; أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية.. بين التحلل والالتزام | مجلة المجتمع

العنوان أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية.. بين التحلل والالتزام

الكاتب نصر الدين العديلي

تاريخ النشر الثلاثاء 21-مارس-1972

مشاهدات 22

نشر في العدد 92

نشر في الصفحة 16

الثلاثاء 21-مارس-1972

· أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية

· بين التحلل.. والالتزام

بقلم الأستاذ: نصر العديلي

كثيرًا ما تطالعنا تحقيقات صحفية واسعة لأحداث تقع في العالم الإسلامي، تحقيقات يدل استيعابها لمعظم تفاصيل هذه الأحداث، على الجهد والإتقان اللذين بذلا في سبيل إخراجها للقارئ «المسلم»، عفوًا للقارئ الأوروبي، لأن مثل هذه التحقيقات لا تظهر إلا في صحافة الغرب وأجهزة إعلامه المختلفة، وكأنها هي المعنية فحسب بقضايانا ومشاكلنا! وصحافتنا وأجهزة إعلامنا خلوا من هذه التحقيقات، ولا تعالج مشاكلنا الحادة إلا ما ندر -وحتى هذا النادر غالبًا ما تنقصه الدقة- ولكن لماذا كل هذا الإهمال؟؟! لأن القارئ المسلم وغير المسلم في نظر هذه الصحافة لا يهمه من أمر مجتمعه الذي ينتمي إليه، وبلاده التي يحيا على ترابها إلا أن يقرأ عن المآدب الفاخرة والحفلات الساهرة.. ومات بطرس وانتقل إلى رحمته تعالى عبد الصبور، فتُليت الصلاة على روح الأول في «كنيسة كذا» وشيع جثمان الآخر من المسجد الكبير و«إنا لله وانا إليه راجعون»!

وعلاوة على ذلك، فالقارئ في العالم الإسلامي من وجهة نظر صحافته المحلية لا تهمه الأحداث الخطيرة في بلاده، لأنها تجلب له وجع الدماغ وتصرف نظره عن آخر صيحات الأزياء، والتي ما صُممت إلا لتناسب قوامة الجميل وعقله العبقري النبيل!! فلتنشر له إذن هذه الصحافة وغيرها من أجهزة الإعلام أطاييب الفكر التقدمي، وروائع المبتكرات في فن التجميل، وآخر ما توصل إليه العقل الباريسي من وسائل لهتك المستور وفضح المحظور! فهذا كله -بما يوحيه للنفس- كفيل بتطييب الجراح وإرجاع المقدسات وإيقاف المجازر في كل مكان من العالم الإسلامي!!

أما الأحداث الخطيرة والمشاكل المزمنة -أيها القارئ الألمعي والمواطن المخلص- فقد كفيت شر التفكير فيها، لأن غيرك فكر وقدر! ألم تسمع باجتماع الكبار والشطار؟؟ لقد اجتمعوا وبحثوا الموقف من جميع أطرافه، واتخذوا بصدده القرارات اللازمة، ولا حرج إذا لم يبق لك زاوية أو قرنة تبحث فيها، فحسبك زواياك ونتوءاتك، حسبك أن الغرب والشرق قائم على خدمتك! ألا ترى أن القـوم قد أجهدوا أنفسهم كي يظفروا برضاك؟ وأنهكوا عقولهم حتى يولدا لك «النظريات من بطون المتناقضات»؟ فما عليك إلا أن تحفظ نظرياتهم وتهتف لها حتى تظفر بما تريد! 

الثورية.. عاشت الثورية!

التقدمية.. عاشت التقدمية!

القومية.. عاشت القومية!

الإقليمية.. عاشت الإقليمية!

السلام.. عاش السلام!

الصهيونية.. عا.. عا.. لا.. لا.. لساني لا يقوى على النطق بها، لأنها!! 

لا بأس.. لا بأس فأنت متعب الآن.. أراك تترنح.. هل شربت كثيرًا؟؟ اشرب، اشرب أيها المواطن المخلص!

فما خلقت إلا لتجرع الكؤوس الواحد تلو الآخر!! وبالمناسبة هل جربت آخر المشروبات «الروحانية» الأمريكية الروسية؟ إنها «تطير النعاس من الرأس» كما يقول المثل العامي!! لكن لا عليك فغدًا تكتمل ثوريتك وتقدميتك فتتسنم ذرى المجد!! وعندها ستقوم على خدمتك جميع شعوب الأرض بلا استثناء، أجل بلا استثناء!! وستذرف إسرائيل تحت أقدامك الدموع حتى تجود عليها بالسلام والأمان!!

والآن سنزف إليك هذه البشرى السارة: لقد تم الاتفاق بين مجموعة من الصحف المحلية على أن تقوم بمطاردة عنيفة، للصحفيين والكتاب والمفكرين العالميين، وإنهم لو دخلوا في جحر ضب لاتبعناهم، أتدري لماذا كل هذا العناء؟؟! إن هذه الصحافة تريد أن تصنع منك مواطنًا في قمة الثقافة والمعرفة -فهذا واجبها- حينما تترجم لك ما يكتبه صحفيو العالم ومفكروه عن آخر تطورات قضية الشرق الأوسط باختصار شديد «قضية اللاجئين» وعن مذابح المسلمين في تشاد وإرتيريا، والفلبين، والهند، وزنجبار!! آه.. أنت متعب أيها المواطن المخلص وإننا لن نزعجك بهذه الكتابات والآراء المنقولة الآن، بل حتى ينتهي كل شيء!! فالحديث عندئذ سيكون شيقًا، لأنه سيخرج بأسلوب قصصي عن ماضٍ كان، وأنت بطبعك تحب كان وأخواتها، وما سيكون علمه عند ربي: ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ ﴾!!

هذا لسان حال صحافتنا وأجهزة إعلامنا -على امتداد الرقعة الإسلامية- وكل ما يستوحيه القارئ المسلم من الأساليب التي تتبعها في معالجة قضاياه ومشاكله.

ولا ندري إن كانت الأساليب المتبعة في معالجة قضايا الإنسان المسلم ومشاكله نابعة من الجهل بقضايا هذا الإنسان، أو نابعة من الخيانة لهذه القضايا أو نابعة من الاستهتار بعقل الإنسان نفسه، وأغلب الظن أن هذه الأسباب الثلاثة مجتمعة، هي الروافد الحقيقية للأساليب الصحفية والإعلامية المتبعة في عالمنا الإسلامي! وتعسًا لإنسان يسلك المعالجون لقضاياه ومشاكله أساليب الغش والجهل والخيانة!

وتجدر الإشارة هنا، بأنني لا أزعم بعدم وجود صحف في الوطن الإسلامي ترتفع لمستوى الأحداث وتعالجها بجدية وإخلاص، بل هذه الصحف موجودة بالفعل لكنها مكبتة بقيود لا نرى إلا أنها ستزول بعون الله.

وسواء بقيت هذه القيود أو زالت بالنسبة لهذه الصحف، فإن الإعلام على وجه العموم في رقعتنا الإسلامية، يبقى هزيلًا مضحكًا إن لم يتحول عن هذا الأسلوب المستهتر في معالجة قضايا أمتنا بشكل خــاص، والقضايا العالمية بشكل عام، وذلك حتى نطل على العالم بشخصية قوية متماسكة تفرض احترامها على الغير ومن ثم تستطيع التأثير على الأحداث المحلية والعالمية من وجهـة نظرها هي، لا من وجهة نظـر موحى بها من الآخرين.

ولعلنا بعد هذا الحديث المجمل عن الدور السلبي الذي تقوم به أجهزة الإعلام في عالمنا الإسلامي، نستطيع أن نتكلم بشيء من التفصيل عن قضايـا ومشاكل الإنسان المسلم، والتي ساهمت أجهزة الإعلام في خلق بعضها وتعقيد البعض الآخر!

