العنوان الإنسان بين الجبر والاختيار «القدر» ليس هو «العلم»
الكاتب محمد سلامة جبر
تاريخ النشر الثلاثاء 25-يوليو-1972
مشاهدات 29
نشر في العدد 110
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 25-يوليو-1972
صفحات حرة...
الإنسان بين الجبر والاختيار
«القدر» ليس هو «العلم»
بقلم: الأستاذ محمد سلامة جبر
• قال الشيخ محمد الغزالي في كتابه «هذا ديننا» ص ٢٠ «القضاء والقدر كلمتان مبهمتان أو مرهقتان عند كثير من الناس على أنه بعد التأمل سترى إنهما يرمزان إلى معنى شائق دقيق يثلج الصدر ويطمئن الفكر، أيخالجك شك في أن الله يعلم كل شيء؟ إذا استيقنت بعد الأدلة المقنعة أنه خالق هذه العوالم، هل تتردد في أنه خبير بكل ذرة فيها محيط بمبتداها ومنتهاها، مدرك لمستقرها ومستودعها؟
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.
إن الحكم بأن رب العالمين يعرف كل شيء في العالمين أمر بديهي، وكلما ازدادت بصيرة الإنسان في دراسة هذه العوالم ازداد يقينه أن العلم الإلهي في السعة والشمول، بحيث لا يمكن أن يند عنه شيء فيما مضى بين أيدينا أو فيما يجيء به الغد القريب أو البعيد، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. لكن، ما هو هذا الكتاب المبين؟ إنه سجل العلم الإلهي الذي مرت بك صفته، سجل واع مستغرق للوجود كله ولما كان أو يكون فيه» انتهى كلامه بنصه.
قلت: تفسير القدر بالعلم الإلهي المحيط، والكتاب بسجل العلم، ثم الاستدلال بذلك على حرية الإنسان في اختيار اتجاهه، هذا القول باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن واحدا من الصحابة أو التابعين لم يفسر القدر بمجرد العلم الإلهي، والاعتماد في أمثال ذلك على النقل وحسب.
الوجه الثاني: أن العلم يكون الإله عالما بالأشياء كلها علما تاما محيطا سابقا على وجودها، أمر بديهي من بديهيات الشرع، لم يخالف فيه أحد البتة، بينما القدر قد وقع فيه الاختلاف بين أئمة الفكر، وجهابذة النظر، حتى لم يخل عصر من ذلك، فلو أن مسألة القدر كانت هي «العلم الإلهي الشامل» لما رأينا شيئاً من ذلك الخلاف قد وقع، فدل ذلك على أن معنى «القدر» أمر آخر وراء العلم.
الوجه الثالث: أن الآيات المحكمة والأحاديث الصحيحة المبينة، جاءت بوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره على وجه ينبئ بأنه أمر سوى العلم المحيط.
الوجه الرابع: جدال بعض الصحابة في القدر، ومعارضتهم للآيات بعضها ببعض، وخروج الرسول- صلى الله عليه وسلم- إليهم، وغضبه منهم، ثم إقسامه عليهم ألا يعودوا لمثله أبدا، كما جاء في الحديث الصحيح المذكور في الفصل الثاني من هذا البحث، كل ذلك يدل على أن الصحابة- رضوان الله عليهم- فهموا أن القدر أمر زائد على العلم الإلهي المسلم الثبوت، وأنهم حاولوا معرفة كنهه وحقيقته حتى عارضوا كتاب الله بعضه ببعض، فغضب رسول الله- صلى الله عليم وسلم- غضبًا شديدًا، واحمر وجهه الشريف ونهاهم وزجرهم زجرا شديدا عن أن يعودوا لمثله أبدا، وفي نهيه لهم على هذا الوجه نستنبط أمرين:
الأول: أن وراء القدر سرا من أسرار الله تعالى غيبه عنا ونهانا عن البحث عنه لقصور عقولنا عن دركه.
الثاني: أنه أقرهم على فهمه أن القدر أمر زائد على العلم الإلهي المسلم الثبوت.
الوجه الخامس: لو كان القدر هو مجرد «العلم الشامل» لما احتاج إلى كل هذه الحشود والاهتمامات الواضحة في الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة والتابعين، ولكان يكفي لتقريره الآيات المحكمة، والأحاديث الصحيحة التي جاءت تقرر قضية العلم الإلهي المحيط بأبلغ عبارة وأوضح بيان وأحكم برهان.
وفي تقرير هذا المعنى، قال الإمام الكبير «ولي الله الدهلوي» في كتابه القيم «حجة الله البالغة» ص ۱۳۷ ما نصه:
«واعلم أن الله تعالى شمل علمه الأزلي الذاتي كل ما وجد أو سيوجد من الحوادث، محال أن يتخلف علمه عن شيء، أو يتحقق غير ما علم فيكون جهلا لا علما، وهذه مسألة «شمول العلم» وليست بمسألة «القدر» ولا يخالف فيها فرقة من الفرق الإسلامية، إنما القدر الذي دلت عليه الأحاديث المستفيضة ومضى عليه السلف الصالح، ولم يوفق له إلا المحققون، ويتجه عليه السؤال بأنه متدافع مع التكليف، وأنه فبم العمل؟ هو القدر الملزم الذي يوجب الحوادث قبل وجودها فيوجد بذلك الإيجاب، لا يدفعه هرب، ولا تنفع منه حيلة» انتهى بنصه:
أما ما عدا هذه الهفوة من الشيخ محمد الغزالي فلا يزيد على ما قال به الشيخ سيد سابق، وناقشناه، فلا نطيل بإعادته، والله ولي التوفيق.
أما أستاذنا الشهيد «سيد قطب»- رحمه الله- ، فله في مسألة القدر رأي خاص يختلف عن سابقيه، ولا يكاد يفترق عن المذهب الحق إلا يسيرا، غير أنه مع ذلك خطير، إذ ليس في العقيدة شيء حق، بل كل أمرها عظيم، وأدنى انحراف عن سوائها ينبغي التنبيه عليه، والتحذير منه، وجل من لا يسهو قال- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ . (الأنعام: ٢٥).
قال: «هذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق، ولا يفقهه، وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتهم فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع في هذا الحق، فتستجيب له مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان».
قلت: وهذا حق، وإلى هنا والكلام سديد، لولا أنه استدرك قائلًا:
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء، أنه سبحانه يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. (العنكبوت: ٦٩).
ويقول: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. (الشمس: ٧-١٠).
فشأن الله سبحانه أن يهدي من يجاهد في سبيله ليبلغ الهدى وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها، فأما هؤلاء فلم يتجهوا إلى الهدى ليهديهم الله، ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم فييسر الله لهم الاستجابة هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء فجعل الله بينهم وبين الهدى حجابا، وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء فعلهم الأول ونيتهم الأولى، وكل شيء، إنما يكون بأمر الله، ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد وأن يفلح من يتزكى، ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وأن يروا كل آية لا يؤمنون بها، والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم وعلى قضائه فيهم إنما يغالطون في هذه الإحالة، والله- سبحانه- يجيبهم وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.
فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم بعد النذارة بفعلهم» انتهى بنصه. ( الظلال ح ۷ ص ۱۷٥)
قلت: هذا القول فيه نظر من وجوه:
الوجه الأول: في استدلاله بقوله تعالى ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾. (الشمس: ٧- ٨).
وإذا ورد نص صحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تفسير آية بعينها، فليس لأحد أن يتجاوز ذلك النص إلى التفسير برأيه أبدا، وحسن الظن بأستاذنا ويقيننا بتسليمه التام لكل ما صح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقتضينا القول بأنه لم يطلع على النص الوارد في تفسيرها، وإلا لما جاوزه أبدا... ولنتأمل:
روی مسلم في صحيحه عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال عمران بن حصين: «أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم، فقلت: بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم، قال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، وفيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال: «بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله- عز وجل- ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾. (الشمس: ٧- ٨).
