; ارحَموا تُرحَموا | مجلة المجتمع

العنوان ارحَموا تُرحَموا

الكاتب د. إيمان مغازي الشرقاوي

تاريخ النشر السبت 01-يوليو-2023

مشاهدات 20

نشر في العدد 2181

نشر في الصفحة 58

السبت 01-يوليو-2023

 

إيمان مغازي الشرقاوي

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتُها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعتْ إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمَتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار» (رواه مسلم).

إنها الرحمة التي تجلت من هذه الأم المسكينة تجاه ابنتيها فآثرتهما بنصيبها من هذه التمرات الثلاث، وقد كانت جائعة مثلهما! لكن القلب الرحيم لا يعرف الأنانية وحب الذات، وإنما خُلقه الرقة والعطف والإيثار والحب؛ لذا كان جزاؤها عظيماً في الدنيا والآخرة، فخُلد ذكرها وحُمِدَ فِعلها وصارت مثالاً للرحمة والرحماء، أما في الآخرة فقد رحمها الله فأوجب لها الجنة وأعتقها من النار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارْحمُوا تُرحَمُوا» (رواه أحمد).

إنها الرحمة التي ما لامَسَتْ قلباً إلا وألانته، ولا بُذلت لمحزون إلا خففت من حزنه، بها يواسَى المصابون، ويتداعَى المؤمنون، فيكونون كالجسد الواحد حين تدفعهم للشعور بأحوال إخوتهم، ومعرفة حاجاتهم، والإحساس بآلامهم، ولِمَ لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله» (رواه مسلم)، وقال: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه مسلم).

وهي الرحمة التي تدفعهم إلى السعي في تفريج كربات المكروبين منهم وتنفيسها عنهم، فتنفيس الكربات، والتيسير على المعسرين في المال بإنظارهم أو بإغنائهم، وستر عورات المسلم والسعي في حاجته، كل ذلك ما هو إلا من آثار الرحمة التي يضعها الله في قلوب عباده، ليجزيهم عليها بما يحبون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (رواه مسلم).

إن الله عز وجل يحب الرحمة وهو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، ومن أسمائه «الرحمن الرحيم»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر» (تفسير البغوي)، كما وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالرحمة، فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).

وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أحسن مثال في الرحمة، ودعانا إليها ورغبنا فيها فقال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء» (أخرجه الترمذي)، فكان صلى الله عليه وسلم رحيماً في بيته مع أهله، رحيماً مع أصحابه، رحيماً مع الصغير والكبير، والطير والحيوان والجماد، بل رحيماً مع أعدائه!

ولأهمية التحلي بالرحمة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، مرغباً فيها وداعياً إليها، «ذلك لأنَّه ما من معاملة من المعاملات، أو رابطة من الروابط الاجتماعية أو الإنسانية، إلا وأساسها وقوام أمرها الرحمة، فمِن علاقة الإنسان بنفسه التي بين جنبيه، وعلاقته بذويه وأهله، إلى علاقته بمجتمعه المحيط به، إلى معاملته لجميع خلق الله من إنسان أو حيوان، كل ذلك مبني على هذا الخلق الرفيع، والسَّجيَّة العظيمة» (الدرر السنية).

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعلم أصحابه هذا المفهوم الواسع للرحمة، فقال: «لن تؤمنوا حتى تراحموا»، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: «إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة» (رواه الطبراني)، وذلك حتى تتسع الرحمة وتمتد وتؤتي ثمارها من الإصلاح والتآلف، وتؤدي إلى أن نرحم مَن حولنا، فنرحم الصغير بالعطف والشفقة عليه والرفق في التعامل معه وحُسن تربيته، ونرحم الكبير بإجلاله وتوقيره وعونه وقضاء حوائجه لا سيما في ضعفه وشيبته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا» (رواه أحمد).

وهي الرحمة بالفقير بالإحسان إليه وإغنائه عن ذل السؤال، ورحمة بالجاهل فيُعَلَّم برفق وصبر، ورحمة بالذليل ببذل الجاه له والرفع من شأنه، وهي الرحمة بالعاصي فيُنصَح نصحاً رفيقاً ويوعظ بشفقة وحب،

وتمتد الرحمة لتصل إلى الكافر فيُدعَى إلى الدين الحق بالحكمة والموعظة الحسنة وبالقدوة الصالحة والخلق الطيب؛ عله يهتدي ويُسلِم فينجو ونؤجَر، أو يكف أذاه فنَسلَم منه.

إن الرحمة ورقة القلب من أسباب دخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقسِط متصدق موفَّق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» (رواه مسلم)، وإذا نُزعت الرحمة من قلب إنسان فهو لا شك محروم، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: «لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلا مِن شِقِيٍّ» (أخرجه أبو داود)؛ لذا فقد حذرنا من الغلظة والقسوة ولو كانت مع الحيوان البهيم، فقال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» (رواه البخاري)، فإذا كانت هذه العقوبة من الله تعالى لمن يؤذي الحيوان فكيف بمن يؤذي عباده ظلماً بغير حق، لا شك أن هذا أشد جُرماً وأعظم خطراً، وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم من عاقبة ذلك فقال: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» (رواه مسلم)، وقال: «لا يَرحم اللَّهُ مَن لا يَرحم الناس» (رواه البخاري).

مَن نظر إلى دين الإسلام بإنصاف وعدل فسوف يتجلى له كم أنه دين الرحمة والسماحة والعدل والحب، وهذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، وهذه شريعة الله تعالى شريعة الرحمة؛ حيث إنها لا تخلو من الرحمة في أحكامها، وأوامرها، ونواهيها، وأخلاقها، بل وفي جانب الحدود والعقوبات فهي أيضاً لا تخلو فيها من الرحمة، بالجاني والمجني عليه، بل الرحمة بمجموع أفراد المجتمع كله.

وقد قال أهل العلم: «إن الشريعة كلها مبنية على الرحمة في أصولها وفروعها، وفي الأمرِ بأداء الحقوق سواءٌ كانت لله أو للخَلق، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإذا تدبرنا ما شرعه الله عز وجل في المعاملات والحقوق الزوجية وحقوق الوالدين والأقربين والجيران وسائر ما شرع، وجدنا ذلك كله مبنياً على الرحمة، فقد وسِعتْ هذه الشريعة برحمتها وعدلها العدو والصديق، ولقد لجأ إلى حصنها الحصين الموفقون من الخَلق» (موسوعة نضرة النعيم، ج6).

هذه لمحات عن خلق الرحمة، الذي وصف الله به نفسه سبحانه، وجعله خُلق أنبيائه ورسله، ودعا إليه عباده ليتقربوا به إليه، فكم نحن بحاجة إلى التحلي بهذا الخُلق الرائع وهذه العبادة العظيمة! وحين تصير الرحمة سجيَّة وعادة لنا، وتفشو بيننا؛ سيأتي الحب ويحصل التوادّ، ويكثر البر والتواصل، ويظهر الإيثار، وتوصَل الأرحام، ويُرعَى الآباء والأمهات، فتتماسك الأسَر، ويجد الأولاد مَن يحتويهم ويضمهم، ويكون الزوج معاشراً بالمعروف لزوجه، والصديق رحيماً بصديقه، ويحصل التآلف وتقوى المجتمعات، ويحل الأمن والأمان، ويسعد الإنسان.

 

الرابط المختصر :