العنوان أيها الساهر.. تغفو!
الكاتب د. ماهر حتحوت
تاريخ النشر الثلاثاء 12-يناير-1971
مشاهدات 21
نشر في العدد 43
نشر في الصفحة 8
الثلاثاء 12-يناير-1971
ما هو الشيء الذي تطلبه فإذا جاءك لا تشعر بمجيئه؟
ذلك لغز كان يقوله الأطفال للأطفال يتضاحكون، وكان الذي جاءه العلم منهم يلقي الإجابة بفخر وخيلاء، إن ذلك هو النوم.
وتحملق الأعين الطفلة متعجبة، ولكن متفكرة، مقرة صدق اللغز، وعجبه في آنٍ.
غير أن هذا الكرى الذي يأخذ بمعاقد الأجفان ليس لغزًا للصغار فقط، وإنما للكبار، وليس عجيبة للعامة منهم، ولكنه كذلك للخاصة من العلماء المتخصصين.
* فقد علموا فيما علمهم الله أن للنوم واليقظة في منح الإنسان مركزين متقاربين، وأن الخالق سبحانه ودعهما في فصوص الغدة النخامية في قاع المخ، وأن هذين المركزين يعملان تقريبًا في تعاقب يُشبِه تعاقب الليل والنهار، وفي توازن بينهما شديد التعقيد شديد الإحكام، وأن مركز اليقظة لو أتلف لتناوم الحيوان الذي يجربون عليه، أما إتلاف مركز المنام فيتركه كالسهران.
* غير أن ذلك الذي علموه لم يزدهم إلا حيرة إزاء حالة اليقظة وحالة المنام، وقالوا إن اليقظة ناتجة من ذلك العدد الهائل من الإشارات التي تصل إلى المخ عبر السمع والبصر والشم والجلد وأطراف الأعصاب.. ترسل إشاراتها كأنها تلكز المخ لكزًا وتوخزه وخزًا ليظل على حالة اليقظة منشطًا مركزها مفيدًا لمراكز المنام. وأصبح منطقيًا أنه لو أظلمت الحجرة وخفتت الأصوات فلا تسمع إلا همسًا واسترخت العضلات فإن النوم سرعان ما يثقل الأجفان.
* غير أن اللغز أكثر من ذلك تشعبًا وتعقيدًا؛ لأنه إن كان ذلك مجرد كذلك فما بال مشغول البال يُمهّد الفراش ويُسكِت الصوت ويُرخي البدن؛ فإذا الفراش وخز إبر وإذا القلق يفسد الراحة ويشد الأجفان؟!
وما بال ذلك المرهق يقود سيارته فيكاد يجعل من عجلة القيادة نوعًا من الوسادة؟!
وما بال العامل قد ينام وسط ضجيج آلات مصنعه أحسن نوم، بينما الأم توقظها همسة من طفلها من أعمق سبات؟!
* للمسألة إذن -بصرف النظر عن المراكز والفسيولوجيا والتشريح- صلة وثيقة بعادات الإنسان وتربيته وحالته النفسية، وإن تغيرت في كل حين وفي كل آن. أما أيان يتم ذلك الربط بين هذه العمليات وبين عمل تلك المراكز، وفي أية تلفيفة من لحاء المخ وكيف، فذلك لغز آخر مطروح.
* ترى هل انتهت الألغاز وملامح الإعجاز فيما نمارس كل يوم من يقظة ومن منام؟!
* الواقع يقول لا؛ لأنه حتى تعريف النوم ذاته ليس بالأمر اليسير، ولأن وصفه بالدقة هو غير ما ينبئ عنه النظر الدارج والعرف السيار، ذلك النوم ليس كله همودًا كما نتصور، ولا كله خمود وسكون وخمول، فرُبَّ نواح من النشاط يمارسها الجسم أثناء النوم أكثر مما يمارسها حين الاستيقاظ.
* لا تعجب أيها المتأمل، فإنه ابتداء من عضلة إغماض العين وهو أول وأقرب مظهر للنوم هذه العضلة تكون في منامنا في حالة النشاط، ذلك أنها تنقبض فتُغلِق الجفنين بحركة عضلية إيجابية؛ لأن الأصل في العين أن تكون مفتوحة وتنقبض حين نرمش لنُبلل العين ونلينها بالدموع، وتنقبض حين ننام، وتنبسط وتسترخي حين نستيقظ.
* ليست عضلة الإغماض فحسب، ولكن هذه هي الكلية تكون أكثر تركيزًا للبول والمعدة تكون أكثر غزارة في الإفراز، والأمعاء تكون أكثر حركة في ذلك الجسم الهامد أو الذي يبدو هامدًا وهو يضج بالنشاط.. أما القلب فبإذن الله يعمل بانتظامه الرائع، والغدد تُفرِز والمخ ولو رسموا كهربته فإنه أيضًا آنذاك في شغلان.
* ويا لعجب ما يفضي إليه التأمل في تلك الأحيان، أي شيء يستيقظ وأي شيء ينام، وما هي حالة النوم إذن وما هي حالة الاستيقاظ؟ فإن عزَّ التعريف الدقيق بكل الملامح فلا أقل من الاستدلال على الأولويات والملامح الأساسية في هذا العجب العجاب.
* لا شك أن أكثر هذه الملامح وضوحًا ورسوخًا هو هذه الحالة من الغياب الإنساني في أثناء النوم التي تناقض حالة الحضور في حين الاستيقاظ.
* شيء هائل من الإنسان يغيب يجعله نائمًا يخور، فيه أجهزة تعمل وأجهزة تستريح، ولكنه كله آنذاك.
* جسد، هو جثة لكنها تحتفظ بالحياة، حياة بيولوجية أقرب إلى المادية المجردة منها إلى الواقع الإنساني المتكامل.
* هو حينذاك يعيش ولكنه لا يحيى، فإذا قام من نومته فإن شيئًا ما يلبس ذلك الرداء المُلقى على السرير، ليُصبح فلانًا أو علَانًا يفرح أو يترح، يطمع أو يقنع، يسخط أو يرضى، على شاكلته التي عرف نفسه عليها وعرفه عليها الناس.
أجل هناك شيء هائل يذهب ويعود، يغيب ويحضر غيابه بقدر وحضور بقدر. قد رقد يتحدر إلى درجة ما بحاجة الجسم المرهق أو الأعصاب المتوترة أو المطمئنة أو النفس اللوامة أو العادة المُستحكمة أو غير ذلك من أشياء لا تُعدُّ ولا تحصى.
شيء هائل يحار أمامه العلم ويصمت، ولا يعرفه ولا يسميه؛ لأنه لا للمجهر خضع ولا لمشارط التشريح، ولكنه من أمر الله كان، ذلك أنه: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ (الزمر: 42).
صدق الله العظيم.
فإن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
ماهر حتحوت
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل