطانيا العظمى يعمل لصالح هذا الوثن بالأخلاقيات الطيبة التي علمناها عن الإنجليز، وحين يخرج إلى المستعمرات فهو يعمل لمصلحة هذا الوثن أيضًا، لكن تختلف الطريقة فالنهب والسلب والسرقة واستباحة دماء الناس وأعراضهم وأموالهم هو من مصلحة ذلك الوثن الذي يسمى بريطانيا العظمى، فهو حين يصنع هذه الأشياء كلها لا يخالف طبيعته ولا يخالف ما ربي عليه في داخل الجزر البريطانية؛ لم يتغير لم يصبح إنسانًا آخر، إنما هو الوجه الثاني لذلك الإنسان لأنه يعبد وثنًا معينًا اسمه بريطانيا العظمى- وأذكر لكم حادثتين اثنتين تكفياننا عن الاستمرار في سرد مزايا أو عيوب هذه التربية الجاهلية.
الحادثة الأولى حدثت في الحرب العالمية الثانية في الصحراء الكبرى؛ حيث دارت معركة طويلة آيبة وذاهبة بين البريطانيين «أو الحلفاء» والألمان والتي انتهت بانتصار البريطانيين على الألمان في طبرق تم العلمين، وانتهت المعركة في إحدى هذه المرات بانسحاب الألمان من طبرق، ودخلها البريطانيون وكان الألمان محصنين طبرق بأربعة حقول ألغاء متوالية- ثم اضطرت الظروف الحربية الألمان إلى الانسحاب وطبيعي أنهم تركوا الألغام لتحدث أكبر قدر من الخسائر في الجيش الفاتح، الذي سيتسلم طبرق، وفي المعتاد أن تستعمل الجمال أو الحمير في الصحراء لتفجير الألغام حيث تطلق في حقول الألغام فتضربها بحوافرها فتنفجر معظم الألغام ويدخل البشر بأقل ما يمكن من الخسائر، وفي هذه المعركة بالذات وما تزال مرتسمة في ذاكرتي لبشاعتها- أمر الفيلق الهندي بأن يقتحم حقول الألغام بدلًا من الجمال والحمير ولا أعلم السبب إلى هذه اللحظة- أمر الفيلق الهندي والرشاشات في ظهره أن يقتحم حقول الألغام وهو يعلم أنها حقول ألغام؛ فكان مهددًا بالموت من أمام بالألغام ومن الخلف «بالرشاشات»، ثم انتصر الحلفاء «بريطانيا» ودخلوا طبرق وخرجت النشرة الحربية تقول انتصرنا، احتللنا طبرق، كانت خسائرنا طفيفة للغاية-، فني الفيلق الهندي عن آخره.
هذا نموذج للمواطن الصالح الذي ربي على عبادة وثن بعينه يخدم هذا الوثن بالأخلاقيات الفاضلة في الداخل وبالأخلاقيات الخسيسة في الخارج، وهو لم يتغير. وأما الصورة الأخرى صورة رأيتها- صورة فوتوغرافية لجندي بريطاني في الهند، خيال، يركب حصانه لا مستعينًا بالسرج ولكن له أخ في الإنسانية هندي، وهو يطأ ظهر الهندي ليعتلي صهوة جواده. وهذان المثالان يكفياننا في تقرير ما بين المواطن الصالح والإنسان الصالح من بعد شاسع جدًا. الإسلام لا يربي في حدود المواطن الصالح إنما يربي في حدود الإنسان الصالح، يتعامل مع الإنسان من حيث هو إنسان ويعمل على أن يصل هذا الإنسان في صورته التي خلقه الله عليها حين قال الله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ (التين: 4-5). فالإيمان مهمته أو آثاره أن يرد الإنسان إلى صورته الأولى التي خلقه الله عليها في أحسن تقويم، وهذا هو الإنسان الصالح- الإنسان الصالح الذي يربيه الإسلام ليس إنسانًا موضعیًا؛ لیس ذا أخلاق فاضلة في نقطة معينة في الأرض إنما هو محافظ على أخلاقه الفاضلة في كل مكان تطؤه قدماه في داخل المجتمع المسلم وفي خارجه، أيضًا في تعامله مع المسلمين، في تعامله مع أهل الذمة، في تعامله مع البشرية كافة، ولنذكر مثالًا في الواقع التاريخي يبين لنا هذه الحقيقة، أن الإسلام انتشر في أفريقيا جنوب خط الصحراء الكبرى، أي في وسط أفريقيا كله وفي آسيا ما وراء الهند- جنوب شرق آسیا- انتشر بغير قتال- وكيف انتشر ومن الذي نشره - نقول الدعاة المسلمين- نعم لقد كان للدعوة أثر وفضل ولكن معظم الفضل كان للتجار المسلمين ومعظمهم من التجار الحضارمة من أهل الجزيرة «العربية» سافروا في أقطار الأرض لا للدعوة إنما للتجارة، ولكن الإسلام انتشر في آثارهم- كيف انتشر وهم لم يذهبوا للدعوة، بل ذهبوا للتجارة- انتشر الإسلام حين رأى البشر من سكان هذه المناطق جمال الأخلاق الإسلامية، حين رأى آثار التربية الإسلامية، حين رأى النظافة نظافة الحس نظافة الروح نظافة الأخلاق نظافة الظاهر والباطن نظافة التعامل- هذا كان من آثار التربية الإسلامية، وهذا هو الذي حبب الناس للإسلام- قالوا إذا كان هذا الدين ينشئ هذه النماذج الطيبة من الإنسان فهو دين طيب فلندخل فيه وانتشر الإسلام في آثار التجار.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
هل بدأ الصراع بين البرهان والإسلاميين مع تراجع حميدتي.. أم تسعى قوى غربية للوقيعة بينهما؟
نشر في العدد 2181
32
السبت 01-يوليو-2023