; الانتماء والالتزام في شخصية المسلم | مجلة المجتمع

العنوان الانتماء والالتزام في شخصية المسلم

الكاتب د. نجيب الكيلاني

تاريخ النشر الثلاثاء 09-مارس-1971

مشاهدات 50

نشر في العدد 50

نشر في الصفحة 14

الثلاثاء 09-مارس-1971

إن الخطر المحدق بالأمة الإسلامية لا يكمن في السلاح الحديث الذي يمتلكه الأعداء، أو الطائرات التي تتربص بها وتخترق حاجز الصوت، أو التفوق التكنولوجي أو الإلكتروني الذي يحيط بها من كل جانب بقدر ما يكمن في الخراب الفكري والعقائدي الذي يطلقه العدو...

 

 

  ما أكثر الورق الذي تسود صفحاته كل ساعة، وما أكثر الكلمات التي تقال وتنتشر، تحولت «هيبة» الكلمة إلى ابتذال وعبث. سقطت المسؤولية التي تحملها الحروف فضاع الشباب وسط ركام من النظريات والفلسفات الأخلاقية والسياسية ولذا لم يكن غريبًا أن يظهر مذهب جديد اسمه «اللامنتمي»... ظهرت هذه البدعة، ليتشبث بها الضائعون والتائهون.. ولكي يتأصل الخداع في ضمائرهم وعقولهم أسموها فلسفة.. وهي في الحقيقة لا شيء.. إنها لا ترمز إلا إلى الانعتاق من كل مسؤوليات العقائد، والانفلات من كل القيم، ولا أقول إنها استمساك بالذاتية أو الفردية أو الهوى الشخصي، فالذاتية فلسفة.. لكنها -أعني فلسفة «اللا انتماء»- هي الانطلاق المجنون.. أو الفصام كما يقول علماء النفس.. كسائق سيارة ينطلق دون التقيد بشارات المرور، لا يعبأ أکانت حمراء أم صفراء أم خضراء.. يقتحم الأرصفة، أو يصطدم بالمشاة والبيوت.. والأشجار وسيارات الآخرين..

الغريب أن المروجين لهذه الفلسفة يسمونها موقف.. وأحيانًا يدعونها.. وجودية.. وتعبيرًا عن الذات.. بل ويحاولون أن يضعوا لها القواعد والأصول.. إنها أشياء مضحكة في حقيقتها.. ويتحدثون عن الالتزام.. وهي نقيض الالتزام على طول الخط..


وقد تكون لهذه «البدع» الفكرية في أوروبا ما يبررها، لكن الشرق المستعبد الممزق التائه، يلتقطونها ويروجون لها، ويتخذونها دينًا جديدًا، فيسقطون في خطر داهم، وفناء محتم. إن الخطر المحدق بالأمة الإسلامية، لا يكمن في السلاح الحديث الذي يمتلكه الأعداء أو الطائرات التي تتربص بها وتخترق حاجز الصوت، أو التفوق التكنولوجي أو الإلكتروني الذي يحيط بها من كل جانب بقدر ما يكمن في الخراب الفكري  والعقائدي الذي يطلقه العدو.

فيعمل فينا عمله بأخبث الوسائل، وينفث شروره وسمومه، ويطمس معالم الطريق أمام أجيالنا.. ومن هنا جاءت الهزيمة.. وحلت النكبة.. واسودت صفحات التاريخ.. إن من ينظر إلى صحفنا ومجلاتنا ومطبوعاتنا في السنوات الماضية، وقبل الحرب المخزية، وبعدها أيضًا يستطيع أن يقرأ بوضوح سوء المصير، ويشم رائحة الضياع والحسرة.. فهناك شعارات يومية عالية الصوت، سوداء أو حمراء، تسد الآذان، وتزحم الرأس، وتهتف بها أجهزة الإعلام في كل مكان، وهناك معارك وهمية من يتفحصها ويمعن الفكر فيها لا يكاد يجد دوافع حقيقية وراءها.. اختلطت الأوهام بالحقائق، وغلبت الأكاذيب على الصدق، وامتزج الكفر بالإيمان، واختلت كل الموازين والأوزان، وكان المفروض أن تكون الهزيمة الكبرى صيحة عالية النبرة.. بل عاصفة صاخبة تصفع النيام المخدوعين لكي يستيقظوا.. يفكروا.. لا أن يهرولوا إلى السلاح فحسب أو حشد الحشود، ورصد الميزانيات العسكرية.

