العنوان اختل تصورهم للإنسان.. فهبطت قيمته في مذاهبهم
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 22-أغسطس-1972
مشاهدات 21
نشر في العدد 114
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 22-أغسطس-1972
اختل تصورهم للإنسان.. فهبطت قيمته في مذاهبهم
أما الإسلام فقد رفع الإنسان.. تصورًا ومعاملة ووزنًا
اختلف العلماء والفلاسفة وغيرهم في وضع تعريف محدد للإنسان وتباينت أقوالهم بمدى تباين الزوايا التي ينظرون إليه منها.
ولا ضير علينا أن نذكر بعضها وأن نناقشه ونحن في طريقنا إلى تحديد ماهية الإنسان كما نراها نحن..
ولعل أشهر التحديدات التصنيفية للإنسان هي تلك التحديدات الساذجة التي تقول بأن الإنسان «حيوان ناطق» أو أنه «حيوان صاعد» أو «مفكر» أو «ضاحك» أو ما إلى ذلك.
وبرغم أن ثمة مذاهب وآراء قد ظهرت وانتشرت في أرجاء المعمورة تؤيد هذا التحديد الذي يجعل الإنسان حيوانًا -وإن كان يزيد على الحيوان شيئًا- وعلى الرغم من أن «داروين» في نظريته «النشوء والارتقاء» يصل نسب الإنسان بنسب «القرود» ويكتب كتابه «أصل الأنواع» كمحاولة لإثبات قرابة الإنسان بسلالة القرود ومشابهته لها وبخاصة ما يقوله تلميذه «كلاتش» عن تلك القرابة القوية بالقرود الثلاثة الكبيرة «الأورنج والشمبانزي والجوريلا».
برغم هذا وبرغم الفلسفات الأخرى المادية التي تصور الإنسان حيوانًا يعيش في دائرة «البيولوجيات» المادية ولا تصوره أبدًا مرتفعًا فوقها ذا مشاعر وقيم، برغم كل هذا إلا أني آبى هذا التحديد التصنيفي وأرتفع بالإنسان عن أن يكون حيوانًا لا فرق بينه وبين فصيلة الحيوان إلا في الدرجة فقط، وربما لحق به الحيوان يومًا وربما تخطاه، كما يقول داروين في نظريته «الانتخاب الطبيعي».
وإن الإنسان ليختلف في كثير من خصائصه اختلافًا «أيدلوجيًّا» لا يتعلق بالشكل ولا يقف عند المظهر والدرجة، ولن تكفي عدة تشابهات مظهرية لحشر الإنسان في زمرة الحيوانية مهما قيل بعد ذلك عن تفوقه في الدرجة.
ولئن كانت العمليات البيولوجية التي تقتضيها غريزيًّا بقاء النوع وبقاء الجنس توحي إلى البعض بقرابة أو صلة جوهرية بين الإنسان والحيوان تدفع إلى التطرف في ذلك تطرفًا يجعل الإنسان حيوانًا مهما ارتفع، إن كان ذلك فحسبنا ردًّا على هذا البعض أن هذه العمليات تقوم بها أيضًا مملكة النبات، فهي تتغذى وتنتقي وتصرف وتتلاقح وتنمو وتضعف إلخ، ولم يقل أحد بأن ثمة صلة نسب أو قرابة أو انتخاب طبيعي أو نشوء أو ارتقاء لمجرد هذا التشابه، بل إن النبات هو النبات، والحيوان هو الحيوان، والإنسان هو الآخر إنسان، هذه هي الحقيقة الأقوى والأبقى.
ولقد استمع الناس من أوروبا وغيرها طويلًا إلى النعرات القائلة بالحيوانية الإنسانية هذه، لكن «داروين وفرويد وكلاتش ولامارك ودالاس وريدلي» وغيرهم قد أصبحوا أثرًا رجعيًّا في أوروبا نفسها يجب أن يقضى عليه ليسود عالم إنساني جديد مرتفع، غير أن الشظايا التي تناثرت هنا وهناك عن الحيوانية الإنسانية قد آتت أكلها في المذاهب المادية التي ظهرت بعد ذلك محاولة هي الأخرى إيجاد تحديد للإنسان وطريق لحياته على ضوء إمكانياته التي أدركتها، ولا علينا إن نحن تعقبناها بكلمة موجزة كي يجوز لنا أن نعلن إنسانية الإنسان وأن نطالب بحماية إنسانيته من حيوانية العصر الحديث.
هذه أولًا هي «المادية التاريخية» التي راحت تحدد الإنسان بأنه «عملة اقتصادية في سوق الصناعة والتجارة تعلو وتهبط تبعًا للعرض والطلب».
وتلك -ثانيًا- هي «العقلية» التي راحت تقول عن الإنسان إنه شيء وهمي لا وجود له.
وهذه -ثالثًا- الوجودية التي تجعل الإنسان صفرًا على الشمال في لغة الكون وتصوره ضائعًا لا كيان له!!.
وغير هذه من المذاهب التي تختلف شكلًا وتلتقي مضمونًا عند نقطة الشك في «الإنسان» أو الثقة في سفليته وهبوطه، والتي امتلأ بها مسرح الفكر العالمي في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولهذا الالتقاء بينها آثرنا الرد عليها جملة وفي الرد عليها إثبات لقضية بحثنا الكبرى وهي «إنسانية الإنسان» ومحاولتنا جذب جيوش الكفر بالإنسان إلى حظيرة الإيمان به.
- هل حقيقة أن الإنسان عملة تجارية؟ هل حقيقة هو شيء تافه أو ذرة تائهة في الكون؟
وهل حقيقة أنه لا إنسانية على الأرض؟ أغلب ظني أن مبعث هذه التساؤلات في نفوس أصحابها ترجع إلى عدة التباسات عقلية أدّعي أنني وقفت على بعضها.. ولعل أول هذه الالتباسات هو سوء الفهم لتاريخ تطور الإنسان والوقوع في خلط تصوري كبير لم ينكشف معه معنى تطور وبقاء الجوهر.. بقاؤه في كل شيء مع الحكم بعدم بقاء الشكل في كل شيء، وأن أعضاء الإنسان الأول هي هي أعضاء الإنسان الحديث، ولم تتغير إلا مظاهر ثانوية، وهذا الخطأ في التصور يتبعه بالضرورة خطأ آخر أفحش وأقبح منه هو بناء القواعد الكلية الإنسانية من تصور لجزئية واحدة، وكل مذاهب الاستهانة بالإنسان أخذت قضاياها من حقبة تاريخية واحدة هابطة ولم تتسع النظرة لديها، فلم تتضح بالتالي الرؤية الواعية، ولكي تتضح أمامنا رؤيا الإنسان كاملة شاملة هيا بنا نسير معه في جولة ننظر فيها بجوانبه المختلفة على نحو كلي لنصل من ذلك إلى وضع تحديد لائق بالإنسان نستبين معه مركزه في الكون، ولنشرف من هذه الجوانب الذاتية المستوعبة لكل تاريخه الإنساني على المستقبل المرتقب للإنسان العظيم.
ومنذ ستة آلاف سنة فقط بدأ عمر الإنسان المكتوب على هذه الأرض، ولا شك أن الإنسان قد ظهر على الأرض قبل ذلك بآماد طويلة، وسرعة الإشعاع المعدني تقدر للإنسان عمرًا على هذه الأرض بملايين السنين الشمسية، وقد قدر «هيرودوت» عمر الإنسان الحضاري بأحد عشر ألف سنة، ولنترك نحن كل هذا ولنتحدث فقط عن مرحلة صراع الإنسان في سبيل استخلاص إنسانيته من براثن الغابة وبراثن الحيوانات وبراثن «البيولوجيات» التي تقيده، ولنُلق الضوء على غريزتي بقاء النوع وبقاء الذات، أعني غريزتي الجنس والمَعِدة باعتبارهما أهم مأخذين يؤخذان على الإنسان.
وعرف نظام الزواج أي تخصيص رجل لامرأة وامرأة لرجل على تفاوت في هذا التخصيص.
وبودي أن أسأل هنا: ما الذي حدا بالإنسان إلى هذا التطور؟ وإذا كان الإنسان «لا إنسانًا» أو أنه يندرج في هذه الغريزة مع سلسلة الحيوانات الأخرى، فلماذا لم نسمع بتطور أي حيوان إلى هذا الحد؟ والحق أن في الإنسان خاصية اسمها الإنسانية، وهو كما قال «هكسلي» يمتاز بالضبط والإرادة وحرية الاختيار بين الدوافع وعدم الخضوع المطلق لدفعة الغريزة «...» فالحيوان في الواقع لا يملك معايير ثابتة ولا مقياسًا للأخلاق» هذه «العملية ضبط» أسميها أنا إنسانية، وإذا كان هكسلي قد اعتبرها مجرد ميزة فإني أعتبرها عنصرًا جوهريًّا غريزيًّا في الإنسان لا يقل عن غريزة بقاء النوع وبقاء الذات، وإذا كان ثمة أفراد من البشر تغلب عليهم «غريزة الجنس» أو «غريزة المعدة» فإن ثمة أفرادًا كثيرين تغلب عليهم غريزة الضبط والتسامي، ولا مجال لتفضيل غريزة على أخرى في رأيي الخاص.
ولندع غريزة «بقاء النوع» -قليلًا- ولنُمسك بأهداب غريزة «بقاء الذات» ومن البديهيات المعروفة أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا غذاء وأن نشاطه الجسدي والفكري والنفسي كله يتوقف على كمية من الغذاء يتناولها بين الحين والحين، ولكن سؤالًا يمكن أن يُوضع إلى جانب هذه الحقيقة: إن الحيوان هو الآخر يقوم بهذه العملية، فلماذا لم يرتفع الحيوان إلى مرتبة الإنسان؟ وهل نستطيع أن نقول إن هذه العملية هي التي تصنع إنسانية الإنسان؟ وإذا كان كذلك فلماذا لم يستوِ الناس عقلًا وفكرًا أو أخلاقًا ما داموا جميعًا يتناولون نفس المواد الغذائية؟
وهل يمكننا أن نقول: إن قصيدة الشعر التي أكتبها أنا واللوحة التي أرسمها أو الفكرة التي أبتدعها أو النشوة النفسية التي أحس بها هي المعادل الرياضي لهذا الغذاء؟!!
كلا كلا... إن الإنسان إنسان، إنسان حتى وهو يقوم بتأدية وظائفه البيولوجية ما دام ذلك في حدودها المشروعة، والذين يقولون بغير ذلك إنما يتجاهلون حقائق خالدة.
- فإن غريزة أخرى تتضافر مع هذه الغريزة تؤكد هي الأخرى حقيقة الإنسان، أعني غريزة السيادة.
فالإنسان منذ وُجِد إلى الأبد لا يزال ينتقل من اختراع إلى اختراع ومن آلة إلى آلة، محاولًا أن يحقق في عالم الواقع طاقاته النظرية الفكرية الكامنة، وغريزة السيادة كما أسميتها ليست من صنع عصر واحد حتى يقال بعدم أصالتها، وهي في مضمونها تؤكد أصالة الإنسان كعنصر مستقل عن العناصر الأخرى الحيوانية والنباتية التي فطرت على العبودية له، وهناك غريزة أخرى لا تقل أهمية عن الغرائز السابقة وهي غريزة «التدين» فالإنسان مشدود دائمًا إلى أشواق عليا مهما اختلفت فكرته عن الإله، وإذا علمنا أن الأديان كلها تعمل على الارتفاع بالإنسان عن مستوى الحيوانية والمادية وتجذبه إلى الإنسانية العالية، إذا علمنا ذلك أدركنا لماذا كان التدين غريزة فُطِر عليها الإنسان.
إنه بعض إنسانيته بل هو كلها، والأمر كما يقول «هنري برجسن» من أنه «قد توجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات ولكنه لم توجد قط جماعة بدون ديانة»..
وفي بداية طريق الإنسان كان يتخبط في شق طريقه إلى تحقيق إنسانيته، وراح بعض المفكرين يبنون له جمهوريات في عالم الخيال وكانت «جمهورية أفلاطون» وأمثالها «والمدن الفاضلة» وغيرها مثلًا كلاسيكيًّا لهذا النوع من التفكير، حتى جاءت الأديان فأخذت بيده إلى الإنسانية الحقة، وآخر هذه الأديان وخاتمها هو «الإسلام» الذي يجعل الإنسان خليفة في الأرض والمسؤول بين جميع المخلوقات والمَدِين بعقله فيما يرى ويسمع وبوجدانه لما يحس ويشعر، والإنسانية كلها من أسلافها إلى أعقابها أسرة واحدة لها نسب واحد وإله واحد..
* * *
هذه هي حقيقة الإنسان الذي أريد أن أصل إليها في عملية تحديدي له هو -في رأيي- كائن منفصل كل الانفصال عن الكائنات الأخرى، وإذا كان لا بد من صلة بينه وبين الكائنات الأخرى فهي صلة السيد بالعبد، صلة الخليفة في الأرض بالعبيد المسخرين له وهو يمتاز -أيدلوجيًّا- ومن داخله وفطرته عن هذه الكائنات.
ولا داعي لأن ننظر إلى بعض الفضلات القذرة في جسم الإنسانية العالية ونجعل منهم «مقطع» النظر إليها كلها؛ فالشذوذ طبيعة الوجود وليست ثمة قاعدة مطلقة إلا الحق المطلق، وهو خالق الكون.
إني لأرى الإنسان في داخلي وأرصده في أعماقي، ولن أذهب بعيدًا في الاستدلال على حقيقة أحسها أنا، وليذهب وحدهم هؤلاء الذين لا يحسونها، ليذهبوا إلى دنيا النظريات أو المنطقيات فلن يغير ذلك من الواقع شيئًا، وستبقى شعلة العقل التي تضيء للإنسان طريق إنسانيته، وتأخذ بيده إلى آفاق الفكر العليا، ستبقى خير دليل على إنسانية الإنسان... مهما تقوّل المتقولون!!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل