; أيام في تولوز | مجلة المجتمع

العنوان أيام في تولوز

الكاتب د. محمد بن موسى الشريف

تاريخ النشر السبت 07-أبريل-2007

مشاهدات 10

نشر في العدد 1746

نشر في الصفحة 40

السبت 07-أبريل-2007

  • حضرت بها دورة لقيادة طائرات الإيرباص فمكثت ٣٧ يومًا وقابلت عمالًا مسلمين لم يتركوني وحدي طوال هذه الأيام.

  • لقد عاملوني بكرم كبير وحب جارف.. مبعثه المحبة في الله والأخوة العجيبة التي بين المسلمين.

  • انتقلت من بيت إلى بيت ومن مسجد إلى مسجد لإلقاء المواعظ.. فلم أشعر بغربة.

  • عندما تجولت في مصنع الإيرباص شعرت بكآبة شديدة لتذكري عدم وجود مصانع للطائرات في بلادنا.

تولوز مدينة صناعية في جنوب فرنسا، فيها مصنع لطائرات الإيرباص، وقد ذهبت إليها في دورة القيادة هذه الطائرة سنة ١٤٠٤ هـ / ١٩٨٤م.

وقد أعطاني أحد الإخوة من السعودية رقم هاتف أحد العمال المغاربة واسمه عبد الله الإدريسي، فهاتفته وجاءني ملحًا أن أذهب معه إلى بيته للغداء، فذهبت برفقة أخي في الله الكابتن سامي البسام، وكنا جائعين فقدم لنا الرجل دجاجتين في طبق فأكلنا وأمعنا خاصة أننا كنا جائعين والمناخ بارد، ثم طلبنا منه أن نغسل أيدينا فضحك وقال: صبرًا، فذهب وعاد بطبق ضخم يدعونه بالطاجن، وهو لحم ببرقوق وزيتون، فوجدنا لطعمه لذة عظيمة، وندمنا أننا أكلنا من الدجاج، ثم طلبنا أن نغسل أيدينا، فذهب وعاد بطبق ضخم من الأكلة الشعبية المغربية «الكسكس» فأكلنا منه فوجدناه أطيب من سابقيه، ثم قلنا له: يا أخي لم لم تأت بالطعام مجتمعًا حتى نتخير منه ما نحب؟ فضحك وقال: هذه عادتنا، وإذا أردت أن تعرف كم نوعًا من الطعام سيقدم لك فعد السفر التي على الخوان، ومن عادتهم أنهم يضعون السفر بعضها فوق بعض، ثم بعد فراغ الأكل من الطبق يرفعونه بسفرته فتبدو السفرة التي بعدها، وهكذا، فعجبنا من طريقتهم، ثم جاءنا بفاكهة كثيرة وبالشاي المغربي.

مطلب واحد

وعجبنا من كرمه خاصة أنه عامل في مصنع، وكان راتبه آنذاك ۱۸۰۰ فرنك أي حوالي ستمائة ريال سعودي لكنه أصر على إكرامنا هو وأصحابه من العمال، بحيث إني مكثت سبعة وثلاثين يومًا هنالك قلما أكلت فيها وحدي، وكان العمال يتداولونني من واحد لآخر كلهم يلح ويقسم، ولهم مطلب واحد بعد هذا الإكرام ألا وهو أن أعظهم وأجيب على أسئلتهم الكثيرة.

أخوّة عجيبة: ولم يدر في خلدي أنني سأقابل في تلك البلاد من يكرم الضيف على هذا الوجه، وكنت أظن أن إكرام الضيف قد ذهب أدراج الرياح في تلك البلاد، وإذا بي أفاجأ بإكرام غريب يصاحبه عاطفة دافقة وحب جارف ولا يمكن أن تجد هذا إلا عند المسلمين، إذ إن هذا العامل وأترابه كانوا في عشر الخمسين وكنت في العقد الثالث من عمري، فبيننا ثلاثون سنة، ولم يروني قبل ذلك ولم يسمعوا بي والكرم هنا مبعثه ديني لا شك وهو المحبة في الله والأخوة العجيبة التي بين المسلمين، وليت المسلمين يحافظون على هذه العبادة الرائعة.. عبادة الأخوة في الله.

