; الإنسان... بين الجبر والاختيار | مجلة المجتمع

العنوان الإنسان... بين الجبر والاختيار

الكاتب محمد سلامة جبر

تاريخ النشر الثلاثاء 01-أغسطس-1972

مشاهدات 23

نشر في العدد 111

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 01-أغسطس-1972

ودليل آخر أناقش به ما ذهب إليه أستاذنا الشهيد رحمه الله، فأقول والله المستعان:

كيف يمكن أن يحقق الله إرادته من موت فلان المقتول على الصفة التي ذكرنا، بينما الأمر معلق على حدوث إرادتين حريتين: إرادة القتل من القاتل، وإرادة الإثارة من المقتول والتي هي سبب القتل، فلو شاء أي منهما ألا يفعل لما تحقق المراد الإلهي -هذا من لازم المذهب- فتكون إرادة العبد هي المستقلة بإحداث الأحداث، والله -تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- يلاحق اختبار العباد، ويرتب على اختيارهم نتائج اختبارهم، ثم يوصف فعله هذا سبحانه، بأنه تحقيق لمشيئته وإمضاء لقدره، وإن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهل يليق هذا التصور بذات الله وإرادته المطلقة التي تنزهت عن أن يقترح عليها مقترح من البشر أو غيرهم، أو أن تكون تابعة لاختيارهم، منتظرة سلوكهم لترتب عليه ما يقضي به قانون الأسباب والمسببات، لا وربي. ويقيني الجازم أن أستاذنا الشهيد لو اطلع على إجماع السلف الصالح في وسائل القدر لما تردد طرفة عين عن التسليم له، والإيمان به، ولقيا الله عليه.

ذلك أنه كان -رحمه الله- وقافًا عند كتاب الله، رجاعًا إلى كل حق يتبين له أنه من عند الله، دائب البحث دائم النظر في كل ما يوصله إلى الله، وإنه لمن أشد ما جذبني إليه وأعظم ما أعجبني فيه، ما لمسته من خضوعه الكامل لله، وتسليمه التام له، حتى لقد ألقى بعديد من الكتب التي كان قد كتبها قبل إشراق أنوار الحق في قلبه، ألقاها غير آسف عليها ولا يتطلع إليها، لمجرد أنه قد تبين له في صفاء العزلة وضياء الإيمان إنها لا تحتوي على الحق الذي يدعو إليه، فجزاه الله عنا خير ما جزى به داعيًا إليه وهاديًا إلى سبيله.

اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.

وأعود فأقول: قد انعقد الإجماع والحمد لله على ما أقول، فلا خيار من بعد لي ولا لغيري ممن اطلع عليه وبلغت كلمة الحق إليه، أن يترعن ويسلم، إلا أن يأتي ببرهان يخرق الإجماع، ويبطل أدلة الأتباع، أو لا حجة له ولا سماع.

فإن قلت: فمن حكى الإجماع؟ أقول: حكاه الإمام النووي -رحمه الله- في كتاب الأذكار في مقام تأويل قوله صلى الله عليه وسلم «والشر ليس إليك» قال رحمه الله: «وأما قوله صلى الله عليه وسلم: والشر ليس إليك» فاعلم أن مذهب أهل الحق من المحدثين والفقهاء والمتكلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين أن جميع الكائنات خيرها وشرها، نفعها وضرها، كلها من الله سبحانه وتعالى، وبإرادته وتقديره، وإذا ثبت هذا فلا بد من تأويل هذا الحديث، فذكر العلماء فيه أجوبة أحدها: وهو أشهرها، قاله النضر بن شميل والأئمة بعده، معناه: والشر لا يتقرب به إليك، والثاني: لا يصعد إليك إنما يصعد الكلم الطيب، والثالث: لا يضاف إليك أدبًا، فلا يقال: يا خالق الشر وإن كان خالقه، كما لا يقال: يا خالق الخنازير وإن كان خالقها.

والرابع: ليس شرًا بالنسبة إلى حكمتك، فإنك لا تخلق شيئًا عبثًا والله أعلم، انتهى كلامه بنصه «الأذكار ص ٤٤ طبعة  الحلبي».

ونعود لنتم مناقشة أستاذنا رحم الله فيما نقلناه عنه، فأقول:

الوجه الثاني: لو سلمنا أن الله رتب الهدى على المجاهدة، والفلاح على التزكية، والأكنة على الأعراض، وأن المجاهدة والتزكية والأعراض كل ذلك راجع إلى العبد بإرادة حرة مستقلة تملك التوجه والاختيار كما يقول أستاذنا، لانتهينا من ذلك إلى التردي في أودية سحيقة:

منها: أـ أن من آمن فإنما آمن بحوله وقوته؛ إذ اختار الهدى على العمى، واتجه إلى ذلك بقلبه بمحض اختياره فعلم الله منه ذلك، فرتب عليه ما فضت به سنته، وسبقت مشيئته من هدايته وإمداده، فالفضل إنما يعود للعبد؛ إذ توجه باختياره إلى الهدى دون توجيه من الله، وإلا لبطل اختياره ولا يسمى مختارًا، ولكن لما ترك وشأنه بعد أن أعطى القدرة على الاختيار والتمييز بين الحق والباطل، فاختار الهدى واتجه إليه وجاهد فيه، فهنا فقط يبدأ الإله في العمل، -تعالى سبحانه وتقدس- فيتم للعبد ما أراده لنفسه، وهذا معنى قوله تعالى عند القائلين بالاختيار ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين (العنكبوت: ٦٩)

وبناء على هذا الفهم، يكون العبد هو الخالق لإيمانه بالحقيقة، وهو المختار المستقل الاختيار، وله الحق أن يمن بإسلامه ويعجب بنفسه، فإن قالوا: إنما وجه قوله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (الحجرات: ١٧)

هو أنهم لولا هداية الله لهم إلى الطريق المستقيم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ما كانوا ليؤمنوا، فالمنة لله وحده إذ بين لهم طريق الهدى لا للبشر في كونهم اختاروا هذا الهدي، فلا يليق بمؤمن أن يمن بإيمانه وهو إنما اهتدى بإنزال الله له الهدى.

 قلت: إنما بعث الله الرسل للناس بالحق من عنده لتقوم عليهم الحجة ويستقيم تكليفهم، ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: ١٥)

فأصل التكليف بيان ما به التكليف، وذلك بإرسال الرسل، أما قبول ما جاءوا به فأمر زائد على إرسالهم، راجع إلى اختيار العبد على مذهب القائلين بالاختيار، فحق للعبد أن يفخر ويتعالى إذا أصاب الحق حين فرق بين الهدى والضلال؛ فاختار ما استقلت به إرادته وانبعثت لقبوله سريرته فإنه أصل إيمانه، واختياره الحر سبب كمال هدايته، فكيف لا تعجبه نفسه؟ بينما لو علم أن ذلك من الله فضلًا منه ونعمة من غير سابقة منه استأهل بها ذلك المقام، لتطامن لله وخضع، وذل قلبه وخشع، ولم يبق فيه ذرة من كبر أو عجب، فالذي من عليه بالهدى قادر على سلبه

 ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (الأعراف : ٩٩)

والذي يسره للحسني قادر على أن يختم له السوأى والعياذ بالله، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، كما جاء بذلك الحديث الصحيح، ومن هنا كان خوف العارفين بالله رضي الله عنهم، فقد روي عن بعضهم أنه قال: «ليتني كنت شجرة تعضد»، وعن آخر: «ليت أمي لم تلدني»، وعن ثالث: «أنتم تخافون المعاصي ونحن نخاف الكفر»، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم من يجاهد وإن يفلح من يتزكى يقول في دعائه: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قالوا أو تخاف يا رسول الله؟ قال: «وما يؤمنني والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء» (رواه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه وقال حديث حسن).

ب- ومنها: أن يلزم على ذلك كون عدد من آمن، وعدد من كفر، وعدد من نافق، غير راجع إلى إرادة الله، وإنما إلى إرادة البشر الحرة، هم قرروا ذلك وأرادوه باختيار كل منهم طريقه، ثم أقرهم خالقهم على ما أرادوا لأنفسهم لأنه قد سبقت مشيئته أن يدعهم يشاءون متى شاءوا أن يشاءوا، ولا يشاءون متى شاءوا ألا يشاءوا، وعليه؛ فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذواتهم وأعدادهم هم الذين رشحوا أنفسهم لذلك المنصب العظيم؛ حين اتجهوا إلى الهدى، وجاهدوا فيه فهداهم الله سبله، ولم يكن تدبيرًا من الله في الأزل أن يخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن معين ومكان معين، وبين أشخاص معينين، يؤمن بعضهم ويجحد آخرون، إن هذا كله لم يكن من صنع الله على لازم مذهب القائلين بالاختيار، وإنما ساهم في صنعه إرادة الإنسان الحرة التي منحهم الله إياها وتركها تعمل في مشيئته العامة لتساهم في صنع التاريخ.

غير أن التاريخ لسان ناطق يشهد بأبلغ بيان وأجلى برهان وأظهر إعلان، أن صنع الله الذي أتقن كل شيء، المتفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت، والذي له وحده الخلق والأمر والتدبير والقهر لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

ج- ومنها: أن أحداث التاريخ كما وقعت كانت بمحض الصدفة إذ لو تغير الاختيار لتغيرت الأحداث، فالذي صنع التاريخ على ما هو عليه إنما هم البشر، وقد تقدم بطلانه.

د – ومنها: أن يلزم أن يطمئن الإنسان على إيمانه إن اختار الهدى على العمى؛ لأن الله سبحانه لا يضل من اختار الهدى فهو باختياره الهدى واتجاهه في حصن حصين، وقد تقدم أيضًا بطلانه بما جاء في دعائه صلى الله عليه وسلم.

ه‍ - ومنها: إنه يلزم من ذلك -أي القول بالاختيار- تعلق مشيئة الله الأزلية المطلقة بمشيئة العبد الحرة -على قولكم ـ فمتى شاء العبد شاء الله، ومتى لم يشأ العبد لم يشأ الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا– بل من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم، مشيئة أزلية مطلقة، حرة عن كل قيد، منزهة عن كل قيد، منزهة عن كل إملاء، مبرأة عن كل توجيه، سابقة لكل مشيئة، محدثة لها، متقدمة لكل اختيار، خالقة له، متبوعة وليست بتابعة، سابقة وليست بلاحقة، مؤثرة وليست بمتأثرة، فسبحان من له الخلق والأمر: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(الأنبياء: ٢٣)

وإنه إبراء لذمة أستاذنا رحمه الله، يلزمني أن أنبه على أن هذا الذي ذكرته من الألف إلى الهاء، لم يقل هو بشيء منه، وإنما هو من لوازم ما ذهب إليه، ولازم المذهب ليس بمذهب على التحقيق، ولو علم رحمه الله ما يلزم على قوله لما قال به، هذا ظننا به، ودليلنا عليه، ما نعلمه عنه غفر الله لنا وله، وألحقنا به في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، اللهم آمين.

الوجه الثالث: قوله رحمه الله: «وكل شيء إنما يكون بأمر الله، ومن أمر الله أن يهدي.. إلخ».

قلت: إن كان المعنى أن الله أراد هدى فلان فوفقه لسبب الهدى -وهو الاتجاه إليه والمجاهدة فيـه ـ ثم رتب سبحانه على السبب نتيجته وثمرته، إن كان هذا هو المعنى المراد فهو حق، وإن كان المراد أن الله خلى فلانًا وإرادته حتى إذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه، وإن أعرض عن الهدى وتولى أضنه، والإنسان في كل ذلك بمعزل عن تدخل الإرادة الإلهية في مصيره ابتداء، فهذا أمر جلل يجر إلى سلسلة من الاعتقادات الباطلة سبق بيانها والرد عليها.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

خير أمـة أُخرجت للنـاس!

نشر في العدد 14

30

الثلاثاء 16-يونيو-1970

مع القراء- العدد 14

نشر في العدد 14

28

الثلاثاء 16-يونيو-1970