العنوان الإنسان... والسحق الحضاري
الكاتب محمد المنتصر الريسوني
تاريخ النشر الثلاثاء 08-أغسطس-1972
مشاهدات 16
نشر في العدد 112
نشر في الصفحة 17
الثلاثاء 08-أغسطس-1972
من يرفع مشاعل الهداية.. أمام الجيل الشارد؟
إنني كلما هممت بالكتابة عن الإسلام متمثلًا في منهاجه المعجز إلا وشعرت بغبطة تغمرني، ونشاط يتوقد في عالمي، ذلك أنني أجد نفسي أعيش في دنيا مضيئة تجملها كلمات الله تعالى الثرة، وكلمات نبيه عليه السلام الندية، وأتساءل في قرارة نفسي: لــم يحرم جيلنا من الشباب المثقف من هذه النعمة؟ ألأنه لا يفكر، وما جدوى العقل الذي وهبه له خالقه ليكون مسئولًا عن الوظيفة العامة التي أناطها به في الأرض.
الحقيقة أن الجواب عن ذلك يستقطب في أنه يعيش فترة من حياته يائسًا من نفسه ومن الوجود الذي يحيط به، يائسًا يأسًا جعله يدور في حلقة مفرغة لا يقر له قرارًا، ولا يهتدى إلى طريق الخلاص.
وغير خاف أن حضارة القرن العشرين دهمتنا بمفاهيمها المتنوعة، وغزتنا في عقر دارنا فأدهشتنا، وأفقدتنا رشدنا، فسارعنا من غير غربلة إلى احتضانها والترحيب بها، كأنها من المسلمات التي لا تقبل نقاشًا أو جدالًا، حينذاك وقر في خلدنا أنها السفينة التي ستبحرنا ماخرة العباب لترسو على شاطئ النجاة متأكدين من أن ربانها ماهر حكيم يجيد القيادة برشد وذكاء حتى أمسى مجتمعنا الإسلامي بغفلتنا تلك وانبهارنا العنيف يتخبط في نتائج وخيمة صنعتها ظروف تاريخية عصيبة استفذت قوانا الروحية والمادية فأوردتنا الهلاك والثبور.
وهكذا انطلقنا نعب منبع هذه الحضارة جاهلين روافدها العديدة، غير مبالين بالآسن منها أو العذب، نابذين مقومات شخصيتنا الإسلامية المتفردة عبر منحنيات التاريخ بخصائصها الربانية، الفذة -بحركيتها وإيجابيتها، تلك الشخصية العجيبة التي دفعت الحاقدين على الإسلام -قديمًا وحديثًا- في شتى الجبهات ومختلف الواجهات، يلبسون له جلد النمر فينسجون المؤامرات لفصله عن الحياة، لإيهام الناس السذج أنه دين تخلف ورجعية لا يمكن له التصدي لقيادة المجتمعات خوفًا مــــــــــن استيقاظ العملاق الإسلامي من نومه، وعلى أثر ذلك رحنا نحيا مناخًا علمانيًّا سامًّا معصوبي الأعين ننادي -ونحن في سكرة الذهول- بحماس وطيش بشعارات زائفة معتقدين أنها فعاليات حضارية سترتقي بنا من السفح إلـــــــى القمة.
ونحن لا ننفي -ولا يمكن لأحد أن يزعم هذاـ أن القرن العشرين قد خطى خطوات فائقة في ميدان التقنية، والفتوحات العقلية، واستطاع أن يسيطر على الطبيعة بكشوفه المدهشة مبرهنًا على أن العقل الإنساني جبار في قوته، وعظيم في إبداعه، بيد أن ذلك عاد -وكل نعمة في طيها نقمة كما تقول الحكمة- على عقائد البشر بالخسران عندما فشا الإلحاد مع نشوء المذاهب الفلسفية، وانعتق العالم الغربي من قاعدة التوحيد بشكل مخجل، مؤمنًا بالمادة ولا شيء غير المادة، غافلًا بتأثير إلهه المزيف عن كينونة الإنسان، واستعداداته الفطرية، وخلافته عن خالقه في الأرض، تلك الطلاقة التي قال عنها تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ...﴾. (البقرة: ٣٠ ).