عاطفة قوية

وأذكر أنني أتيت بشريط للشيخ تميم العدناني يرحمه الله وهو رفيق الشيخ الدكتور عبد الله عزام يرحمه الله تعالى في الجهاد الأفغاني، وكلاهما فلسطيني وكان الشريط يتحدث عن الكرامات التي يكرم الله تعالى بها المجاهدين الأفغان فوضع الأخ عبد الله الإدريسي الشريط في آلة التسجيل، وكان عدد الحاضرين كبيرًا في مجلسه، فلما أخذ الشيخ العدناني في ذكر الكرامات وأفاض في تلك الحكايات لم يتمالك الشيخ نفسه وأغلق الآلة وأخذ في بكاء طويل ونحيب وعويل تعجبت معه من عاطفة الرجل القوية.

وهؤلاء العوام من العمال الذين لاقيتهم في تولوز كان أكثرهم ذا عاطفة قوية، وذا دمعة جارية، وأتمنى أن نكون نحن ممن يسمينا الناس دعاة ومشايخ ذوي عواطف قريبة من عواطفهم، وتأثر  سريع كتأثرهم ولا أدري سبب تحجر مآقينا، وجفاف قلوبنا- في أكثرنا- هل هو مزاولة العمل الإسلامي اليومي واعتياده؟ أو هل هو السماع المتكرر لمآسي المسلمين على وجه مفصل حتى صرنا لا نكاد نتأثر بما نسمع كما يتأثر هؤلاء العوام؟ أو هل هو جفاف في العواطف أصابنا بسبب قلة الاعتناء بالعبادات القلبية وعبادات الجوارح لتزاحم الأعمال وتراكمها في حياتنا؟! لا أدري لكني عجبت مما رأيت فيهم آنذاك من جميل التأثر وسرعة الاستجابة.

وكان العمال يسمعون بوجودي فيطلبونني في بيوتهم، ثم صار العمال في البلدات والضواحي المجاورة يطلبونني وهكذا ظللت سبعة وثلاثين يومًا أنتقل من بيت إلى بيت ومن مسجد إلى مسجد في أوقات كثيرة، فلم أشعر بغربة، ولم أضق ذرعًا بهم ولا بأسئلتهم قط، ولله الحمد.

كآبة شديدة

وأذكر أنني لما جلت في مصنع الإيرباص شعرت بكآبة شديدة بسبب تخلفنا في العالم الإسلامي، وعدم وجود مصانع للطائرات لدينا، بل عدم وجود مصانع للدراجات حتى الآن، وكان المصنع ضخمًا للغاية، وهذا قبل ٢٣ سنة فكيف به الآن؟

صناعات إسلامية: وأرجو أن نفهم حقيقة، ألا وهي أننا لن نصل إلى ما نريد من مجد وسيادة إلا بقيام صناعات إسلامية تغنينا عن صناعة الغرب. وأذكر أنني تحدثت لطلاب وأساتذة كلية الهندسة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة قبل سنتين، وقلت لهم فيما قلت: إن طلاب الهندسة هم- بعد الله تعالى- أمل الأمة في قيام صناعات في العالم الإسلامي وبعد الكلمة جاءني أحد الأساتذة المصريين المتميزين في صناعة الطائرات، وقال إنه جاء إلى جدة بعد إغلاق مصنع مبارك للطائرات في مصر بأوامر أمريكية!!

 فقلت له: وماذا تفعل ها هنا؟ نحن ليس عندنا مصانع للطائرات اذهب إلى ماليزيا أو إندونيسيا فلعلك تجد بغيتك هنالك، فقد افتتحوا مصانع لطائرات صغيرة ولا أدري حالها الآن، فقال: أريد أن أكون بجوار الحرمين!! فقلت له: تعالى إلى الحرمين في إجازتك السنوية، لكن كن في أحد هذين البلدين فهو أفضل لك فوعد خيرًا.

وهذا الأستاذ مثال على الطاقات المضيعة في العالم الإسلامي، ودع عنك الطاقات الهائلة المهاجرة التي تساهم بقوة في تقوية البلدان الصناعية وتشارك في بناء هيمنتها وجبروتها، وهذا- والله- من جملة المصائب، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

زيارة إسبانيا: ومن جملة الأحداث التي حدثت لي آنذاك أنني ذهبت وامرأتي الفاضلة «أم علي» إلى إسبانيا في عطلة نهاية الأسبوع وكانت قريبة من تولوز، ولما استقررت في أحد فنادقها علمت أن التأشيرة لدخول فرنسا قد انتهت صلاحيتها، فهي صالحة لمرة واحدة فقط ولم يكن لي مراس بهذا الأمر آنذاك. فأسقط في يدي، وقررت العودة إلى فرنسا والتفاهم مع موظفي الحدود لعلهم يدخلونني، حتى أستطيع أن أكمل دراستي في مصنع الإيرباص، فلما اقتربت من الحدود كان هناك مطر غزير وثلج متساقط، وكان موظف الحدود قابعًا في «كشك» فأشار بيده وهو في مكانه طالبًا منا الدخول بدون أن ننزل من السيارة فدخلنا إلى فرنسا بدون أن يرى الجواز أو يطلع على التأشيرة!! وذلك قبل إقرار التأشيرة الموحدة في أوروبا!!

