العنوان الإيمان بالغيب فرع عن الإيمان بالله
الكاتب الدكتور محمد حسن هيتو
تاريخ النشر الثلاثاء 05-فبراير-1974
مشاهدات 14
نشر في العدد 186
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 05-فبراير-1974
إن الرجل الذي نتكلم معه دائما أحد رجلين، رجل كافر ونعني به غير المسلم، سواء أکان کتابیا أم وثنيا، أم ماديا ملحدا. ورجل مؤمن، ونعني به من آمن بالله تعالى ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا مع أركان الإيمان الأخرى.
أما الرجل الأول -وهو الكافر– فلا أريد أن أتكلم معه في هذه المقالة، لأنهـا مبنية على أساس الإيمان فقبل أن أخوض معه في البحث الذي سأطرقه - وهو الإيمان بالغيب - يجب على أن أخوض معه فيما يصل به إلى هذا الإيمان، وهو الإيمان بالله تعالى، وبعد ذلك أتكلم معه عنه، وإلا فسيكون الكلام عبثا وجدلا.
وهذه الفكرة من أهم الأمور التي يجب أن يراعيها الداعية المسلم أثناء نقاشه مع رجل کافر، فمن العبث أن أتكلم معه على إثبات الإسـراء والمعراج، والجنة والنار والبعث والحشر، والملائكة والجن وهو غير مسلم بما ينبني عليه مثل هذه المسائل وهو الإيمان بالله تعالى ووحدانيته وقدرته.
ـ وأما الرجل الثاني، وهو الإنسان المؤمن، فهو الذي سأتكلم معه في هذه المقالة، خائضا غمار البحث فيها فأقول:
إن أهم صفة من صفات المؤمن بعد الإيمان بالله تعالى هي الإيمان بالغيب، فلا يكمل إيمان المرء إلا إذا آمن بكل ما ورد في هذا الشرع من أمور غائبة عن أعيننا، بعيدة عن أذهاننا، سواء أكانت مما تقبله العقول لقربه منها، أم تنكره لبعده عنها. وسواء أوقفت له على سبب وعلة، أم لم تقف له على ذلك.
ولذلك كان أول وصف وصف الله عباده المؤمنين، هو الإيمان بالغيب:
● فقال جل وعلا في أول سورة البقرة في وصف المؤمنين: ﴿الم. ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا
رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 1-2-3).
● وقال تعالى: ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ﴾ (المائدة: ٩٤).
● وقال: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء: ٤٩).
● وقال: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ﴾ (فاطر:
۱۸).
● وقال: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ﴾ (يس: ١١).
● وقال: ﴿مَّنْ خَشِيَ الرحمن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ (ق: ۳۳).
● وقال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحديد:
٢٥).
● وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الملك: ١٢).
فمن لم يؤمن بما أخبر عنه الشارع من المغيبات، أو حاول تأويله تأويلا مخالفا لقواعد اللغة، أو القواعد العلمية الثابتة التي تعبدنا الشارع بها كان كمن لم يؤمن بالله تعالى وإن صام وإن صلى، فالإيمان كل لا يتجزأ فإما أن يؤخذ كاملا، وإما أن يكون صاحبه كافرا جاحدا. فمن آمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر وأنكر الإيمان بالملائكة كان كمن أنكر جميع أركان الإيمان سواء، ومن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ولكنه أنكر عذاب الله للكافرين يوم القيامة كان كمن يكفر بأركان الإيمان في الحكم سواء لأنه لم يؤمن بما أخبر الله عنه في كتابه وكذب خبره، لعدم إيمانه بالغيب.
إذن فالإنسان المؤمن مكلف بالإيمان بكل ما ورد عن صاحب الشرع وليس له الخيار في نفيه أو تأويله أو إحالته مهما كثرت الدوافع وتعددت الشبهات، وليس له إلا أن يقول: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285)..
