العنوان أيام في ليبيا (2)
الكاتب د. محمد بن موسى الشريف
تاريخ النشر السبت 22-نوفمبر-2008
مشاهدات 17
نشر في العدد 1828
نشر في الصفحة 44
السبت 22-نوفمبر-2008
قضيت ستة أيام جميلة وسط كرم ضيافة كبير
حب الشعب الليبي لآل البيت لا حدود له !
أكثر الليبيين مولعون بالحديث عن الأنساب والقبائل
( اللقبي) عسل النخيل يقدمه الليبيون للضيف العزيز
عانيت المرارة على الحدود فتمنيت إزالتها مثل أوروبا
حزنت كثيرا وأنا أودع القوم قافلا إلى بلادي
ذكرت في الحلقة السابقة فرح موظف الجمارك بي؛
لما عرف أني من آل بيت رسول الله ﷺ ورفضه تفتيش حقائبي وحب الشعب الليبي لآل البيت
حب عجيب، وقد رأيته في تصرف موظف الجمارك معي، ورأيته في كل مكان حللت فيه في حلي وترحالي،
وقد نزلنا مرة في سفرنا مطعما لنأكل، فلما عرف النادل من كان معي - وكانوا كلهم من
آل البيت - رفض والله أن يأخذ منا شيئًا وألححنا عليه؛ لكنه أصر فجزاه الله خيرًا.
والقوم عرب خلص، لم تؤثر فيهم طرائق المدنية،
ولا تهذيبات التراتيب المعيشية إلا قليلًا، وكلامي هذا فيمن رأيت من ليبيي القسم
الشرقي في بني غازي وما حولها، أما أهل القسم الغربي فلم أصل إليهم ولا أدري
طرائقهم، وكنت أرقبهم في مجلسهم فإذا جلسوا ليتحدثوا والتأم بهم المجلس خاضوا
الأنساب والقبائل خوضًا لا يكفهم عنه مضي الزمان ولا شواغل الأنام، ولا المشكلات
التي تأتي بها الأيام، حتى أني كنت أسأل أحد شبابهم الذي كان يجلس إلي ويؤانسني
ويذهب عني ملل حديثهم الذي لا يحبه طبعي، ولا عهد لي به - أعني الحديث المطول عن القبائل
والأنساب - أسأله قائلًا: ألا يمل هؤلاء؟! فيضحك ويقول: هذه عادتهم وتلك طرائقهم
لم يلحقها تغيير ولا تبديل، وكنت أراهم إذا حان وقت الصلاة انسلوا من المجلس واحدًا
إثر واحد فصلوا صلاة سريعة وعادوا إلى مجلسهم فظننتهم يصلون السنة فإذا بهم قد
صلوا الفريضة فرادي، فعجبت وسألت صاحبي: ألا يجتمعون في جماعة؟ فقال: لا، تلك
عادتهم حتى الصلاة لا يتكلفون لها بشيء فإذا حان وقتها أدوها كيفما تيسر لهم!! ولم
أكره من عملهم إلا هذا.
ثم إنهم إذا جلسوا للطعام أكلوا على الأرض
كصنيعنا نحن في بلادنا؛ لكن صاحب البيت يبقي اللحم عنده بجواره وليس على المائدة،
وقد وضعه في صحفة كبيرة، وهو الذي يقسمه في الناس بحسب مراتبهم ومنزلتهم، فإذا وجد
ضيف فإنه يؤثره بما يرى أنه أهل لكرامته، وأداء لحقه، وهذا مما لم أره عند شعب قط
إلا عند هؤلاء!!