إن الإنسان في العالـم الإسلامي -«والعرب» جزء من هذا العالم- يشعر بالإهانة والضياع لمجرد إدراكه أنه لا يشارك في صناعة الأحداث العالمية، ولا يساهم بحل ما يواجه العالم من مشكلات، بل يعيش على هامش الحياة الإنسانية! ويشعر هذا الإنسان بالخبال والضياع أكثر حينما يرى حتى الأحداث التي تدور في بلاده والتغييرات التي تجري فيها من صناعة غيره، وما دوره في هذه الأحداث إلا كدور مسحور واقع تحت تأثير قوة شيطانية لا ترحم!!

§ إن هذا الإنسان يشعـر بالخزي من نفسه، حينما يدرك أن أجهزة إعلامه لا ترى فيه إلا إنسانًا جنسيًا متهافتًا، لا هم له إلا إشباع نزواته وغرائزه، وذلك من خلال ما تعرضه هذه الأجهزة من موضوعات لا ترتفع عن هذا المستوى إلا في القليل النادر!!

§ إن هذا الإنسان يشعـر بالعدمية واللاانتماء حينما يدرك أنه مجرد هتاف -بتشديد التاء- بشعارات مملة لا مدلول لها، ويصحو في بعض الأحيان على أحداث خطيرة تهز كيانه: كضياع فلسطين أو تجزئة باكستان، فيتلفت حوله يريد تفسيرًا.. كيف حصل هذا وما سبب ذلك؟؟ فتجبهه إجابات مضحكة -وشر البلية ما يضحك- مثل: هذه إرادة الأربعة الكبار، وماذا يمكننا أن نفعل -ونحن لا حول لنا ولا قوة!- أمام صواريخ أمريكا وروسيا ودهاء بريطانيا وطمع فرنسا؟؟!

§ إن هذا الإنسان يكاد ينفطر قلبه وهو يرى الدعاية والإعلانات الواسعة للبضائع والمصنوعات الأجنبية، ولا يرى بينها دعاية واحدة لمصنوعات بلاده، لأنها قفر من الصناعات المهمة أولًا، ولأن هناك أيضًا من يخطط أن تكون بلاده سوقًا استهلاكية فحسب، يلتهـم محتكروها كل موجوداتها من النقد النادر!!

§ وعلى العموم فهذا الإنسان يكاد يختنق من هذه الأجواء الفكرية الملوثة بكل تافه مدخول، وإنه يتوق لأن يتنفس في أجوائه الفكرية الأصيلة ويستلهم مقوماته الحضارية والروحية، وكلما حاول تحقيق أمنيته هذه حالت بينه وبينها عصابة من المشعوذين -أطلقوا على أنفسهم كتابًا وأدباء وشعراء ومفكرين- وذلك بتفاهات ينقلونها من هنا وهناك مصحوبة بسيل الشتائم البذيئة، إذا لمست من هذا الإنسان رفضًا لبضاعتها المسروقة وميلًا أكيدًا لتراثه العظيم، كل هذا وغيره تقوم به عصابة المشعوذين ضمن خطة «موضوعة» الهدف منها زعزعة القيم والمثل العليا لأمة الإسلام من جهة، وإقامة هوة سحيقة بينها وبين الغيورين من أبنائها من جهة أخرى، حتى يسهل على من وظفوا هذه العصابة التهام خيرات بلاد الإسلام، وتسخير أبنائها لتنفيذ مخططاتهم وخدمة مصالحهم.

§ إن الإنسان المسلم مدرك لتفاهة هذه العصابة ومنقولاتها الفكرية.

§ ولكن الشيء الذي يبقــى عاجزًا عن فهمه ولا يجد له تعليلًا منطقيًا هو سيطرة هذه العصابة على معظم أجهزة التوجيه الفكري والثقافي في العالم الإسلامي، كالصحافة والتليفزيون والإذاعة، وسيطرتها كذلك على معظم مراكز التعليم، كالمدارس والجامعات والنوادي والجمعيات المنتشرة في طول بلاد الإسلام وعرضها!!

ولسنا بحاجة للكلام عن المستقبل الضائع الذي ينتظر هذه الأمة إن بقيت مراكز توجيهها وتعليمها تحت سيطرة هذه العصابة، لأنه سيكون امتدادًا لحاضرها البائس.

§ ولا بد والحالة هذه من حل تتبناه الأمة الإسلامية -حكامًا ومحكومين- لكي تتخلص من بؤسها وضياعها الحاضر، ومن ثم تخطط لبناء مستقبلها الزاهر. 

§ وأولى خطوات هذا الحل تبدأ بتنحية المشبوهين عن مراكز التوجيه، حتى يتسلمها أصحاب المروءة والشرف «أي رجال يخافون الله»، يبادرون بالعمل على سد الفراغ الفكري والروحي الذي يعاني منه الإنسان المسلم في هذا العصر المضطرب، هذا الفراغ الذي جعل ويجعل منه مرتعًا خصيبًا لكل فكر فاسد دخيل.

§ وسد الفراغ الفكري والروحي لا يتم -بطبيعة الحال- إلا بتقوية الإيمان -بالله سبحانه وبرسوله صلى الله عليه وسلم- الذي يقود بالضرورة إلى التمكين لأفكار الإسلام ونظمه وأخلاقه أن تحكم حياة الناس وتصرفاتهم، وتهيمن على عقولهم وقلوبهم.

§ وإنه لا أيسر ولا أصدق من الإسلام كي يقوم بهذا الدور العظيم، فينهي شقاء أمتنا، وذلك بما تتمتع به أحكامه من وضوح وملاءمة للفطرة البشرية السليمة، يشهد بذلك سرعة تقبل العقل لجميع مقولاته وسرعة ارتقاء الإنسان إلى آخر درجات الكمال المقدر له، إذا ما آمن بهذه المقولات وعمل بوحي من إرشاداتها.

§ إنه لا يعوزنا الدليل على صحة هذا القول، فالشواهد عليه من تاريخ أمتنا كثيرة، هذه الأمة التي كانت قبل الإسلام تحيا في جاهلية عمياء، ولا وزن لها بين الأمم، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالاسلام فأنقذها بهذا الدين من ضلالاتها ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾.

وفي أقل من نصف قرن من اعتناق هذه الأمة للإسلام، أصبحت سيدة الدنيا وحادية الركب الإنساني في معارج التقدم والكمال.

§ وستعود لهذه الأمة -بعون الله- سيادتها وقيادتها للدنيا من جديد، إن هي أخذت بمقومات القيادة التي بينها الله سبحانه في محكم تنزيله فأخذ بها السلف الصالح ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ﴾.

هذه هي المقومات التي نهضت أمتنا بتكاليفها، فوصلت إلى ما وصلت إليه وكانت خير أمة.

وهذه المقومات ذاتها التي يجب أن ننهض بتكاليفها، حتى نكمل مسيرة الخير التي ابتدأهـا أجدادنا فنصل طارف مجدنا بتالده.

§ وإننا إن صدقنا فلن يكلنا الله لضعفنا، بل سيهيئ لنا الأسباب ويعيننا على تذليل الصعاب ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ﴾.

§ هناك حقيقة أود التذكير بها قبل نهاية هذا المقال، وهي أن الرجوع للإسلام بمجموع حياتنا ليس نافلة تمليها علينا ظروف معينة، ولا جناح على من تركها بعد زوال هذه الظروف، بل الرجوع إلى الإسلام واجب مقدس تمليه علينا إرادة الله، الذي يحب الخير لعباده ولا يريدهم أن يسيروا في متاهات الطاغوت: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾، فأقبلوا أيها الناس على دين الله، فكفاكم حيرةً واضطرابًا، كفاكم خبالًا وضياعًا، كفاكم ذلًا ومهانةً، أقبلوا ولا تتريثوا ولا تسوفوا فيتخطفكم الشيطان: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ﴾. 

 

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

لم كل هذه الحرب؟

نشر في العدد 2

38

الثلاثاء 24-مارس-1970

حدث هذا الأسبوع - العدد 11

نشر في العدد 11

39

الثلاثاء 26-مايو-1970