ولا يجوز للإنسان أن يخضع مسائل الآخرة والأمور الغيبية لعقله البشري العاجز القاصر فإن للعقل حدودا يقف عندها وإمكانيات لا يتجاوزها، مهما بلغ هذا العقل من الدقة والحكمة فأمور الغيب وراء هذه الحدود، وفوق تلك الإمكانيات وسميت غيبا لأنها غائبة عن الأعين وبعيدة عن الحس لا تخضع لمقاييس العقل ولا تقاس بمشاهداته، فإذا ما اختضعناها لحكمه فشلنا في العثور على النتيجة، وضللنا طريق الوصول إلى الصواب ولذلك قال علي بن أبي طالب «لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان مسح الخف أولى من ظاهره» لأن الغرض في مسح الخف هو مسح ظهر القدم، مع أن الذي يتلوث أثناء السير هو أسفله فلو أردنا أن نحكم العقل في هذه المسألة لحكم أسفله لا أعلاه.
ومن نظائر هذه المسألة:
۱ - خروج الريح من الدبر يوجب الوضوء في الأعضاء الأربعة، وهي الوجه واليدان والرأس والرجلان، دون محل خروج الريح وهو الدبر، ولو حكمنا العقل لحكم بوجوب غسل محل خروج الحدث، لأنه هو المناسب للغسل، وذلك بمقتضى مشاهداته وإمكانياته.
2 ـ الحكمة في مشروعية الوضوء هي النظافة، واسمه المشتق من الوضاءة يدل عليها ومع ذلك نرى الشارع يأمرنا عند عدم وجود الماء بالتيمم، وهذا ليست فيه نظافة، بل تعفير للوجه واليدين بالتراب ولو حكمنا العقل في هذه أيضا لنفاها واستبعدها، وهذا أيضا دليل على عجزه وقصوره.
3 - حرم الشارع النظر إلى شعر العجوزة الشوهاء مع أنها لا تفتن الرجال الشبان البتة وأباح النظر إلى محاسن الأمَة مع أنها تفتن الشيخ الهرم.
4- جعل الشارع الحرة الواحدة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل، وتوجب عليه إن زنا ولم يجعل المائة من الجواري الحسان يحصن مع أنهن أولى بالإحصان.
فلو حكمنا العقل البشري في هذه المسائل ونظائرها التي لا تحصى عددا لوجدناه يحار، ولا يجد بدا من الاستسلام والاعتراف بالعجز عن إدراك السر فيها، ومن ثم تريد قوله تعالى: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285). ويسميها أمور تعبدية.
ولا نريد أن نبعد في سرد الأمثلة الفقهية الشرعية، فوقائع الحياة المادية التي نشاهدها صباح مساء كلها دالة على عجزه وتقصيره.
فلو أن رجلا أخبر أجدادنا قبل مئة عام بأنه بعد مائة عام سيتوصل الناس إلى ضرب من العلم يستطيعون بواسطته أن يقيسوا وهم على الأرض ضربات قلب البشر وهو على سطح القمر - لأنكروا هذا أیما إنكار وجحدوه، وسخروا من قائله، وجعلوه ضربا من الخيال والهذيان لأن العقل عاجز في تلك الحقبة من الزمن عن إدراك حقيقة ما نراه ونشاهده.
بل أثبت العلم المعاصر الذي كاد يصل ذروة التقدم ويبلغ قمة المجد أن العقل البشري اليوم أعجز من أي يوم مضى عن إدراك حقائق هذا الكون الذي يعيش فيه، ويشهد تغيراته وتقلباته، بل هو معترف بالعجز عن الإحاطة بجانب واحد من جوانبه كالكواكب المتناثرة في السماء مثلا.
فإذا ما ثبت لدينا أن العقل عاجز عن إدراك الحقائق التي بين جنبيه ثبت لدينا ومن باب أولى عجزه عن إدراك الأمور الغائبة عن عينيه، ووجب علينا الإيمان بها كما أخبر الشارع عنها، دون تأويل أو نفي أو إحالة.