واحة نخيل
وذهبوا بي إلى «ودان» وهي مدينة في الجنوب
الليبي، وكل أهلها من آل بيت رسول الله ﷺ أشراف حسنيون، وكان هناك من أحسن
استقبالنا وأنزلنا في بيته والبلد في الصحراء في واحة يكثر فيها النخيل، وقد رقدنا
ليلة فيها، فلما أصبحنا جاؤوا لنا بـ «اللقبي» وهم ينطقون بالقاف مثل الجيم
المصرية، مثلنا نحن في بلادنا، وهذا «اللقبي» أمره غريب، فإنهم إذا جاءهم ضيف
عمدوا إلى نخلة من نخلهم فقطعوا رأسها بطريقة توارثوها كابرًا عن كابر وخلفًا عن
سلف وأحاطوا الرأس بما يحفظ ما يسيل منه، وهو سائل يشبه العسل لكنه أخف منه وأمرًا
في الحلق وألذ في المذاق، ويبردونه في الثلاجة؛ فإذا قام الضيف من نومه سقوه إياه،
ويا للعجب! ينبت رأس النخلة من جديد!! وقد حدثت بعض أهل النخل عندنا فأكدوا لي أن
النخل إذا قطعت رؤوسها ماتت فقلت لهم: هذا ما رأيته عندهم، وقد أروني النخل الذي
قطع رأسه من قبل مرارًا فصارت النخلة ذات تدرجات ثلاثة أو أربعة، وإن شئت قلت: ذات
انخسافات ثلاثة أو أربعة مكان قطع رأسها مرارًا، فتكون النخلة في الهواء غليظة
مستوية، فإذا جاء مكان انقطاع رأسها دقت جدًا ثم غلظت، وهكذا.
وقد زرت في تلك الرحلة «بني غازي» و«أجدابيا»، و
«ودان»، و«راس الأنوف» ومررت بـ «طبرق»، و«الجبل الأخضر»، وقد وجدت في كل مكان
ذهبت إليه أهلًا ووطأت سهلًا، فيالهم من قوم كرام لن أنساهم ما حييت.
رخص البضائع
ومن غرائب ما رأيته في بلادهم أن الحكومة قد
أبقت على قيمة الدينار الليبي القديمة قبل الحصار والتضييق؛ فقد صرفته في الإسكندرية
بقرابة جنيهين مصريين، فلما جُلت في أسواقهم المصرية، وكان الهواء باردًا والوقت
ليلًا، فأنزل السائق والركاب كل ما في الحافلة من متاع، وبقينا هكذا في العراء بلا
غرف لقضاء الحاجة ولا مكان للاستراحة سبع ساعات كاملة!! وكنت أرى موظفي الجمارك
المصريين يلعبون بالورق في غرفتهم الدافئة فطلبت من السائق أن يخبرهم بسوء حالنا
ويطلب منهم النظر في أمرنا!! فقال لي: هل أنت مجنون؟ إن هؤلاء لا يكلمهم أحد بشيء،
ولا يطلب منهم أحد شيئًا، ثم بعد ساعات طويلة وانتظار ممل مقلق خرج علينا موظفو
الجمارك هائجين مائجين ورفسوا المتاع بأرجلهم لفحصه!! وبعضهم رضي بجسه من الخارج
وبعضهم لم يرضَ إلا بإفراغه في الطريق!! وكان كل ذلك قد حدث في دقائق معدودات، ثم
صاحوا في الناس بالرحيل!! فعجبت من ظلمهم الناس وعدم تسهيل إجراءات مرورهم منذ
حلوا بساحتهم لكنه الظلم والطغيان، فنسأل الله العافية والسلامة.
ولما خرجنا من الحدود شكوت ما جرى لنا لسائق
سيارة «بيجو» وقلت له: قد أبقونا عندهم سبع ساعات بلا داعٍ ولا لزحام ولا لشيء إلا
التحكم والظلم، فأجابني بمرارة: أنتم محظوظون فإن لي أربعًا وعشرين ساعة هاهنا !
فإنا لله وإنا إليه راجعون!! وأذكر هنا كيف أزالت أوروبا الحدود والحواجز بين
دولها حتى صارت كدولٍة واحدٍة، وتذكرت الحدود الأمريكية الكندية التي عبرتها وأنا في
السيارة.. لم أنزل منها!!
ولأجل هذا التأخير في الطريق والجمارك فاتتني
رحلة «القاهرة» إلى جدة، فركبت إلى «المدينة» متعجّلًا لأدرك الحج؛ فقد كنت في
«القاهرة» اليوم الرابع من ذي الحجة لكن لم يقدر لي الحج ذلك العام، وحرمت منه؛
فأسأل الله أن يكون قد كتبه لي بكرمه ومنه.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل