العنوان أصول الاقتصاد من الكتاب والسنة
الكاتب د. عيسى عبده
تاريخ النشر الثلاثاء 24-مارس-1970
مشاهدات 584
نشر في العدد 2
نشر في الصفحة 10

الثلاثاء 24-مارس-1970
مدخل البحث
الحمد لله ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (سورة العلق: الآية 4. 5). أما بعد فهذه عشرة أعوام مضت منذ أن وصلت هذه الدراسة إلى مرحلة من النضج تسمح بعرضها في مناهج متكاملة.. كان ذلك بمعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة من عام ١٩٦٠، ثم بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وفي معاهد البعوث.
أما الجامعات العربية فقد بقيت إلى يومنا هذا في تردد أو في قعود عن محاولة الرجوع عن الاقتصاد السياسي، وهو وضعي، يفخر رجاله من خصوم الإسلام بأنه منقطع الصلة بالدين.. يقول ذلك صراحة أمثال «أريك رول» ويقول بشيء من الاحتياط والتجمل أمثال «جوزيف شامبيتر» و«جيد» و«ریست».. وحين يقرر هؤلاء أن اقتصادهم منقطع الصلة بالدين فإن المعنى الحاضر في ذهنهم عن الدين هو جملة الطقوس والترانيم التي تسمح السلطات الزمنية بالبقاء عليها بعد فصل دنياهم عن الآخرة.. ومعلوم أن السلطة الزمنية تلك.. تشترط لرجال الإكليروس والقوامين على المعابد بأن تكون ممارسة شئون الروح والمواعظ والأناشيد في ساعتين اثنتين من صباح الأحد من كل أسبوع.. أما قبل ذلك وبعد ذلك فلا صلة - في تقديرهم - بين الدين والدنيا.. وأي عجب -والحالة هذه- أن يقرر الكتاب الغربيون بأن اقتصادهم لا شأن له بالدين والأخلاق!! وهنا نلاحظ إقحام كلمة جديدة.. هي «الأخلاق» وفي مواضع شتى يشار إلى تمييز العلم عن «العاطفة»، والقصد من هذه الإضافات اللفظية (كالأخلاق والعاطفة) هـو التزام الرفق واصطناع الأدب مع رجال الدين، عندهم، وهكذا يعتبر الكثيرون من علماء الغرب شئون الكنيسة ورجالها من قبيل الضعف العاطفي أو التمسك الخيالي بشيء يقال له «المثل العليا» وهي عند رجال العلم التجريبي والفكر المعاصر للثورة الصناعية.. شعارات أبقى عليها رجال الدين.. كوسيلة من وسائل كسب المعاش، وحسب، وإلى هنا وعلماء الاقتصاد وغيره من الدراسات الإنسانية يلتزمون الأدب الجم مع رجال دينهم تجنبا للمشكلات؟ ثم ماذا بقي للدين عندهم بعد أن تراجع لساعتين من صباح يوم العبادات؟
أما إذا عرض كاتب مـــن خصوم الإسلام.. لهذا الدين المتين (وهو لا يؤمن به بطبيعة الحال) فليس ثمة داع للترفق ولا للمجاملة.. بل القول واضح وجريء.. فالإسلام عندهم شعوذة وصرع وانفعالات وهستيريا.. وهو عندهم إسراف في الجنس وإلقاء لتبعات الدنيا وشئونها على الحظ والقدر والغيب.. وإن أحدنا حين يعمق ما يقولون، يرثى لحال الباحثين منهم.. إذ يعمدون إلى شبهة أو انحراف في الفهم.. لفرد من الناس أو لطائفة.. ويسلطون الأضواء على جهالة عابرة أو على فلسفة بائرة.. ويصدرون الحكم على الإسلام استنادا إلى هذا الذي يتصيدون.. إلا ما ندر.. فالحق أن بعض الراسخين في العلم ينصفون، وقليل ما هم.