 

البحث عن الذات المفقودة

إن الهزات التاريخية الكبرى تحتاج أول ما تحتاج إلى وضوح.. هذا الوضوح يجرنا -إذا صدقنا مع أنفسنا- إلى البحث عن «الذات المفقودة».. عن شخصيتنا المتميزة بفكرهـا وأصالتها وعقيدتهـا والشخصية العقائدية.. أعني الشخصية المسلمة.. هي المنطلق.. وهذا كلام برغم بساطته يحتاج إلى كثير من الفهم والإقناع والاستقراء التاريخي، والشخصية المسلمة، تعرف مكانها في الوجود، ورسالتها في الحياة، وأسلحتها الروحية والمادية، وتعرف مقاييس الموت والحياة والقوة والضعف، والحرب والسلم، لها علاقاتها المتسقة العادلة والطبيعية مع الآخرين وتصوراتها لمشاكل الحياة عامة والنفس الإنسانية خاصة.

وما أكثر ما كتب الكُتاب المؤمنون في ذلك..

الشخصية المسلمة منتمية
والشخصية المسلمة «منتمية» بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى...
وهي أيضًا «ملتزمة» بما احتواه فكرها وضميرها من عقائد وتصورات..
وهي شخصية لا تنكر «الصراع» الداخلي، لكنها تنجو دائمًا من التمزق والتحلل..
والشخصية المسلمة مرتبطة  بتراثها العريق، لا ارتباط وثنية، أو تقديس لمجرد الموميات والآثار والذكريات والمعارك القديمة لذاتها، ولكنه ارتباط عقيدي صادق، يجعل من هذا التراث قوةً وفكرًا وحضارةً.. يجعل منه دعائم لشخصيتنا التاريخية الأصيلة فتراثنا تجسيد لرسالتنا، وتجربة حية ناضجة وناجحة ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (سورة البقرة: 138)
والفلسفة -أية فلسفة- لا قيمة لها ما لم تشكل عقول الناس وفنهم وسلوكهم، وتخوض معارك الحياة، وتتلاحم مع مشاكلها، وتتحدى خبثها وانحرافها وزيغها، بالنور الثاقب الذي تشعه الشخصية الأصيلة المتميزة.
تلك هي البداية... أن نمزق ألوان الوهن الفكري، والتميع الأخلاقي، والتحلل الذاتي. وأن يكتسي العراة وذوو الملابس الثياب المرقعة، بردائنا الحقيقي، وأن ينسكب في ضمائرنا وفكرنا النبع الصافي، الذي أشرقت به أيامنا الخالدة، وانمحت به وساوسنا، وتأكد به انتماؤنا والتزامنا..
الدساتير المؤقتة، لا تعطي للشخصية الجديدة الثبات والاستقرار واليقين، ولكن تزرع فيها الخوف والتردد والانتظار المرهق المعذب، والقيود الاستثنائية تصرع الحريات، وتذبل المواهب، وتقتل الروح، والمواقف السريعة المتناقضة المترددة لا تفرز سوى العلل من شیزوفرينیا وبارانويا ووساوس قهرية بلغة علم النفس.. والمجاملات سواء أکانت فردية أو دولية، لا تترك وراءها سوى الانهيار الأبدي للقيم العالية، وأسس السعادة الإنسانية، والاعتماد على الغير في كل شيء.. طفولة.. وحتى الأطفال قد يثورون أو يتمردون ويحاولون إثبات ذاتهم... أما الطفولة السياسية فهي خضوع تام وانمحاء للذات.. هي موت أدبي ومادي وسياسي واجتماعي وفكري..

المعرفة أولًا...
وعندما نعرف من نحن، وفي أي عالم نعيش، ونعرف من أين أتينا وإلى أين نسير يأتي «الانتماء»..
والمنتمي «ملتزم»...

إنه رجل عقيدة وفكر، رجل حركة وعمل، يسترخص كل شيء في سبيل عقيدته، ولا يقيس المعارك بحساب الحياة والموت والخوف والخسائر المادية، وإنما يقيسها بالعمل الجاد المتواصل أعني الجهاد.. بشتى فروعه وألوانه وبمقاييس الحق والعدل التي تشربتها روحه من النبع الإلهي الصافي..

المعرفة الإيمان.. الحرية.. الشخصية المتميزة...
تلك معالم الطريق إلى عالم أفضل... تنحسر عنه النكبات والهزائم والضياع والتمزق.
فهل من مذكر؟؟

 

23/2/1971

دكتور نجيب الكيلاني
دبي - صندوق بريد ١٩٣٦

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

نشر في العدد 3

796

الثلاثاء 31-مارس-1970

سراقة بن مالك

نشر في العدد 3

90

الثلاثاء 31-مارس-1970

سراقة بن مالك رضي الله عنه