; هل يكفر.. من يجهل «كل» مقتضيات لا إله إلّا الله؟ | مجلة المجتمع

العنوان هل يكفر.. من يجهل «كل» مقتضيات لا إله إلّا الله؟

الكاتب محمد عبد العزيز جبر

تاريخ النشر الثلاثاء 13-يونيو-1972

مشاهدات 79

نشر في العدد 104

نشر في الصفحة 14

الثلاثاء 13-يونيو-1972

صفحات حرّة..

هل يكفر.. من يجهل «كل» مقتضيات لا إله إلّا الله؟

بقلم: الأستاذ محمد عبد العزيز جبر

الاعتدال سنّة الإسلام وجوهره.. فلا داعي للغلو

أفتى الأئمة ضد الحكام.. ولم يكتبوا فقههم تقرّبًا، ولا خوفًا

قالوا: شهادة أن لا إله إلا الله، تتضمن توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية..

أما توحيد الربوبية، فيعني إفراد الله تعالى بالخلق والرزق.

وأما توحيد الألوهية، فيعني إفراد الله تعالى بالعبادة والطاعة والتشريع.

وقالوا: توحيد الربوبية بمفرده لا يخرج صاحبه من زمرة المشركين، ولا يدخله في عداد الموحدين لأنه قدر مشترك بيننا وبينهم ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ(لقمان:25) بل يجب على من يريد تصحيح إسلامه أن يفرد الله تعالى بالعبادة والطاعة والتشريع.

قالوا: وهذا كله تقتضيه كلمة لا إله إلا الله وتستلزم اعتقاده، فمن جهل فقد كفر.

وإذا قيل لهم: لم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتفي من العرب بالنطق بالشهادتين، دون أن يمتحنهم في إدراكهم لتوحيدي الربوبية والألوهية؟

قالوا: ذلك لأنهم عرب بالأصالة، وكانوا يفهمون من نفي الألوهية عما سوى الله وجوب إفراده بالعبادة والطاعة والتشريع.

قلت:

 أما أن شهادة التوحيد تستلزم إفراد الله تعالى بالخلق والرزق، والإحياء والإماتة والعبادة والطاعة والتشريع، فحق لا مراء فيه.. «فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!».

أما دعواهم بأن من جهل اقتضاء «لا إله إلا اللــــــــــه» لتوحيدي الربوبية والألوهية لا يقبل إسلامه حتى يفقه.. فدعوى باطلة مردودة ولا دليل عليها، بل الدليل على خلافها.

وهنا أورد فضيلة المرشد حديثين صحيحين يدلان على خلاف ما قالوا.

إن الحديث الأول: ما روي أن عدي بن حاتم الطائي -رضي الله عنه- حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة وجَده يقرأ قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ (التوبة:31)

فقال عدي -وكان حينذاك نصرانيًّا- ما عبدناهم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يحرموا عليكم الحلال ويحلوا لكم الحرام فأطعتموهم؟ قال: نعم، قال: «فتلك عبادتهم».

فهذا عدي.. وهو من هو في عربيته وأصالته.. كـــان يجهل معنى العبادة والربوبية، حتى بين له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتباع غير الله في التشريع، عبادة له ولا يلزم من ذلك أن نركع له ونسجد، كما كان يفهم عـــدي رضي الله عنه.

هذا عدي.. فما بالكم بمن دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!

٢- الحديث الثاني:

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه في غزوة، فمروا على قوم من المشركين قد اتخذوا لهم شجرة يعبدونها، ويعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت اليهود لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة.. قال: إنكم قوم تجهلون، لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».

فهؤلاء بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلموا -حتى بيّن لهم رسولهم- أن من مقتضى توحيدهم إفراد الله تعالى بالعبادة والانسلاخ عن التوجه لكل من سواه وما سواه، وما عدا ذلك فشرك، إلا أن الجاهل لا يؤاخذ بجهله حتى يعلم، فإن علم ولم يؤمن فهناك لله عليه الحجة ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ(الأنعام:149).

 وإذا تبين هذا.. بطل ما زعموه من وجوب العلم، بكل معاني لا إله إلا الله ومقتضياتها ومستلزماتها، شرطًا لتحقق الإسلام في القلب، بل الحق أن من قالها مدركًا من معانيها نفي «السِّوَى» عن الله وانضاف إليها التصديق برسالة رسول الله، وما يستتبع ذلك من الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره.. فقد تحقق إيمانه وحكمنا بإسلامه، حتى لو مات حينئذٍ قبل أن يعمل خيرًا قط، حكمنا بنجاته على ما ظهر لنا من ظاهر كلامه، أما العمل فثمرة الاعتقاد، ودليل صحته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل» فما لم يعمل صالحًا قط -مع امتداد أجله- دل إفلاسه على إفلاس قلبه من الإيمان والعياذ بالله.

وفي هذا يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه في رسالته «مشكاة الأنوار»:

«ويدخل في جملة هؤلاء جماعة يقولون بلسانهم «لا إله إلا الله».. لكن.. ربما حملهم على ذلك خوف، أو استظهار بالمسلمين، وتجمل بهم، أو استمداد من مالهم، أو لأجل التعصب لنصرة مذهب الآباء، فهؤلاء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح، فلا تخرجهم الكلمة من الظلمات إلى النور، بل ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ. (البقرة:257)

أما من أثرت فيه الكلمة، بحيث ساءته سيئته وسرته حسنته، فهو خارج عن محض الظلمة، وإن كان كثير المعصية» انتهى بنصه.

وأما قولهم: السجن ليس بإكراه.

فالأمر فيه يسير.. فقد أورد فضيلة المرشد أقوال الفقهاء، في اعتبار السجن إكراهًا يبيح لمن ابتلي به ما يبيحه الإكراه، غير إنه قال:

والصبر على ذلك عزيمة، ونحن نأخذ بالعزيمة إن شاء الله وندعو إليها.

وأما قولهم: لا ثقة لنا بما في بطون الكتب الصفراء، وإنما مرجعنا الكتاب والسنة وحسب.

فهذه دعوى خطيرة تؤدي إلى نقض الدين من القواعد ولو بنيّة حسنة، ذلك لأننا لو فتحنا باب الفهم والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى للمجتهدين وحدهم، دون الرجوع إلى ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كتابهم الذي أنزل عليهم، وسنة نبيهم الذي عاش بينهم، إذن لضللنا ضلالًا بعيدًا، واختلفنا اختلافًا كبيرًا، ولتفرقنا شيعًا وأحزابًا، كل حزب بما لديهم فرحون.

وما علة من شذ عن مذهب أهل الحق -أهل السنة والجماعة- إلا أنهم ركبـــــــوا رؤوسهم، وحكموا عقولهم ووثقوا بمعقولهم، وقالوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «هم رجال ونحن رجال»، فضلوا وأضلوا وابتدعوا وما اتبعوا، وحملوا أوزارهم وأوزار من تبعهم إلى يوم الدين، «وطوبى لمن مات وماتت معه خطيئته»، ولقد حذرنا رسول الله صلــى الله عليه وسلم من هذا الخروج عن مذهب الصحابة فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليــــه مـــــن الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه مسلم.

وأما القول بأن ما كتب من علوم الشرع، ونقل إلينا لا ثقة فيه، لاحتمال التقرب إلى الحكام فيما كتبوه، أو الخوف منهم فيمـــــــا كتموه، فلست أرى قومًا حكموا على قولهم بالبطلان وأوهنوه بلا برهان مثل أصحاب هذا القول.

فأيهم بربك أطاع للحكام أمرًا يؤمن بخلافة؟ الإمام مالك.. الذي رفض أمر الخليفة المنصور في حمل الناس على موطئه؟ أم أبو حنيفة الذي أفتى لقائد جند المنصور بحرمة قتال رجل من أهل البيت، خرج في زمنه على الإمام الشرعي فكان أن امتنع القائد عن قتال الرجل؟ أم هو يا صاحبي الإمام أحمد الذي احتمل العذاب الأليم والسجن المقيم دون أن يبيح لنفسه الأخذ بالرخصة، فيقول بخلق القرآن كما أراد المأمون، ومن بعده المعتصم أن يحملاه عليه.

أم هو الشيخ ابن تيمية الذي سجن مرتين، ومعه تلميذه ابن القيم حتى مات في سجنه الثاني، لتمسكه بما علم أنه الحق من حربه لبدع الصوفية وضلالات المبتدعين، وقوله بأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع طلقة واحدة، وأمثال ذلك من الفتاوى التي أثارت عليه غضب الحكام، فلم يعبأ بهم ولم يتراجع في ظلمات سجونهم.. وغير هؤلاء من علمائنا، والحمد لله كثير، وتاريخنا زاخر بأمثلة صدقهم وإخلاصهـــــــــــم وإيمانهم وورعهم، وثباتهم على الحق المبين، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وصبرهم على ما أصابهم وصدق الله العظيم

﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. (الأحزاب:23)

ولا أبالغ إذا قلت: إن بعض من يزعم العلم في هذا الزمن لمجرد أنه حاز على إجازة علمية لامعة هذا وغيره، ولو اجتمعوا لا أراهم يليقون حتى بأن يكونوا تلامذة لأمثال أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم، فأئمتنا رحمهم الله لم يكونوا ليقبلوا في حلقات درسهم إلا من تجرد لله وطلب العلم لله، وأعطى العلم كل نفسه وعاش لــــــه وحده، «فالعلم إن أعطيته كلّك، أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا» كما قال علماؤنا.

وقديمًا قال الشافعي رضي الله عنه:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي       فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأنبـــــــــــأني بأن العلــــــــــــــم نــــــــــــــــــــــور          ونور الله لا يهدى لعاصي             

  ولعلي أكون قد وفيت الأمر حقه بتوفيق الله ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (هود:88)

 ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الصافات: 180-182) 

الرابط المختصر :