قال ابن القيم في «شفاء العليل» ص ٨٦ «فقراءته هذه الآية عقيب أخباره بتقديم القضاء والقدر السابق، يدل على أن المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها لا مجرد تعريفها فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به القضاء والقدر، ومن فسر الآية من السلف بالتعليم والتعريف، فمراده تعريف مستلذة لحصول ذلك لا تعريف مجرد عن الحصول فإنه لا يسمى إلهاما وبالله التوفيق» انتهى بنصه.
الوجه الثاني: استدلاله رحمه الله بقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. (الشمس: ٩-١٠). على نسبة التزكية التدسية إلى العبد ثم يرتب الله الفلاح أو الخيبة على فعل العبد بنفسه، وهذا المعنى أيضا غير مراد من الآية بدليل الدعاء الصحيح الثابت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» وقوله: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت».
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية« قد أفلح من زكى اللهُ نفسَه فكثر تطهيرها من الكفر والمعاصي وأصلحه بالصالحات من الأعمال»
ثم قال: «وبنحو الذي قلنا، قال أهل التأويل» ثم أورد عن ابن عباس وابن زيد- رضي الله عنهم- قولهما في تفسيرها: «قد أفلح من زكى الله نفسه» وحسبك بابن عباس مفسرا.
الوجه الثالث: قوله رحمه الله: «فشأن الله سبحانه أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها» وقوله ﴿وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾. (الإسراء: ٤٦).
قلت: وهذا حق لا يمارى فيه مسلم، ولكن الكلام في من هو المرجع في الرغبة في المجاهدة والإقبال على التزكية والإعراض عن التدبر؟
إن قلنا ذلك راجع إلى الله تعالى وحده فجعل المجاهد يجاهد ثم رتب على المجاهدة ثمرتها فهداه، وهو الذي جعل المتزكي يتزكى ثم رتب على التزكية ثمرتها فأفلح، وكذلك هو وحده سبحانه خلق للنار خلقا ثم يسرهم لعمل أهل النار فجعلهم معرضين عن الهدى ثم رتب إعراضهم أن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وكل ذلك على تمام الحكمة وكمال العدل فلا يظلم ربك مثقال ذرة.
إن قلنا بذلك، فقد وافقنا الحق، واتبعنا الهدى وأصبنا الغاية، واعتقدنا معتقد السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وسلكنا مسلكهم في فهم آيات القدر ولا شيئته مع التسليم بكمال العدل وتمام الحكمة وأن وراء ذلك سرا مستعصيا على الإفهام لو انكشف ذلك السر لعلم أهل النار أنهم إنما دخلوها بعدله- سبحانه- وتعلم أهل الجنة أنهم ما دخلوها إلا برحمته وفضله ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾.
وقال الحسن البصري- رحمه الله- : «والله لقد دخل أهل النار وفي قلوبهم الحمد، لم يجدوا على الله سبيلا».
أما إذا قلنا: بل المجاهدة والتزكية والإعراض، كل ذلك راجع إلى العبد فهو الذي يختار ثم يرتب بسبحانه على اختيار العبد هدايته أو إضلاله، وبعبارة أخرى يتمم الله ما أراده العبد لنفسه.
إن قلنا ذلك، فانظر أي طوفان وقعنا في لجته من حيث نظن أننا قد آوينا إلى جبل يعصمنا من الماء، فهذا القول، ظاهره ينجينا من إشكال يعتاص على الإفهام... إشكال: أين الحكمة؟ وأين الرحمة؟ وأين العدل؟ في غير ما ذهبنا إليه، ثم لا يجدون لذلك جوابا، إذ يطلبونه من العقل، فيزدادون يقينا بسلامة مذهبهم ومعقوليته، وإلى هذا الحد وقف القائلون بالاختيار ولم يغوصوا إلى أعمق منه، ولننظر في المثال الآتي لنعلم أنهم حين قالوا بالاختيار تخلصا من نسبة الظلم إلى الله- سبحانه وتعالى- إنما وقعوا في إشكال لا مخرج منه ومتاهة لا منجاة منها إلا الرجوع إلى مذهب السلف- رضوان الله عليهم-.
ولننظر:
من المسلم بيننا وبينكم أن الطبائع البشرية جبلة في النفوس ومن عطاء الله وحده، فما جبل عليه الصديق من الشفقة، غير ما جبل عليه عمر من الشدة وكلاهما من عطاء الله وحده لا يد لأي منهما في صنع جبلته- رضي الله عنهما-.
إذا تقرر هذا، فأقول: إنسان ما، جبله الله على حدة في الطبع، ورعونة في السلوك، وعجلة في التدبير، وسفه في التفكير ثم عرضه لموقف استثيرت فيه حميته، فاستفزه آخر فقتله.
أ- أرأيت هذا القاتل هو الذي جبل نفسه على ما اتصف به؟
ب- أم تراه هو الذي أحدث السبب المفضي إلى الجريمة؟
ج- أيؤاخذ على جريمته شرعا في الدنيا والآخرة؟
د- وذلك المقتول المتسبب هل استفزه بإرادته؟
ه- وهل مقتله كان بمشيئة الله؟
أما الجواب عن (أ- ب) فبالسلب بالاتفاق، وأما الجواب عن (جـ) فبالإيجاب بالاتفاق ما دام لم يخرج عن حد التكليف ولا يشفع له أنه عصبي أو أمي أو طائش.
وأما الجواب عن (د-هـ) فعلى مذهبكم، أنه إنما استفزه باختياره غير أن مقتله كان بإرادة الله.
ولكي أزيد الأمر بيانا سأعكس الصورة وأقول: لو أن هذا الإنسان بعينه قد جبله الله على الحلم والأناة، ثم عرضه لذات الاختبار، أتراه يسلك نفس السلوك؟ الجواب بالنفي بالاتفاق.
والآن: ها نحن أولاء أمام حادثة واحدة تعرض لها رجلان، واستجابا لها استجابتين مختلفتين بحسب ما ركب فيهما من خصال لم يساهما في صنعها وإنما هي جبلة راسخة وطبع مقسوم، ثم ترتب الثواب والعقاب على ذلك الفعل الاختياري الصادر عن طبع لا اختياري، فأين العدل في قسمة الخصال وهبة الطباع، وقد تمسكتم بمذهبكم فراراً من هذا الإشكال؟
سيقولون: تلك مشيئة الله، ومن ورائها حكمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
قلت. يرحمكم الله، وأنا أقول بقولكم جوابا عن إشكالكم، فماذا تقولون؟
فإن قالوا: فرق بين مذهبنا ومذهبكم، فأنتم إنما تردون الأمر كله لله، ولا تجعلون للعبد نصيبا منه، أما نحن، فنرد الأمر لله انتهاء وللعبد ابتداء.
قلت: ذلك لا يتيسر لكم، فالمثال المدخول يدل على أن الله تعالى أراد الفعل من العبد في الحالة الأولى؛ إذ وضعه في حالة تدعوه إلى اختيار القتل إذ لم يكن له خيار في الاختيار والثاني بعكسه، فتبين أن الكل مرده إلى الله تعالى ابتداء وانتهاء، والدليل القاطع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ما جاء في الصحيحين عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال «اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة».
فإن قالوا: إنما خلقه الله على تلك الهيئة النفسية ليبتليه فلم يصبر، فاستحق لذلك العقوبة، قلت: ولو خلقه على غير تلك الهيئة لصبر من غير مشقة ولاستحق المثوبة، فظهر أنه في الحالتين كلتيهما «مجبور على الاختيار» فإن قالوا: لا نسلم كون تلك الصفات جبلية في الإنسان، بل هي مكتسبة، قلت: جوابكم ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود، عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب» ووجه الدلالة من الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- قرن بين الصفات البدنية والصفات الخلقية في كونهما عطية من الله خالصة فمن على الصدّيق إذ خلقه من تربة طيبة سهلة فضلا من الله ونعمة، بينما خلق أبا جهل من تربة خبيثة صعبة عدلا منه وحكمة، والله أعلم بما وراء ذلك «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» ونسأله- سبحانه- الثبات على الحق والعزيمة في الرشد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
«يتبع إن شاء الله»
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالقدر.. هو الركن الأساسي من أركان الإيمان ووصفه بالقسوة ممن لا يعلمون زيغ جد خطير
نشر في العدد 105
17
الثلاثاء 20-يونيو-1972