على أن «الاقتصاد» كما عرض له الإسلام يكاد أن يكون مجهولا في المدارس الغربية جهلا تاما.. وما عرفت طالب علم خرج من بلد إسلامي وظهر في وسط أجنبي.. ثم رأى أن يجيل النظر في أمر الأموال والخدمات.. لعله يهتدي إلى صواب جاء به الإسلام.. ولو عرف الدارسون للاقتصاد ممن يعرفون الكتاب والسنـة.. أي ذنب جنوا علـى الإنسانية لهالهم ما هم فيه من قعود.. أم أنهم ليجهلون «وزر الذين يعلمون»؟!
هذا عن الغرب.. وفيه إثارة مجاملة لدينهم تتمثل في ساعتين للترانيم وللطقوس.. أما الشرق الشيوعي الذي تعلقت به آمال فريق من المفكرين عندنا – وبخاصة في مجال الدراسات الاقتصادية فإنه لا يطيق ذكر الدين تصريحا أو تلميحا.. ذلك مبلغهم من العلم، وعنهـم يأخذ الدارسون، ويتثقفون، وإليهم تسند المناصب.. قال قائل منهم «إن الإسلام يقدس رأي الجماهير!! أو لا ترى الثقات من الفقهاء في كل عصر.. وهم يلتزمون برأي الجمهور؟».
قلت لصاحبي: والله إن هذا لبلاء عظيم.. ولقد وردت عبارة السيد المثقف في رسالة معتمدة من بلد اشتراكي لنيل درجة الدكتوراه.. فإذا كان الأستاذ الدكتور فلان من الناس، وهو مسلم يقول بأن فقهاء المسلمين يقدسون رأي الجماهير فما قيمة التراث بالقياس إلى هذا التجديد؟ ما قيمة آراء أبي يعلى والماوردي وابن تيمية ومن شئت من فقهاء المسلمين.. حين تعتمد جامعة معاصرة هذا التأصيل للجماهيرية.. فإذا بها في تقدير المجتهدين من أهل هذا الزمان.. إذا بها أصل من أصول الفقه.. لا يختلف عليه اثنان..
أفترید أيها القارئ الكريم.. أن نلوم الغرب أو الشرق.. (وكلاهما يعادي الإسلام عن جهالة) ونحن إلى هذا التهريج ندعو.. ولا نزعم بأنه من عندنا، بل نقول بأنه من أصول الفقه الثابت القديم؟ كم من المواقف رأيت.. من خلال التجربة الممتدة أربعين عاما في مهنة التعليــم.. كنت أرى الشباب يسأل: إذا فارق القرآن حكما من أحكام الدستور فأي الحكمين نتبع؟ وفي رسالة أخرى نال صاحبها درجة الدكتوراه، وموضوعها «القومية» قال سيادة الباحث: إن إرساء القومية عسير.. ما بقي للدين جذور في أرضنا العربية.. حتى نفرغ من الجيل القديم.. بما فيه من عمائم ومن جمود على القديم.. ثم يكون الانطلاق من هذه القيم الموروثة... وقال آخر، وهو لا يزال يعلم ويخرج لنا المعلمين.. قال بأن النظم الاجتماعية هي جملة الأوضاع التي يخترعها الإنسان ويفرضها على الكثرة الكاثرة بالإيهام أو بالسلطان... ثم يطمئن إليها الناس بطول الألف والالتزام. ثم ضرب الأمثال بالزواج وبالطلاق وبالميراث.. وكذلك يفعلون!!
وقال رابع أو سادس أو سابع: إن كلا من القانون والدين.. من مخترعات المفكرين المصلحين الذين هالتهم حالة المجتمعات البدائية وقد تردت في المعصية والجريمة.. ثم أفزعتها قسوة العقوبات فعمدت إلى الإخفاء والتستر، حتى لا تقع تحت طائلة الجزاء.. واستمر الفعل المرذول في السر دون العلن.. وعندئذ لجأ المصلحون إلى فكرة الإله واخترعوا الدين!!
ولا يحسبن القارئ الكريم أنني أبتعد به عن الاقتصاد.. بما فيه من فكر ومن قوانين «كما يقولون» بل هذه نماذج من الدراسات الإنسانية التي تتكامل مع الاقتصاد في مجموعة واحدة..
المفروض أنها تهدف إلى السـلوك السوي حال السعي في تدبير المعاش.. وما لي لا أضرب لكم مثلا، ولو مثلا واحدا، من كتب الاقتصاد.. فهذا من کتاب اسمه مبادئ الاقتصاد السياسي.. مطبوع في بيروت عام ١٩٦٧، ويقرأ في الجامعات العربية بمعظم البلاد الإسلامية ومؤلفاه من أصحاب المناصب المستقرة لعشرات خلت من السنين (ونحن لا نذكر الأسماء فما قصدنا إلا الإيقاظ من طول السبات) قال المؤلفان بالنص في صفحتي ۱۱۰ و۱۱۱ من المرجع المذكور، ما يلي، عند الكلام عن تاريخ النظم الاقتصادية وملابسات القضاء على بعضها وظهور بعض آخر.. فاقرأ النص، إذن، من كتاب معاصر ومفروض على الشباب المثقف، وموضوعه مبادئ الاقتصاد السياسي، قال المؤلفان:
انهيار النظام الروماني
غزو البربر:
غزا البربر أوربا في القرنين الرابع والخامس وسقطت روما في يدهم سنة ٣٩٥. ثم سقطت الإمبراطورية الغربية، في يدهم سنة ٤٧٦، وأدى هذا الغزو إلى أن حلت ملكيات رومانية يحكمها البربر محل الإمبراطورية الرومانية.
ولما كان ملوك البربر غير قادرين على تسيير النظام فإنهم أقاموا في سبيل تسيير شئون الحكم لصالحهم، على كل إقليم دوقا أو كنتا أو محافظا، ولما انتهت الاضطرابات عادت التجارة إلى ما كانت عليه من الاستمرار، وأخذ هؤلاء الموظفون يمارسون شيئا من الاستقلال في مواجهة الملوك وبدأوا يجمعون الضرائب للملوك ولأنفسهم في الجزء الأكبر منها، ويجبرون الضعفاء على أن ينزلوا لهم عن أراضيهم وعن أشخاصهم، وعندئذ أدخلوا هؤلاء الفقراء في حمايتهم. وابتداء من القرن السادس أخذ الملك يمنح هؤلاء السادة امتيازات كثيرة.. ولقد أنشأ هذا التطور التاريخي حقيقة جديدة وهي اتجاه المجتمع نحو نظام الملكية الإقطاعية..
واحتفظ بحقيقة كانت قائمة، وهي كون المدن مركزا للتجارة.. وبانهيار الإمبراطورية الرومانية اختفى نظام الرق وحل محله نظام التبعية، ولقد أدى الإبقاء على هذا الوضع بالنسبة للمدن إلى قيام طبقة برجوازية حرة فيها.
الغزو الإسلامي:
وفي القرن السابع تعرضت أوربا لغزو جديد، وهو الغزو الإسلامي. ولكن الغزاة توقفوا عند أبواب القسطنطينية سنة ۷۱۷، وفي «بوانيه» سنة ٧٣٢. ولكن قيامهم حول البحر المتوسط أدى إلى نتائج خطيرة أثرت على النظام الاقتصادي الذي كان قائماً. فقبل الغزو الإسلامي كانت شعوب أوربا بالبحر المتوسط داخلة في علاقات تبادلية.. ولكن هذا الغزو قطع الصلة بينهم، وأغلق البحر المتوسط في وجه أوربا، وأصبحت أوربا الغربية منعزلة عن العالم.. وأدت هذه الحوادث التاريخية في النصف الثاني من القرن السابع إلى توقف التجارة التي قامت على الشواطئ الغربية للبحر المتوسط، وبالتالي إلى انهيار المدن التجارية، وإلى اختفاء الطبقة البرجوازية معها.. فقد توقفت المدن على أن تكون مراكز اقتصادية، وتوقفت الدورة التجارية والنشاط الصناعي.. وبذلك أكمل الغزو الإسلامي ما بدأه الغزو الجرماني من القضاء على النظام الاقتصادي الذي عرفته الإمبراطورية الرومانية، ومن تهيئة جو جديد عرف نظامين اقتصاديين متتالين، وهما الإقطاع، وهو ما يعرف أيضا باقتصاد الضيعة المغلقة (أي اقتصاد الدومين المغلق) والاقتصاد الحرفي. ويكون هذان النظامان معا اقتصاد القرون الوسطى في أوربا الغربية».
وللقارئ أن يقف عند التسوية بين ظهور الإسلام وانتشاره.. وبين كل غزو مخرب.. وأن يقف عند التعبير بالغزو في جملة الحالات.. وأن يستشف من وراء هذا، بالإضافة إلى البربرية والتخريب، قولا أشد خطورة.. هو الزعم بأن الإسلام كغيره حركة اقتصادية كان لها مد تخريبي ثم انحسر المد كما انحسر غيره!!
وما قصد المؤلفان المسلمان أن يذهبا إلى شيء من هذا الضلال.. بل انهما ما قالا به أصلا.. ولكنهما ينقلان، ومن أمانة النقل عدم التصرف.. ولكن حبذا لو تبرءا من هذه الأقوال أو عقبا عليها!! ولكنه الولاء السلبي لكثير من الدراسات الأجنبية وبخاصة «الاقتصاد» فقد انقسم الجيل الحاضر، في أمره، إلى معسكرين: هذا رأسمالي، وذاك اشتراكي أو شيوعي، وفي هذا بلاغ !! أفتريد أن يكون في أرض الله قول ثالث بعد هذا الذي قاله الأقطاب؟
ولاء ذليل، وثقة جاهلة جهلاء بالفكر المريض، وانصراف عن كتاب الله والسنة الشريفة في أتعس مراحل التاريخ التي مرت بأمة الإسلام.
خطة البحث
في مواجهة هذه الصبغة الغالبة على عقول المثقفين وقادة الفكر وحملة الأفلام.. كان لزاما أن نتدرج في البحث عن الاقتصاد السياسي الوضعي.. طويلا.. قبل أن ننتقل إلى الآيات والأحاديث. وكان لنان هدفان، وقد تحققا والحمد لله.
أولهما: أن نسير مع ركب الكتاب المعاصرين وأن نستوعب الجديد مما يقولون.. وهذه حال لم تكن مقصورة على العشرة أعوام الأخيرة.. بل ترجع إلى عام ١٩٢٥، في اتصال ودأب.. حين كنا نتلقى مبادئ الاقتصاد أول مرة.. وهكذا كتبنا وقدمنا الكثير من المراجع الأجنبية تلخيصا وتعقيبا.. حتى لا يظن ظان.. بأن هذا القلم يتعدى حدودا يقال لها «اختصاص» فقد أخذنا من الاقتصاد الوضعي بأوفى نصيب.. ولكن على سبيل القصد إلى وزن هذا الاجتهاد المتردي لا على سبيل التأييد.. ثم إن إغفال النظر بما عند الآخرين غير جائز لمن أراد أن يدلي برأي في شئون السلعة والخدمة كما يراها کتاب الاقتصاد.
أما الأمر الثاني فهو تقريب المفاهيم الاقتصادية الاصطلاحية من الفريق المؤمن الذي لا يرضى بالتراث بديلا.. ذلك أن كثرة من الصالحين تضيق بالحديث من كتب العلوم الإنسانية وإن كانت مفروضة على الشباب، ولقد رأينا (فيما تقدم) نماذج من أسباب ما يشعرون به من ضيق.. وإلى هؤلاء كان لزاما أن أبسط القول بأساليب المغربين والمستغربين.. مع التنبيه إلى نقاط الضعف وإبقائها رهينة العود إليها..
يوم نكتب الاقتصاد من الإسلام..
ولقد تمت هذه المراحل بحمد الله.. وهذه توطئة قريبة المنال شديدة الإيجاز.. تمهد لما بعدها.. والله المستعان.
موضوعات متعلقة
مشاهده الكل