ففرحت جدًا وزال عني الهم لكن علاني غم التذكر لحدودنا في البلاد العربية والإسلامية، وأذكر أنني كنت أمكث الساعات الطوال على الحدود بين مصر وليبيا، وبين الأردن وسورية، وبين سورية ولبنان، وبين الأردن والسعودية. وهكذا...

ونحن أصحاب لسان واحد ودين واحد وبلاد كانت إلى عهد قريب بلدًا واحدًا، وترى من الظلم والتجاوز لكرامة الإنسان في الحدود العربية شيئًا كثيرًا. بينما لا تكاد تجد هذا في البلاد الغربية التي بينها من التنافر والثارات وعوامل الاختلاف قدر غير قليل.

التآزر والتناصر

وقد أحزنني أيضًا أن هؤلاء العمال المغاربة كانوا بمعزل عن المثقفين من تونس والجزائر من الطلاب وغيرهم، وأن الجزائريين كانوا بمعزل عن التونسيين والمغاربة، وكان بينهم شيء من التنافر المعيب في غربة كان من الواجب التعاون فيها والتآزر والتناصر، ولا أدري ما هو حالهم الآن، وإن كنت على يقين أن المسلمين الآن في فرنسا أحسن حالًا من المسلمين آنذاك، بحيث إن الحجاب قد انتشر في النساء، وصار هناك اتحاد جامع لهم ولله الحمد .

ضعف التربية: وفي يوم من أيام إقامتي في تولوز جاءت زوجي فأخبرتني أنها ذهبت لبيت أحد العمال ممن أرى فيهم الخير والصلاح فإذا بابنتهم الشابة تخرج بلا حجاب فكان لهذا وقع شديد علي فلم أجد بدًا من الحديث معه في هذا الشأن. فأنفجر باكيًا، وقال: والله لا أستطيع أن أفعل لها شيئًا فقد نصحتها وكلمتها مرارًا لكنها لم تستجب فقلت له: خذها بالقوة إذًا فأنت ولي أمرها، فقال: لا أستطيع فإنها آنذاك ستشكوني للشرطة وسيحاكمونني!! فقلت في نفسي: هذه ضريبة البقاء في تلك البلاد حيث لا يستطيع الرجل تربية ابنته على تعاليم الإسلام، وفي الوقت نفسه لا يستطيع زجرها إن أبت الانصياع لأحكامه فبئست الإقامة والحالة تلك، والعياذ بالله.

نعم أنا لا أعفي العمال من ضعف تربيتهم لأولادهم لكن هم يعانون من قلة الوعي وضعف العلم الشرعي، والمجتمع بكفره وضلاله ضاغط على أهلهم ضغطًا لا مزيد عليه، فأنى لهم الانفكاك من أسره؟ هذا وقد كانت نسبة الحجاب في النساء آنذاك ضئيلة جدًا، والآن ارتفعت إلى قرابة ١٠% ولله الحمد، وهذا يفسر القانون الفرنسي سيئ الذكر بمنع حجاب الطالبات لأنهم خافوا من تزايد انتشاره.

خمر على الطاولة!

وأذكر أن رئيس البعثة دعاني ومن معي من الطلاب إلى المطعم فذهبت فلما أخذنا أمكنتنا على الطاولة طلب الخمر فجاء به النادل ووضعه على الطاولة التي نجلس عليها، فقلت لرئيس البعثة: أنا لن أجلس وعلى الطاولة خمر فلم يأبه وقلت للطلاب: إن هذا لا يجوز فلم يقم أحد للأسف، وقمت متأسفًا على ما وصل إليه حال هذا المسؤول الماجن والطلاب الخائفين منه!!

 وقد حاول إيذائي والنيل مني بعد ذلك بسبب ما صنعته، لكن الله حماني منه وانقلب عداؤه لي إلى مصانعة من قبله ومودة! فسبحان الله العظيم.

هذا ما علق بذاكرتي من هذه الرحلة الجميلة، ولا بد أنه كان غير هذا لكن التفريط في كتابته في وقته أدى إلى ضياع بعضه، لكن ما ذكرته فيه كفاية، والله الموفق..

الرابط المختصر :