ولقد كفر الفلاسفة حين أخضعوا كل أمر من الأمور بدون استثناء لأحكام عقولهم معتمدين عليها كل الاعتماد، فنفوا عن الله العلم مستقبلا بما يصدر عن الإنسان من أعمال جزئية، لأن عقولهم لم تتصور هذا العلم، فكفروا إذ نسبوا لله الجهل.
وقالوا بقدم العالم لأن عقولهم لم تتصور حدوثه انطلاقا من قاعدة لا شيء يفنى في الوجود ولا شيء يخلق من العدم، فجعلوا لله شريكا في القدم، وليتهم علموا بطلان قاعدتهم إذ استطاع العلم الحديث أن يحطم الذرة،؟
وقالوا: إن الله يحشر الأرواح دون الأجساد، لأن عقولهم لم تتصور إمكانية إعادة الجسد كما كان، بعد أن أصبح هشيما تذروه الرياح، ونسوا أن الله كان على كل شيء مقتدرا.
ونفت بعض الفرق الخلود في الجنة أو النار، لأن عقولها لم تستطع أن تدرك الحياة الأبدية التي لا تتناهى بنعيمها وعذابها، لعدم إدراكها اللانهاية في الدنيا.
إلى آخر ما هنالك من الأمور التي بسببها كفر كثير من الناس، إذ اعتمدوا على عقولهم اعتمادا كليا، فقاسوا الغائب على الشاهد، ووصلوا إلى درجات الجحود والإنكار ولقد تسلل كثير من المستشرقين والمنحرفين عن طريق التشكيك بالمغيبات إلى عقائد الناشئة، فأخذوا يقللون من أهميتها ويحاولون تأويلها ليجعلوها موافقة لعقولهم وأهوائهم ومن ثـم ينقضون عليها بالجحود والإنكار متخذينها طريقا لإنكار الوحي ومن ثم لإنكار الرسالة السماوية والبعث، والحشر، والثواب والعقاب.
ومن هذا الذي ذكرناه يتبين لنا أنه يجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما ورد من أمور غيبية، وافقت عقله أم خالفته مما هو معروف في كتب العقائد الإسلامية، مما ورد به القرآن أو الخبر الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام، دون إنکار أو تأويل.
● فنؤمن مثلا بحياة البرزخ وهي حياة الإنسان في قبره حياة مغايرة لحياتنا الدنيا وللحياة الآخرة، وإن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، كما ورد بذلك الخبر عن النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإن كنا لا نرى نضارة الجنان، ولا حرارة النيران حين نفتح القبور إيمانا منا بالغيب.
● ونؤمن بالبعث، وأنه يكون بالروح والجسد معا.
● ونؤمن بالجنة والنار، وأن الجنة للطائعين، والنار للعصاة المذنبين، ونؤمن إن المؤمن خالد في الجنة أبدا وإن الكافر خالد في جهنم أبدا.
● ونؤمن أن نعيم الجنة نعيم حسي، نبصره بالعين ونسمعه بالإذن ونحس به باللمس لا كما يتخرصه أولئك الملحدون المشككون محاولين التشكيك وزعزعة العقائد من أنه نعيم معنوي للوصول إلى إنكار البعث والحشر.
● ونؤمن مثلا بأن لله ملائكة كما وصفها ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: 6).
وأن له ملائكة لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع كما قال جل وعز: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فاطر: 1).
● ونؤمن بالجن وأنهم خلقوا من مارج من نار.
● ونؤمن بالشيطان وأنه يوسوس للإنسان بالشر ليبعده عن الخير وبالمعصية
ليبعده عن الطاعة، وأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق.
إلى غير ذلك من الأمور الغيبية الكثيرة التي لا أريد الاستطراد في ذكرها، والتي آمنا بها لورود الخبر عنها إيمانا بالغيب وإن لم نرها، أو كانت بعيدة عن إمكانيات عقولنا ومداركنا ولا نملك إلا أن نقول: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285)
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل