العنوان أذان.. وبلاغ.. وتلبية.
الكاتب إيمان مغازي الشرقاوي
تاريخ النشر الجمعة 01-سبتمبر-2017
مشاهدات 13
نشر في العدد 2111
نشر في الصفحة 22
الجمعة 01-سبتمبر-2017
التفكير في الحج يملأ بالشوق والحنين ويدفع للدعاء الصادق ليكون من أصحاب تلك الرحلة الربانية
ها أنا يا الله سأجيب نداءك على الدوام ساعياً لرضاك خاضعاً ذليلاً
التلبية بكلماتها المعدودة قاموس تربوي عجيب إذا ما فهمها الحاج وصدّق بها
سبَح بفكره وسرح بخياله إلى عالم يسيح فيه بجسده وروحه دون أن تشغله الدنيا بزينتها وزخرفها، يسير فيه مستقيماً لا يلتفت إلى قطّاع الطريق المتربصين به المنتظرين منه التفاتة إلى الوراء حيث هم دائماً يثبّطون ويسحبون ويقهقرون، لكنه لم يلتفت لذلك ومضى في طريقه طالباً من الله العون والسداد والقبول والثبات.
لقد كانت روحه دوماً ترتجف بمجرد رؤية ذلك القماش الأبيض الذي يذكره بالموت والموتى ويأخذه إلى عالم الموت والفناء! فما باله اليوم به مستبشر، يمسك به وهو فرح مسرور، قد علا البشر محياه واستضاء وجهه واستنار كأنه فلقة قمر!
إنه في طريقه للاستعداد لرحلة عظيمة يقدم عليها راضي النفس، فلطالما دعا ربه أن ييسرها له، وما زال إلى تلك اللحظة يضع القرش على القرش والدرهم مع الدرهم والدينار فوق الدينار ليجمع نفقات تلك الرحلة التي لا نظير لها في عالم السياحة، ولا مِثل لها في المتنزهات والحدائق والمنتجعات، ولمَ لا تكون عظيمة وقد أمر الله نبيه إبراهيم عليه السلام أن ينادي في الناس داعياً إياهم للذهاب إليها فقال له: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27})(الحج)، فأجاب إبراهيم وأذَّن في الناس مبلغاً: «يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك» (تفسير ابن كثير)؟
إن مجرد التفكير في ذلك يملؤه بالشوق والحنين ويدفعه للدعاء الصادق حتى يكون من أصحاب تلك الرحلة الربانية التي تطهر فيها روحه، وتحيا بها نفسه، ويكون ضيفاً عليه سبحانه، وهو الرحيم الرحمن، الكريم المنان، فيا له من شوق عجيب تُشد من أجله الرحال.
وأعظِم بها من رحلة وأكرِم بها من ضيافة! وما أكرَم المُضيف سبحانه وتعالى! وما أحوج الضيف الفقير إلى ذلك الكرم!
الاستعداد للرحلة
اقترب موعد رحلته، وهو يفكر الآن كيف سيقبل على ربه وبأي حال يدخل بيته، كانت السيجارة في يده يتصاعد منها الدخان ويتراقص، لكن أتراه يذهب إليه ورائحة الدخان الخبيث تملأ فمه وتفوح؟! فطِن إلى نفسه وتعجب منها ونوى أن يقلع الآن عن التدخين، ويتوب إلى الله من هذا الذنب وغيره من الذنوب الظاهرة والخفية، وتذكر قول التابعي الجليل محمد بن واسع: «لو كان للذنوب رائحة ما قدر على مجالستي أحد»، فاستحيا من نفسه وأيقن أنه مذنب ولا ريب، وإن بدا للناس غير ذلك، وأن نظافة الفم تتطلب نظافة اللسان الذي يقطن فيه، وأن طهارة الظاهر تكتمل بطهارة الباطن، فعزم على أن يحفظ لسانه وقلبه من اللغو والغيبة والنميمة وغيرها من الآفات، وما أكثرها في هذه الأيام مع انتشار المساحات الواسعة في صفحات التواصل الاجتماعي والتي لا يسلم فيها المرء من الأذى أو الإيذاء.
لقد بدأ في الاستعداد العملي لهذه الرحلة المباركة التي بدت تباشير بركتها تلوح في نفسه وتشرق في ذهنه، لاح أمامه طيف والديه وإخوته، وزوجته وأولاده، فقرر أن يزيدهم من جرعات برّه وحبه، وشعر بقيمة الأسرة حين تكون متحابة متفاهمة، تتعبد الله بهذه الأخلاق.
نحو التغيير
أخذ يفكر بجدّية وصدق، هل هو هذا الضيف الذي يليق بحاله أن يلبي نداء ربه مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهَلَّ في حجه بالتوحيد قائلاً: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» ( رواه مسلم)، لم يتمالك نفسه ولم يستطع أن يمسك لسانه إذ رفع صوته بالتلبية ودموعه تسيل على خديه وقد سرت قشعريرة في جسده مع كل حرف من حروف التلبية، فتأكد أنها رسالة من الله تعالى له ولكل حاج، فخرَّ ساجداً وكأنه لأول مرة يدرك معناها ويستشعر مغزاها.
أخذ يتأمل بعين التفكر والعبرة كل كلمة من كلمات التلبية، فوجد فيها عز الدنيا والآخرة، وأيقن أنه إنْ يأخذ بها ويعمل فستكون السعادة حظه ونصيبه في الدارين برحمة الله تعالى، اهتز قلبه ودمعت عينه ولسان حاله يقول: ها أنا يا الله سأجيب نداءك إجابة لك من بعد إجابة، ساعياً لرضاك خاضعاً ذليلاً.. ها أنذا سأقيم على طاعتك وألازمها متوجهاً إليك بما تحب، حباً لك بعد حب، قد أخلصت لُبّي وقلبي لك، اللهم إني منشرح الصدر متسع القلب لقبول دعوتك وإجابتها، فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.. تذكّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا” (رواه الترمذي)؛ يعني عن يمينه وشماله؛ فاستبشر وزاد من تلبيته.
التلبية دروس وعبر
إن هذه التلبية بكلماتها المعدودة قاموس تربوي عجيب إذا ما فهمها الحاج ووعاها وصدّق بها، ففيها الإقرار من العبد بالفرار إلى الله تعالى وذلك بتوحيده وإجابة أمره، والقصد والتوجه له دون غيره، فلا رياء ولا شهرة ولا ظهور ولا سمعة منذ أول لحظة ينوي فيها العبد أداء هذا النسك العظيم؛ فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، قاصداً إياك في نسكي مخلصاً لك عبادتي، والإخلاص عمل قلبي بين العبد وربه لا يطلع عليه أحد إلا الله.
وقد شبه ابن القيم الإخلاص والتوحيد بشجرة في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك، أما الشرك والكذب والرياء فشجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهمّ والغم وضيق الصدر، وثمرها في الآخرة الزقّوم والعذاب المقيم. (انظر: الفوائد لابن القيم)، فعقد العزم على أن يلازم الإخلاص لله في كل أعماله وأقواله.
الحمد والنعمة لك والملك
لهج لسانه بحمد الله، الحمد لله قبل أن ألبي، والحمد لله وأنا ألبي، والحمد لله بعد التلبية، والحمد لله في كل حين وحال، والحامدون في الآخرة هم أهل الفوز والفلاح، قال الثوري: «ليس يضاعف من الكلام مثل الحمد، والحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله فيدخل فيه التوحيد». (جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي).
وكيف لا أحمد ربي وقد أنعم عليَّ بكل ما أنا فيه من رزق ونعمة وعافية وأهل وزوجة وولد، قد أمدّ في عمري ورزقني ومنَّ عليَّ بأعظم نعمة؛ نعمة الهداية إليه، وهداني لأن ألبي نداءه فأزور بيته لأداء فريضة الحج، فيا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
إنني بكل ما أملك من نعم، وإن كل نعمة من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض بمن عليها لهي من عند الله المنعم الكريم، فله الحمد والشكر، فما أجلّ نعمه وما أعظم ملكه! يعطي فلا ينقص من خزائن ملكه شيء.
تاقت نفسه للتلبية الحقيقية بعد أن أدرك أنها قول وعمل، وتسليم وخضوع، وطاعة وإجابة، وقرب وحب، وإخلاص ونقاء، فقام لتوّه يستعد لها.
ولم يسافر إلى ربه إلا وقد غسل قلبه بالتوبة، ونقَّاه من الغل والحسد، ونفض منه الشحناء والبغضاء، وطهر نفسه من المظالم فردها إلى أصحابها وطلب عفوهم والسماح منهم، وتاقت نفسه للإحسان فتصدق على مسكين، وأطعم أرملة، وأحسن إلى يتيم ومسح على رأسه، حتى يلين قلبه ويدرك حاجته من الرحمة والمغفرة والعتق والقبول، ليرجع بحج مبرور.
وهنا شعر بدفء عجيب يسري بين أوصاله وكأنه يقول له: هكذا فليكن حجاج بيت الله!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل