العنوان أيام في الخرطوم
الكاتب د. محمد بن موسى الشريف
تاريخ النشر السبت 25-أغسطس-2007
مشاهدات 13
نشر في العدد 1766
نشر في الصفحة 38
السبت 25-أغسطس-2007
■ الضعف الإداري والأساليب العقيمة التي تداربها الدوائر الحكومية.. من أهم أسباب ضعف السودان.
■ البلاد تتمتع بثروات معدنية ومائية كبيرة ومساحة شاسعة.. ومع ذلك تعيش في حالة متواضعة!
■ لماذا نضيع أوقات المشايخ والعلماء في حوار مع النصارى لا يُجدِي شيئًا؟!
■ على الحكومة الإسلامية بالسودان إنكار المنكرات.. وألا تقيم لرغبات العوام وزنًا إذا خالفت الشرع.
أصدقكم القول أنّي في حيرةٍ من السودان وعجب من أهله، فقد جئته مرات وعدت إليه كرّات، فما من مرةٍ إلّا وتملَّكني العجب من حالة، فالبلد شبه قارة، وهى أكبر بلد في العالم الإسلامي بعد قزقستان، والنيل يجري في أرضها قرابة ثلاثة آلاف كيلو متر، وهي غنيةٌ بالنِّفط والمعادن، وعدد سكانها أكثر من خمسة وثلاثين مليونًا، ففيها من الخيرات ما لا يُحصَى، فلم هي هكذا تعاني من ضعف وتهالك في بنيتها؟!
وقد وقفتُ على دقائق في حياة الناس خواصهم وعوامهم، فظهر لي بما لا يقبل شكًا عندي أنَّ القوم- أو غالبهم- قد فرَّطوا في الاستفادة من هذه الموارد، وأزروا بأنفسهم، وغمطوها حقها، وإلّا فإنَّ اتفاق المراقبين، بل العقلاء، أنّ السودان يمكن أن يستقل بحاجاته، بل يمكن له أن يكون سلة غذاء العالم العربي، ثم إنَّ مكر الليل والنهار للدوائر الصهيونية والصليبية له أثرٌ كبير، إذ إنَّ القوم ما إن استفاقوا من كابوس الجنوب إلَّا وفجأتهم الجبهة الشرقية والعداوات الإريترية، فلما رقَّعوا هذا الخرق سال الجرح الدارفوري، وهناك محاولاتٌ اليوم لإثارة النزاع النوبي، وهكذا لا يريد أعداء الإسلام للسودان أن يلتقط أنفاسه ولا أن يستدرك ما فاته.
ثم إنَّه لا يمكن بحال إغفال الضعف الإداري، ولا الطرق العقيمة التي تدار بها أكثر الدوائر هناك، مما أورث الإجراءات اليومية والدورية شللًا أو ضعفًا كأخي الشلل!!
ولما كنتُ هناك حدَّثني رجل من جنوب السودان يدعى أبا بكر دينق، وهو من أوتي دماثة في الخلق، وسهولة في التعامل- كحال أغلب أهل السودان، وهو من قبيلة سودانية جنوبية معروفة- حدثَّني أنَّ أسرته كانتْ أسرة كاثوليكية متعصِّبة من جنوب السودان، ونشأ هذا الرجل في بيئةٍ ريفيةٍ سودانية شمالية مسلمة، وذلك بسبب الدراسة، ودرج مع أطفال القرية كما درجوا، فكان يحضر خلايا القرآن، ويحتكُّ بالأطفال المسلمين، فلما صار في المرحلة المتوسطة رأى أنَّ الإسلام هو الدين الذي لا يسعهُ قبول غيره فأسلم سرًا، وبقي سنتين مسلمًا لا يدري بإسلامه أحد، حتى إذا كان في إحدى الجمع دخل على والده وأخبره بإسلامه وأنه لا يمكن أن يقبل غيره، ولا تستطيع قوةٌ في الأرض إجباره على شيء سواه، وهذا الثبات وتلك القوة أمر عجيب من مثله على صغر سنه، فبكى أبوه، وقال: منذ هذا اليوم أنتَ عندي ميّت، ولست لي بولد! وطلب منه فراقه والخروج من بيته، فذهب إلى ناظر مدرسته صباحًا وكان يفطر هو ومجموعة معه، فقال له: يا بيتر
-وكان هذا اسمه قبل إسلامه- تعالَ فكل، فجلس ليأكل فلما أخذ لقمة ليضعها في فيه انهمرتْ دموعه، فسأله الناظر عن السبب، فأخبره، فنصحه بأن يعود إلى أهله ويعلن تراجعه عن إسلامه، وذلك لأنّ الناظر لا يستطيع أن يأخذه معه إلى الشمال لحساسية الخلاف بين الشمال والجنوب، ثم ليكتم إسلامه عن جميع الناس إلى أن يجعل الله له مخرجًا وفرجًا، وكانتْ نصيحةٌ مباركة حكيمة عاقلة.
فعاد الشاب في المساء إلى أهله فوجد مجموعة من الوجهاء مجتمعين حزينين على تحوّله، فناظرهم الشاب قائلًا: ماذا تنقمون مني؟ فقالوا: إسلامك، فما دام أبوك نصرانيًا فلا بدَّ أن تكون أنتَ نصرانيًا أيضًا، فرد الولد في لفتة ذكية لكن جدي أبا الوالد لم يكن نصرانيًا فلماذا صار أبي نصرانيًا؟! فإذا اقتنع أبي بالنصرانية فأنا قد اقتنعتُ بالإسلام!!
ثم جرتْ محاورةٌ أخرى حيث قالوا له: قد اشتراك العرب فصرتَ مسلمًا، فقال لهم: وهل اشتراكم النصارى لتدخلوا في دينهم؟ ثم ما الذي أستفيده من المال وأنا طالب صغير السن ليس علي واجبات ولا مسؤوليات، ثم لما يئس منهم عمل بنصيحة ناظر مدرسته فسألهم: ماذا تريدون الآن؟ فقالوا: أن تعود نصرانيًا، فقال: قبلتُ وقد عدتُ إلى النصرانية، ففرحوا وعجب هو من أخذهم قضية العقيدة هذا الأخذ الساذج!
ثم إنَّ أباه مات بعد ستة أشهر فصار هو المسؤول عن أسرته، فأخذ يدعو أهله فأسلمتْ أمه وأسلم اخوه، وأسلم عماه، وأسلم بعض أولاد عمه، فكم في نصيحة ذلك الناظر من البركة والخير سبحان الله.
وهذا الشاب أخذ بأسباب العلم وحصل على الدكتوراه، وهو اليوم وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في السودان، فما أعظم الهداية وما أحسنها.
لماذا الحوار؟
ولما جئتُ السودان هذه المرة كانتْ وزارة الأوقاف قد انتهت للتو من عقد مؤتمر الحوار الإسلامي النصراني، وحضره أقطاب من النصرانية من الداخل والخارج، وحضره كاردينال السودان الذي كان مرشحًا لخلافة بابا الفاتيكان السابق لولا لون بشرته!! وهكذا القوم قد أوغَلوا في عنصريتهم إلى هذا الحد. وهو كاردينال متعصِّب لا يتحدث إلا بالإنجليزية مع معرفته العربية، وكأن الإنجليزية ليستْ لغة المستخرب «المستعمر» وكأنَّها لغة أبيه وجده، وأرى أنَّ مثل هذه المؤتمرات إن لم يحكم برنامجها، ويكن بعضها مكمِّلًا لبعضها الآخر فإنَّ عقدها يشوبه كثير من الخلط والتشويش والمفاسد، وقد بدأتْ مؤتمرات الحوار هذه منذ سنة ١٣٨٥هـ / ١٩٦٥م، أي منذ أكثر من أربعين سنة، وإلى الآن لم يعترف رؤساء النصارى بالدين الإسلامي، واعتذر باباهم لليهود وغيرهم ولم يعتذر للمسلمين عن مآسي الحروب الصليبية التي يتحمل أسلافه ،وزرها وهم إلى الآن لا يحترمون الدين الإسلاميّ ولا يوقرونه، وليس أدل على هذا من صنيع باباهم الموتور بندكتوس السادس عشر من استهزاء بالإسلام وشتم له، فأي حوار صادق نرجو منهم! وأي نتيجة حصلنا عليها منذ أكثر من أربعين سنة إلى الآن!
أمّا تنسيق المواقف بيننا وبينهم- كما جرى في مؤتمرات الأمم المتحدة السكانية سيئة الذكر- فلا بأس بذلك، ولا ضير إن شاء الله تعالى، أما الحوار فطابعه العام سياسي، ولا أرى أن القوم قد اجتمعوا لبيان الحق والأخذ به، أو على الأقل ليصيروا حياديين تجاه المسلمين، بل أرى أن سوءهم يزداد سنة بعد سنة ويتعاظم، والله المستعان.
فلم نسمع منهم إنكارًا لكلام باباهم السيئ عن الإسلام، ولم نسمع منهم طلبًا من حكومات الغرب أن تعامل المسلمين بالحسنى والعدل، ولم نسمع منهم إنكارًا لما يجري في فلسطين من ظلمٍ واضح فاضح، ولا إنكارًا لما يجري في العراق ولا أفغانستان ولا الشيشان ولا الصومال ولا كشمير ولا الفلبين، ولا فطاني، ولم نسمع منهم أعتذارًا عما فعلوه بالمسلمين من مآسٍ منذ الحروب الصليبية إلى الآن، ولم نسمع منهم أعتذارًا عن سيل الشبهات الهائل الذي وجهوه إلى ديار الإسلام منذ قرون إلى الناس هذا، ولم نسمع منهم أعتذارًا عما صنعه من يسمون بالمبشرين في ديار الإسلام؛ حيث كانوا طلائع الحملات يوم الصليبية المتتالية وعيونها.
فلماذا الحوار إذًا؟! ولماذا تضيع أوقات المشايخ والعلماء على هذا الوجه؟ ولماذا إضاعة المال فيما لا يعود على المسلمين بالفائدة المرجوة؟!
لكن ربما كان للسودان غرض في عقد هذا المؤتمر على أرضه، حتى يخفف من الضغوط الغربية الظالمة عليه، وللتقرير في الأذهان أنّه ليس هناك نزاعٌ إسلامي نصراني في البلاد، إنما هي المؤامرات والكيد الغربي الصليبي لا غير، والله المستعان.
حفل غنائي
ولقد سمعتُ- لمَّا كنتُ في السودان- أنَّ هناك حفلًا غنائيًا أقيم أخيرًا، وأنَّ المال المدفوع لتذاكر الحفل خصص لدارفور، وأنَّهم جلبوا مغنين ومغنيات من مصر من أجل هذا الحفل، وقد حضره آلاف الناس، وأقول للحكومة السودانية: لقد كان من الواجب عليكم إلغاء هذا الحفل وألا تأذنوا به أبدًا، فإنَّ الله لن ينصرنا في دارفور بحفل غنائي، ومن واجب الحكومة الإسلامية إنكار المنكرات: وهذا منكر واضح، وقد قال الله تعالى ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾(سورة الحج آيه:41) وأرجو أن يعوا هذا ولا يقيموا لرغبات العوام وزنًا إذا كانتْ مخالفة للشرع المطهر، فإنَّ العوام لا يساسون بشيءٍ أعظم من سياستهم بشرع الله تعالى، وهذا هو المظنون بحكومة السودان أن يفعلوه، والمرجو منهم، والله الموفِّق.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل