; الأمن الثقافي: حق المثقفين في ذمة الأمة | مجلة المجتمع

العنوان الأمن الثقافي: حق المثقفين في ذمة الأمة

الكاتب خضير جعفر

تاريخ النشر الثلاثاء 05-يناير-1999

مشاهدات 14

نشر في العدد 1333

نشر في الصفحة 41

الثلاثاء 05-يناير-1999

الثقافة -كما نفهمها- مسؤولية، والتزام، واستقامة، واهتمام، وحفر في عمق الوجود والوجدان، وتعاط مع الكلمة الطيبة، والفكرة الصائبة، والرأي السديد.

والمثقفون -عبر الزمان والمكان- هداة أمم، وحداة دروب انتصبوا على مفترقات الطرق، يلوحون للباحثين عن النور صوب الفجر إن «الطريق من هنا» وقد امتلك المثقفون -بما أوتوا من رصيد معرفي- قدرة على الفرز، ووضوحًا في الفهم، أهلهم لاستباق الأحداث، وكشف المغطى من الواقع، وإدراك ما خفي من زواياه على غيرهم، ولذلك شكلوا منائر وعي، وانتصبوا علامات هدى، مؤكدين مقولة أن الأمم بمثقفيها.

وبقدر ما يتعمق وعي المثقفين، وتكثر أعدادهم بين الجماهير، تتلون الحياة بلون المعرفة، ويهبونها من أرواحهم روحًا وريحانًا، وخاصة أن مهمة المثقف تتركز في تقويم المعوج من الفكر والممارسات، وهو ما لا يروق لمنحرفي السلوك والأفكار، لا سيما إذا كانوا ممن يمتلكون أسباب القوة وأدوات القمع، ولذلك يجد المثقف نفسه في مواجهة طغيان القوة، وفرسان القمع، وليتحول إلى ضحية مقموعة في معركة غير متكافئة الأطراف، تتموضع الكلمة الطيبة، والفكرة السديدة في جبهة قوة المنطق، بينما تحتشد أدوات البطش وأساليب القمع في خندق منطق القوة، وتبدأ المساجلة لكي لا تنتهي في أغلب الأحيان إلا بتكسير الأقلام، وكم الأفواه بأكثر من لجام، وتجريم الفكر وتحريم الكلام، ولا تنكشف غبرة الصراع إلا عن تمزق جيش الثقافة في وديان ثلاث، أولها استزلام للضعفاء منهم، وضمهم إلى جوقة المهرجين في بلاطات الدكتاتوريات ووسائل أعلامها، لتدفع ضرائب خسارة المعركة تنظيرًا للانحراف، وتبريرًا للتردي والاستضعاف والاستخفاف، بعد أن سدت بوجهه سبل الخلاص، وهي أسوأ عاقبة يمكن أن يلقاها من أبصر نور المعرفة، فساقته أقداره إلى أنفاق الظلام مقهورًا:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى *** عدوًا له ما من صداقته بد

وثانيهما: فريق أثر الصمت فمات بموت كلماته في صدره حبيسة تشكو إلى الحق ظلم الخلق، ووأد الحقيقة، وإذا ما قدر لهؤلاء الصامتين أن يخرجوا من أسر الصمت يومًا، فلا نراهم إلا أشباحًا لا تحكي الواقع، ورموزًا لا يفهمها السامع، وطلاسم تستعصي على الحل، خشية أن يفهم همهماتهم وهمسهم من يسيء الظن بهم وبما يقولون، فينقلب عليهم سبعًا ضاريًا لا يرحم فيهم لحمًا ولا عظمًا، ويبقى فريق ثالث أثر المجاهرة بالحق، فدفع فواتير آرائه سجنًا، وتعذيبًا وقتلًا، وتبعيدًا إن كان للمنافي در موصل.

وهكذا تحرم الأمة من عقلها ويضطهد وعيها، ويقتل بين يديها من هم أهل للإكرام والاحترام والاهتمام ليعيث الطغيان في الأرض فسادًا، ولا من مستنكر، ويدفع الأمة إلى المخاطر، ولا من رادع أو مانع.

وأحسب أن أمتنا لم تخسر ما خسرته لولا تعطيل الفكر، وإقصاء المفكرين؛ ولذلك توالت عليها النكسات، لأن الطغاة المغرورين لم يخرجوها من أزمة إلا وأدخلوها في أخرى هي أخطر من سابقتها، وحسبنا أن نقرأ تاريخنا المعاصر، لنرى أين أوصل الساسة الأميون أممهم، وفي أي حضيض أركسوها، بعد أن غاب القلم الراعف بالحق، وحبست الكلمة الهادفة الهاوية في الصدور، وغيب العقل والفكر، واغتيل المثقف والمفكر.

لذلك آن الأوان لأن نبحث عن أمن للثقافة، وأمان للمثقفين؛ لأننا بدونهما نخسر كل يوم موقعًا، وندفع كل ساعة بأممنا نحو جرف الهاوية، وحافات الانهيار، وأن توفير الأمن الثقافي لا يقل أهمية عن الأمن الاقتصادي والسياسي والعسكري، وبدون الأمن الثقافي فليس هناك من أمن للاقتصاد والعباد، وسلامة البلاد.

ولأن الأمة التي يضطهد فيها المثقف أمة مكبلة، مسلوبة العقل والإرادة، ومجتمعًا تصادر فيه حرية الفكر، وفكرة الحرية، مجتمع محكوم عليه بالفناء والبلاء؛ ولذلك لا بد من صرخة في وديان القهر لكي ننقذ الكلمة، والفكرة والحرية، والإنسان من سطوة الطغيان، والقمع، والاستبداد.

إن الأمن الذي نريده للمثقف يعني حمايته من القهر والفقر، والاضطهاد، والاستبداد، وعندها سنفتح باب الحرية للأمة كلها، وما لم نحرر مثقفينا مما يعانونه من حرمان وهوان، فليس من حقنا أن نطالب بالحرية، أو أن نحلم بالتحرر، والانعتاق والانطلاق، وتلك مسؤولية الأمة، وأبسط حقوق المثقفين باعتبارهم حملة همها، وفرسان وعيها، وحصونها الحصينة، في وجه الغزاة والطغاة، والبغاة.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

نشر في العدد 42

34

الثلاثاء 05-يناير-1971

نشر في العدد 479

53

الثلاثاء 06-مايو-1980

نشر في العدد 1046

30

الثلاثاء 20-أبريل-1993