وكانت النتيجة أن الإنسان المعاصر استعلى رافضًا الاهتداء بهدى الله وأذعن لقوى العلم فأذهله الفساد المادي وأصبح يكتوي بنار التمزق النفسي لا يدري معه وجهته الصحيحة في الحياة لكونه بات شاردًا في بيداء الضياع يلعق مرارة الفراغ وينظر إلى نفسه فيجدها مجموعة من الأنا متطاحنة لا تضبطها وحدة، ولا يربطها خيط واحد حتى أدى الأمر به إلى أن يؤمن وهو في عصر النور -حسب زعمهم- بالسحر والشعوذة كما ورد في مجلة «الجديد » البيروتية العدد ۲۸۹ السنة السادسة، صفحة ٣٠ وما بعدها؛ تحت عنوان «انتشار مذاهب السحر والشعوذة في أوروبا وأمريكا».
وفي سواد هذه الحلكة شمل الفساد كل الفعاليات الحضارية: السلوك، العقائد، السياسة، الاقتصاد، الفن، الشعر، المسرح، السينما، الرواية، فسار بالركب البشري إلى بربرية ماحقة ونكسة حضارية مؤسفة تتنافى والخصائص الإنسانية التي أودعها الخالق مخلوقه الإنسان الذي كرمه الله حين قال عنه ممجدًا إياه ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾. (الإسراء: ٧٠).
ومع كل هذا فما زلنا ندعو إلى نظريات بائسة، وندافع عنها كالمادية التاريخية وبطلها ماركس والتفسير الجنسي للسلوك وبطله فرويد وكلاهما يهوديان، وذاك اتفاق عجيب جدّ عجيب في يهوديتهما استغلته القوى اليهودية في العالم كما يؤكد ذلك كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» والوجودية وبطلها سارتر، وغير هذا وذاك من النظريات التي يتردد صداها في العالم، ويروج لها كتـــــــاب ينتسبون إلى الإسلام وليس لهم منه إلا بطاقة انتساب يتخذونها قناعًا مزيفًا إن اقتضت الظروف.
فجيلنا مع الأسف يقتات اليوم على فراغ قاتل في العقيدة ويتخبط في تيه لا قرار لـه يلتمس في ظلمة الحلول المستوردة والمذاهب الغريبة عن حس الإسلام السلام والأمن، ولا يدري أنه يحيا في فوضوية واللانتمائية، وفي حيرة وشقاء، وقد صدق الله تعالى عندما قال وقوله الحق: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. (الأنعام: ١٣٥ ).
وأن هذه الظاهرة التمزقية والعبثية التي تنغص حياة الإنسان المعاصر صورها الفن الروائي والمسرحي خير تصوير في الغرب والعالم العربي فأما في الغرب فنكتفي بالإشارة إلى كتاب «اللامنتمي » لكولن ولسن؛ نقله إلى العربية الأستاذ أنيس زكي حسن طبعة بيروت ١٩٦٩ الذي قدم دراسة عن الشخصية اللانتمائية كما تظهر في آثار مشاهير الكتاب والفنانين مثل كافكا وكامو وهمنجولي، وأما العالم العربي فنجتزى بالإشارة إلى ما كتبه نجيب محفوظ فقط -إذ إنه واجهة مشرقة للرواية العربيةـ في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف » و«الشحاذ » فحلل فيها نماذج بشرية خنقها العبث ومزقها اليأس.
والشعر كذلك صور نفس الظاهرة كما نجد في «اللاأدرية» لإليا أبو ماضي التي يقول فيها مبينا حيرة الإنسان المعاصر:
جئت، لا أعلم من أين؟ ولكن أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت
وسأبقي سائرًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري
وغير إليا أبو ماضي ممن لا يزالون على قيد الحياة نعيش من أعمالهم الشعرية.
إذا جيل الضياع من أمتنا دواؤه الحق منهاج الإسلام الذي وضعه الله –تعالى- لخلقه راسمًا فيه معالم الهداية في الإدارة والاقتصاد والسياسة والأخلاق، إذ يتحرك الإنسان بواسطته داخل العالم وداخل بيئته وداخل أغوار نفسه تحركًا هدفيًّا يستهدف تحقيق تطلعاته لإنشاء حضارة تقوم على أساس الرؤية الإسلامية الصحيحة، ولهذا فالإنسان في رأي الإسلام، مسئول عن صياغة مصيره، ومواءمة هذا المصير في إطار قيمه الإيمانية بالمتطلبات الحياتية التي تلح عليه إلحاحًا باعتباره مخلوقًا كونيًّا لا يعترف بالإقليمية والعنصرية، وما دام يحمل في أعماقه هذه الخصيصة تحتم عليه أن يتفاعل مع الوجود في جزئياته وكلياته، وبرهان ذلك بتفصيل أن المنهاج الإسلامي من مميزاته الجوهرية أنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بناموس الكون والحقائق الوجودية المسايرة لفطر البشر بعكس المناهج البشرية الأخرى فهي متصادمة مع التناسق العام للحقيقة الكونية إذ إنها تتبنى في رحابها بذور اندحارها، ولنرهف سمعنا إلى ما يقول الوحي الكريم عن قادة الجاهلية القديمة والحديثة وهي تريد تسليم مقاليد أمرها لغير الله ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾. (آل عمران: ٨٣).
وعلام هذا الضياع والتشاؤم الذي يتلظى في حممه جيلنا من الشباب؟ أمامه طبيب ماهر نطاسي يملك دواء شافيًا، كتاب الله الذي قامت الحجة القاطعة على صحته، وسنة نبيه، يرجع إليهمــــــا ففيهما الجواب عن كل التساؤلات التي تحيره في كل لحظة وفي هذا يصرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بألا مصدر للحياة غير كتاب الله وسنة رسوله ففيهما صلاح الأمة الإسلامية وسواهما ضلال وأي ضلال حين قال في خطبة الوداع «وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا أمرًا بينًّا؛ كتاب الله وسنة رسوله ».
وبروية وتريث في البحث، وتأن في التفكير يلقي جيلنا نظامًا بديعًا -لا من صنع البشر، فالبشر عاجز عن أن يلبي متطلبات الإنسانية الفطرية وغير الفطرية- يضبط الحياة وينسقها في قالب معجز، ويتيح الفرصة للفرد في نظامه الخالد أن ينمي طاقاته المختلفة لإبداع تقدم إبداعًا إسلاميًّا لم يعرفه مفكرو الغرب ولن يعرفوه بتاتًا؛ ذاك الإبداع الإسلامي الذي يتمثل بعضه في تقديمه ضمانات رائعة تكفل للمجتمع البشري استقرارًا وأمنًا في كل شعبة من شعب الحياة، وتوصد الأبواب في وجه السموم والقلق الذي يشل انطلاقة الأفراد وتجعلهم يحيون في تطاحن نفسي ينذر بالبوار والفناء.
وليس يفهم من عبارة «وتوصد الأبواب» أن الإسلام يدعو إلى الانعزالية والانغلاق على النفس، لا ثم لا، إنه في خطواته على درب الحياة يختار ما ينفع، ويرفض ما يضر ﴿... ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ ...﴾. (الرعد: ١٧ ).
من أجل ذلك كان المجتمع الإسلامي منذ أن تشكل واقعًا تاريخيًّا حيًّا منفتحًا على العالم مفسحًا للفكر المجال في أن يمد ظلاله في إطار تصوره لا يشذ عنه لأن في شذوذه تمردًا وأي تمرد على ناموس الكون نفسه، كما كان هذا المجتمع العظيم الفريد محافظًا في مسيرته على التوازنية بين القيم المادية والروحية حتى تنجو الذات الإنسانية من الانقسام والتفتت بوصفها كيانًا مزدوجًا مؤلفًا من الطين والروح، كل له مطالبه «راجع في ذلك كتاب دراسات في النفس الإنسانية فصل طبيعة مزدوجة ص ٤١ وما بعدها للكاتب المجاهد محمد قطب».
فملاذك الإسلام يا جيل الضياع، تأمل تجد خشبة النجاة، وتمعن تشف ما في نفسك، واختر بعقلك بين عديد النظريات والمناهج، ولي اليقين إن فعلت تبين لك الرشد من الغي وخرجت من عرامة العبثية والاضطراب ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾. (الرعد: ٢٨).
مؤمنًا بأن لا خلاص لهذه الأمة أمة الإسلام والبشرية قاطبة إلا الرجوع إلى الله، وتحكيم منهاجه في حياة الناس، ونبذ كل التصورات التي غشيت العقول، وشلت التفكير ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم﴾. (المؤمنون: 115 - 116).
فملاذك الإسلام إن شئت السيادة والانعتاق من عبودية الإنسان للإنسان إلى عبودية إله واحد لا شريك له فملاذك ذاك ولا ملاذ غيره، إنه ضرورة إنسانية أكيدة وأكيدة ﴿... وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. (البقرة: ٢١١ ).
وليس هناك أشد من هذا العقاب الذي تعانيه البشرية في حياتها اليوم، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلحلقة 15 دراسات في السّيرَةُ أسلوب المستغربين في كتابة الـسيرة
نشر في العدد 243
10
الثلاثاء 01-أبريل-1975