; الموت وشيخ النفاق (قصة إسلامية قصيرة) | مجلة المجتمع

العنوان الموت وشيخ النفاق (قصة إسلامية قصيرة)

الكاتب د. نجيب الكيلاني

تاريخ النشر الثلاثاء 12-مايو-1970

مشاهدات 29

نشر في العدد 9

نشر في الصفحة 10

الثلاثاء 12-مايو-1970

تمدد على فراش الموت طويلاً نحيلاً، الشحوب يكسو وجهه الضامر ذا النتوءات الواضحة، اللحية الكثة البيضاء ترتجف، العينان الجاحظتان تتأرجحان في رعب قاتل، يمازحه غضب رهيب.. والرعب والغضب يتولد منهما مأساة بشعة.. ألا وهي العجز.

وتمتم المنافق الأكبر عبد الله بن أُبي بن أبي سلول في صوت واهن متحشرج:

- «إنني أموت.. إنني أصعد أنفاسي بصعوبة بالغة» قال ولده عبد الله في أدب وخشوع يتفق ورهبة الموت:

- «أبتي.. كلنا سائر في الطريق نفسه.. افتح قلبك لله، واطرح عنك هموم الدنيا عندئذ يمتلئ قلبك بالسكينة، وتنعم بروعة اليقين..»

وارتسمت على شفتي المحتضر ابتسامة صفراء، حاول أن يضحك ساخرًا فلم يستطع، أراد أن يلوح بيده المعروفة النحيلة، فارتعشت ثم خمدت، لكنه جاهد وغالب ضعفه وأخذ يقول:

-        «المظلوم يا ولدي يكره الحياة كما يكره الموت.. بين الاثنين حفرة نار مشتعلة.. وأبوك يا عبد الله مظلوم.. أوَتنكر ذلك؟»

 ارتبك عبد الله الابن، وأخذ ينظر إلى عبد الله الأب في حيرة، ماذا يقول لأبيه؟ أيجادله في أمر قديم شغل الأذهان في «يثرب» ردحاً طويلاً من الزمن؟؟ أيقول لأبيه إن أحداً لم يظلمه، وإنما هو الذي ظلم نفسه، حينما اتخذ النفاق سلوكًا وسياسة، وإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- قد حاول دائمًا أن يفسح له من صدره، ويغفر له هناته ونفاقه، كيما يعود إلى الدروب النظيفة، المضيئة بنور الله، وينخرط في سلك المؤمنين بالله؟؟ إن الأمر جدّ شائك بالنسبة لرجل يحتضر وهو على وشك أن يودع الحياة والأمر جد شاق بالنسبة لابن مؤمن صادق الإيمان، كان يعارض والده أشد المعارضة، ويأنف من سلوكه وتصرفاته..

ولم يطل استطراد الابن في أفكاره، إذ سمع أباه المحتضر يقول:

«ولدي.. الظلم نار تحرق، وتسبب آلامًا بشعة.. إنني أشعر بعذابها الآن أكثر من أي وقت مضى.. وسر عذابي أنني عجزت عن بلوغ ما أريد.. لا يمكنك يا ولدي أن تعايش ما أعانيه من شقاء. أنت صغير السن.. وأنت صافي السريرة.. استطاع محمد أن ينقش تعاليمه وآدابه على صفحتك البيضاء.. أصبحت لدينه بروحك وجسدك.. ازددت منه قربًا، وازددت مني أنا بُعدًا.. لم أستطع أن أقنع أهل بيتي بمنطقي، فكيف أبلغ ما خطر بفؤادي من أحلام؟» وصمت برهة ثم قال:

 «قبل أن يجيء محمد.. أعدت يثرب لي التاج، ونظموا فيه حبات الخرز، ورصعوه بالجواهر.. وبينما كنت أخطو خطواتي الأخيرة نحو كرسي الملك.. جاء محمد..»

 تندى جبينه بالعرق، وازداد لهاثه، فهتف عبد الله الابن: «هون عليك يا أبتي.. فكل شيء إلى فناء.. ما عندكم ينفد، وما عند الله باق، فما في الدنيا شيء يستحق هذا العناء الشديد» فقال أبوه: «حاولت جاهدًا أن أقنع نفسي بهذا المنطق، لكني عجزت.. أن يسلبك إنسان الملك، فإن هذا شيء لا يُنسى حتى على فراش الموت..» أربد وجه الابن، وقال بصوت مختلج:

 «أبتي.. إن الشيطان يحاول أن يدمر فرصتك الأخيرة في النجاة..»

- «أية نجاة وأنا أموت مهزومًا حقيرًا.. منافقًا كما تقولون؟».

- «لا أعني النجاة من الموت يا أبتاه.. ولكن ما هو شر من ذلك.. الموت ليس هو الشر الأكبر..»

  «أهناك ألعن من الموت والهزيمة؟؟»

- «أجل.. الكفر..» ارتجف المحتضر، وجف ريقه وبدا على وجهه احتقان مباغت وصاح:

- «جرعة ماء» وهرولت زوجه محمرة العينين مبللة الأهداب، وقالت:

- «حتى في هذا الوقت «يا ابن أبي» تتحدث عن التاج والملك؟؟»

تمتم الأب بعد أن جرع الماء: «أنا لا أرهب الموت.. خضت المعامع شجاعًا.. تحديت الذين حطموا مجدي.. جلبت لهم الكثير من المتاعب.. أخذت الكثير من تفكيرهم وجهدهم.. هم يعرفون من أنا.. لم أستسلم قط.. أتريدون أن أستسلم وأنا على فراش الموت؟؟ تلك أخلاق العبيد والضعفاء والجبناء.. كانت حياتي سلسلة من الإصرار العنيد، والعمل المتواصل، كنت أؤمن بما أفعل..»

وفكر الابن، ماذا يقول لوالده؟؟ يتظاهر بالموافقة على منطقه، فلا يعارض حتى تنتهي لحظاته الأخيرة ويودع الحياة؟ أم يجابهه بالحقيقة المرة لعله يفيق إلى نفسه في تلك الفرصة النهائية، ويتبرأ من الماضي وأوزاره، ويلقى الله إنسانًا مؤمنًا جديدًا؟؟

 ولم يستطع الابن من أن يمنع نفسه من القول:

-        «أبتي.. لم تكن شجاعًا»

– «كيف؟؟»

 – «اتخذت النفاق طريقًا.. المنافق مستحيل أن يكون شجاعًا.. أنسيت ما فعلته؟؟ انسحبت بزمرتك ومعركة «أحد» على وشك الاشتعال.. طعنت المسلمين في الصميم.. ورميت الرسول بسهام الكذب حينما حاولت التشهير بزوجه في حديث «الإفك» الذي فضحته آيات القرآن.. وحرضت أهل المدينة على إخراج المسلمين، وكانت لك اتصالات مريبة مع اليهود.. والآن انتهى أمر اليهود.. وانصاعت القبائل لدين الله.

 وفتحت قريش أبواب مكة لنور الله.. وأصبحت كلمة الله هي العليا.. لكنك ما زلت على...» قاطعه أبوه قائلاً:

-        «ما زلت على نفاقي.. تريد أن تقول ذلك.. ليكن، أنت تعلم أن أباك كان صاحب رأي، وذا تأثير بالغ..»

 مد عبد الله الابن يديه ضارعًا، والدموع في عينيه وأخذ يقول:

- «يا أبتي الشيطان يغذي فكرك بالترهات..»

- «والتاج؟؟»

قال الابن:

- «خلعه الناس عنك قبل أن يخلعه الرسول»

- «كذبت..»

- «أكنت تتصور أن يتوجك جموع المهاجرين والأنصار ملكا عليهم..»

- «لو أراد محمد ذلك لتم على الفور..» «لكنه تصور غريب لا يقبله عقل..»

- «كان هذا من حقي..» «بل هو حق الناس.. ولو أرادك الناس لما استطاعت قوة على الأرض أن تصدهم.. أنت يا أبي تتجاهل التغيير الكبير.. أصبح الناس غير الناس.. تغيرت القيم والمقاييس.. أصبح الحكم والحكام والمحكومون شيئاً آخر.. أنت يا أبتي متمسك بأهداب حلم قديم لا معنى له.. الشيطان يوسوس لك.. وأمامك الطريق إلى التوبة مفتوح إذا رغبت.. فإذا ما ضاعت الفرصة فلن تعود.. لن تعود مرة ثانية يا أبتي.. ارحم دموعي.. أنت أبي.. وما أريده لك من الخير.. أكثر مما أريده لنفسي.. ومحمد قد أتى ليفتح باب الرحمة على مصراعيه للجميع.. إنه باب الله، ولا يملك أحد أن يغلقه، أو يصد عنه.. ادفع وساوس الشيطان عنك.. واذرف دموع الندم والتوبة، فتغسل عنك كل الهموم والأحزان والخطايا».

صرخ الأب في حدة:

 «خذوا هذا الأحمق عني.. اخرج أيها الابن العاق.» جفف الابن دموعه، وألقى على أبيه نظرة وداع أخيرة، كان قلبه يفيض بأحزان ثقيلة، وجر خطاه في أسى عتيد، أيدعو الله أن يغفر لأبيه؟؟ أيذهب إلى رسول الله يستلهمه العون؟؟ أيسكت؟؟ وكيف يرضى بهذا العمل؟؟ سيبقى أبوه مثلاً على حقبة التاريخ. أليس رأس النفاق في العرب؟؟ أخذ الأب يتململ في فراشه، وازدادت حركة أجفانه انطباقاً وافتراقاً، وقال بصوت كالفحيح:

-        «لم أعد أرى شيئاً.. الجدران تطبق على صدري. هواء.. هواء.. لا أستطيع أن أتنفس.. ساعدوني.. أليس فيكم من ينجدني من هذا الكابوس؟؟ إنكم عاجزون مثلي..»

اقتربت منه زوجه قائلة:

«قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله»، «لقد قلتها قبل ذلك ألف مرة..» قالت والدموع تغرق خديها: «قلها من قلبك..» تحشرجت أنفاسه.. رفع يده المعروقة الشاحبة. حاول أن يرفع رأسه.. فتح فمه الجاف.. واتسعت فتحتا أنفه.. لكن الهواء لم يدخل ثم سكنت حركاته إلى الأبد. كان عبد الله يقف عند باب البيت، وما إن سمع صراخ أمه حتى انهمرت دموعه، وعجزت ساقاه عن حمله، فجلس يشهق، وربتت على رأسه يد حانية، وبلغ سمعه كلمات رطبة «إنا لله وإنا إليه راجعون»..

وقال عبد الله بصوت يناديه البكاء: «أنا لا أبكي رجلاً مات.. لكني حزين من أجل حياته العريضة التي بعثرها في الزيف والجموح والنفاق.. وأبكي ضياعه الأبدي..».

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الثَور الأبيَض

نشر في العدد 2

30

الثلاثاء 24-مارس-1970

النصر الأعظم

نشر في العدد 10

23

الثلاثاء 19-مايو-1970

قصة قصيرة الرئة الحديدية

نشر في العدد 2113

14

الأربعاء 01-نوفمبر-2017