العنوان الانفصاليونَ في باكستان الشرقيةِ
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 01-يونيو-1971
مشاهدات 16
نشر في العدد 62
نشر في الصفحة 14
الثلاثاء 01-يونيو-1971
الانفصاليونَ في باكستان الشرقيةِ
حقد خاصٌّ على النساءِ والأطفال
بقلمِ مولانا: متين هاشم
• إن العواصفَ العنيفةَ من التمردِ التي ثارتْ في فجرِ الأولِ منْ شهرِ مارس (١٩٧١م) في سماءِ باكستان الشرقيةِ كانتْ تبلغُ من السرعةِ حيثُ أحاطتْ بالإقليمِ كلِّهِ في لمحةِ البصرِ، وصارتْ حقولُ الرُّزِّ البهيجةُ ملبدةً بالغيومِ السوداءِ واللهيبِ الرهيبِ في عشيةٍ وضُحاها، وما رأيتُ اليومَ ناحيةً من النواحي إلا وجدتُّها تسيلُ بنهرٍ من الدماءِ، ورأيتُ الساحاتِ مشحونةً بالجُثثِ المتراكمةِ، وشاهدتُّ غوائلَ الظلمِ والفتكِ ترقصُ رقصاتِ الموتِ في كلِّ قريةٍ وفي كلِّ ناحيةٍ، ولا سيما شمالُ بنغال حيثُ تأخرَ وصولُ الجيشِ الباكستانيِّ إليها، فظلتْ مسرحًا للفتكِ والتنكيلِ أيامًا، وإن المتمردينَ البنغاليينَ من «المسلمينَ» وغيرهم ارتكبوا معَ السكانِ غيرِ البنغاليينَ في هذهِ الناحيةِ ما يندى لهُ جبينُ الإنسانيةِ خجلًا وندامةً.
وإليكمْ فيما يلي بعضَ التفاصيلِ عما جرى في أنحاءِ باكستان الشرقيةِ منْ تجاربَ على أيدي العنصريينَ منْ أنصارِ مجيب الرحمن والاشتراكيينَ منْ أنصارِ بهاشاني:
سانتاهارْ
مدينةٌ صغيرةٌ في شمالِ بنغالٍ كانَ يسكنها حواليْ خمسةٍ وعشرينَ ألفًا منْ غيرِ البنغاليينَ، وكانوا يشتملونَ على موظفي السكةِ الحديديةِ بنسبةِ ثمانينَ في المائةِ، ولما وصلَ لهيبُ التمردِ هذهِ المدينةَ انقطعتْ أولًا طرقُ المواصلاتِ كلُّها، فتجمدتْ عجلاتُ القطارِ، وانقصمتْ أسلاك البرقِ والهاتفِ، وبالتالي انقطعَ التموينُ، وإن المشاغبينَ منْ حزبِ عوامي المحليينَ كانوا فرضوا التطويقَ الاقتصاديَّ على السكانِ منْ قبل، ولكنهمْ في مطلعِ شهرِ مارسَ أصبحوا محصورينَ تمامًا.
ولما تفاقم خطرُ المتمردينَ بل بدأتْ حوادثُ القتلِ والفتكِ تحدثُ بصورةٍ منقطعةٍ، أصبحَ السكانُ يتفكرونَ في أساليبِ المحافظةِ على أرواحهمْ وأموالهمْ، وإن المدينةِ كلها لمْ تكنْ تملكُ إلا بندقيتيْن وبعضَ الأسلحةِ الدفاعيةِ الأخرى، ومعَ ذلكَ فإن السكانَ أخذوا التدابيرَ الوقائيةَ اللازمةَ قدرَ المستطاعِ، فحفروا المخابئَ، وقرروا جماعيًّا أنْ يجابهوا الأخطارَ والهجماتِ متضامنينَ متكاتفينَ، وأخيرًا جاءَ الخطرُ المنتظرُ بقرعِ أبوابِ سانتاهارْ.
وذلكَ أن القواتِ الباكستانيةَ لما تقدمتْ إلى مديرية «بوغرا» وسيطرتْ على الموقفِ فيها بعدَ أنْ تعقبت المتمردينَ والمتسللينَ وأحبطتْ مخططهمْ القاضيَ بجعلِ هذهِ المديريةِ قاعدة «بنغلاديش»، فالتقتْ فلولُهمْ، واتجهتْ إلى مدينة سانتاهارْ ورحَّبَ بهمْ رجالُ حزبِ عوامي وحلفاؤهمْ من الاشتراكيينَ ترحيبًا حارًّا، ولما حلَّ الليلُ جاءتْ كتائبُ البنادقِ الشرقيةِ الباكستانيةِ وفرقةُ بنغالِ الشرقيةِ وعصاباتٌ منْ المتسللينَ والمتمردينَ منْ حزبِ عوامي تشنُّ الهجومَ العاصفَ على سانتاهارْ.
وكانَ المهاجمونَ مدججينَ بالمدافعِ الآليةِ والرشاشاتِ الثقيلةِ والخفيفةِ، كما أن رجالَ حزبِ عوامي المحليينَ كانوا متسلحينَ بالرماحِ والأسنةِ وحائزينَ على كمياتٍ كبيرةٍ من المتفجراتِ منْ قبلُ، وقُتلَ عددٌ كبيرٌ ممنْ قاوموهمْ منْ غيرِ البنغاليينَ في بدايةِ الهجومِ، والذينَ بقيَ منهم اعتصموا في المساجدِ ولجأوا إلى البيوتِ لكونهمْ عُزَّلًا إلا أن المهاجمينَ كانوا يلاحقونهمْ فيقبضونَ عليهمْ ويسوقونهمْ إلى مراكزهمْ ويذبحونهمْ ذبحَ الحيوانِ بعدَ أنْ كانوا يسملونْ عيونهمْ، وكانوا ينزعونَ الأطفالَ الرضعاءَ منْ أحضانِ أمهاتهمْ ويقتلونهمْ إربًا إربًا، ولما قُضي على آخر رجلٍ منهمْ جاءتْ نوبةُ النساءِ، واستخرجهنَ الطغاةُ من البيوتِ وحشدوهنَ في الخلاءِ، كما كانتْ حواليْ المائةِ من النساءِ اعتصمنَ في الجامعِ الكبيرِ، فطلبوا منهن الخروجَ من الجامعِ، ولكنهن رفضنَ الخروجَ منهُ خوفًا على أنفسهنَ، ففتحوا عليهنَ النيرانَ وهنَّ في داخلِ الجامعِ فتساقطتْ الجثثُ بعضها فوقَ البعضِ، وامتلأَ بيتُ اللهِ بجثث المنكوبات التعيساتِ، وسالتْ ساحةُ الجامعِ بمجارٍ من الدماءِ البريئةِ، وبقيت الجثثُ بدونَ أكفانٍ وقبورٍ أيامًا عديدةً.
ولمْ يعْلُ منْ هذا الجامع صوتُ المؤذنِ حتى بعد أن استولت القواتُ الباكستانيةُ على هذهِ المدينةِ أيامًا عديدةً، وأما منْ جمعوهنَّ منْ النساءِ في الخلاءِ اختاروا منهنَ المُسِنَّاتِ وأوقفوهنَّ صفًّا واحدًا وقتلوهنَّ رميًا بالرصاصِ، ثمَ جاءتْ نوبةُ الفتياتِ وصغيراتِ السنِّ منهنَّ فأمروهنَّ بالرقصِ عرايا وعلى إعلاءِ الهتافاتِ بحياةِ بنغلاديش، ولما رفضنَ ذلكَ الفعلَ الشنيعَ مزقوا ملابسهنَّ وأكرهوهنَّ على الهُتافاتِ المقترحةِ بتوجيهِ الطعناتِ بالرماحِ في مقاتلهن، ثمَّ عاملوهنَّ معاملةً بلغتْ من الهمجيةِ مالًا يستطيعُ القلمُ أنْ يعبرَ عنهُ، ولا أستطيعُ أن أقول إلا ما قالهُ الشاعرُ الفارسيُّ سعدي شيرازي: «يا ليتني لمْ تلدني أمي حتى لم أشاهد ما لا يجدرُ بي أنْ أشاهدهُ»، ولما دخلت القواتُ الباكستانيةُ هذهِ المدينةَ بعدَ هذا الحادثِ المذهلِ بسبعةِ أيامٍ تقريبًا وجدتْ ألوفًا منْ الجثثِ العاريةِ للفتيات مُلقاةً في ساحة «مدرسة بنغالة ديشْ الثانوية»، بحيثُ كانتْ أعضاؤهنَّ الجنسيةُ مقطوعةً بشكلٍ يفجعُ القلبَ ويبكي العينَ، وكانت الشوارعُ والبيوتُ غاصَّةً برُكامِ الجثثِ، ووجدت في بعضِ البيوتِ خمسمائةَ جثةٍ، وقابلتْ بعض منْ شاهدوا المجازرَ بأمِّ أعينهمْ وحالفهمْ حسنُ الحظِّ فنجوا منْ هذهِ الفتنةِ فقالوا: «لمْ ينج منْ سكانِ مدينة «سانتاهار» إلا عدد أنفارٍ اختفوا ونجوا بأنفسهمْ مثلنا، بينما العصاةُ لمْ يدعوا طفلًا إلا ذبحوهُ، كما أنَّ البنغاليينَ منْ المسلمينَ الذينَ رفضوا التعاونَ معَ العصاةِ وحاولوا إيواءَ المهاجرينَ «وهذهِ كلمةٌ تطلقُ على منْ هاجرَ من المسلمينَ من الهندِ إلى باكستان أيامَ التقسيمِ» والسكانِ غير البنغاليينَ في بيوتهمْ لاقى معظمهمْ نفسَ المصيرِ الرهيبِ».
«ديناجْ بور»
هذهِ المديريةُ تقعُ في الشمالِ الغربيِّ منْ باكستان الشرقيةِ على حزامِ الحدودِ الهنديةِ، ولكون هذهِ المديريةِ متلاصقةً بالحدودِ الهنديةِ نزحتْ إليها جماعاتٌ كبيرةٌ منْ اللاجئينِ من الهندِ أيامَ التقسيمِ، كما كانتْ تقيمُ فيها عائلاتٌ كثيرةٌ من البنجابيين والباتان لغرض التجارةِ أو الوظيفةِ الحكوميةِ.
وقبلَ أنْ ينزلَ فيها اللاجئونَ لمْ يكنْ لهذهِ المديريةِ شأن يذكرُ، ولكنْ بعدَ نزولِ اللاجئينَ فيها حققتْ هذهِ المديريةُ أشواطًا بعيدةً في الازدهارِ في مجالاتِ الصناعةِ والتجارةِ والزراعةِ.
وكانتْ مدينةُ ديناجْ بور «عاصمةُ المديريةِ» وحدها تضمُّ خمسةً وثلاثينَ ألفًا من السكانِ غيرِ البنغاليينَ، إلا أن هذهِ المدينةَ في مطلعِ العاشرِ منْ شهر إبريل تحولت إلى خرائبَ وصارتْ مدينةً للأَيَامي واليتامى يتسكعونَ في أنقاضها.
بدأتْ الاشتباكاتُ في هذهِ المدينةِ في مطلعِ العاشرِ منْ شهرِ إبريلَ واستمرتْ إلى الخامسَ عشرَ منْ هذا الشهرِ، وصارتْ هذهِ المدينة الباسمة في خمسةِ أيامٍ فقطْ مدينةً يسودها ظلامُ الموتِ الرهيبُ، ولا تسمعُ في أرجائها صوتًا بشريًّا، إذْ قتلَ فيها ثمانيةٌ وعشرون ألفَ نفرٍ من الرجالِ والنساءِ والأطفالِ، وسيقتْ أربعمائة من الفتياتِ المسلماتِ إلى الهندِ عبرَ الحدودِ؛ لإشباع نهمة الهندوسِ الوحوش، وعريت النساءُ المحتشمات وانتهكتْ حرماتهنَّ على مشهدٍ من الناسِ، وعزلوا النساءَ الحواملَ للقتلِ وجمعوهنَ في «مدرسةِ إقبالٍ الثانويةِ»، فبقروا بطونهن وانتزعوا الأجنةَ منْ البطونِ وداسوها تحتَ الأقدامِ، وقطعتْ أيدي الأطفالِ الصغارِ وأرجلهمْ ثمَ تركوهمْ في هذهِ الحالةِ الأليمةِ إلى أنَ ماتوا بشدةِ العذاب، وسلخوا جلود الأحياءِ بنفسِ الطريقةِ التي تسلخُ بها جلود الغنمِ، ثم رشوا عليهم الأملاح مغالاةً في التعذيبِ، وتفرجوا عليهمْ في غمرةٍ من الارتياحِ، ولما طلبَ الجرحى الماءَ بشدةِ العطش بالوا في أفواههمْ، وإذا حصلَ أن رفعَ أحدهم المصحفَ مناشدًا إياهمْ عسى أنْ يخلوا سبيلهُ طرحوا المصحف على الأرضِ، وأطلقوا عليهِ الرصاص، وأخذوا عددا كبيرًا من الناسِ إلى شاطئِ قناة «كنجنْ» بحجةِ أن هناكَ اجتماعًا للجنةِ الأمن ولكنْ ربطوهمْ بالسلاسلِ وذبحوهمْ صبرًا، وبعد أنْ جاءَ الجيشُ الباكستانيُّ هذهِ المدينةَ وعادَ فيها الهدوءُ عثرَ على عددٍ كبيرٍ من الجثثِ للأطفالِ الصغارِ كانتْ رؤوسهمْ مقطوعةً تمامًا، وهكذا فإن الحياة الباسمة الهادئة في مدينة «ديناجْ بور» غرقتْ في بحر خضم من الدماءِ، ولا يتجاوزُ عددُ الذينَ نجوا بأنفسهمْ من الرجالِ والنساءِ باختفائهمْ منْ أنظارِ السفاكينَ بضعةَ آلافِ نسمةٍ، وبعدَ أنْ سيطرَ الجيشُ الباكستانيُّ على مدينة ديناجْ بور في (15) منْ شهرِ إبريل سيطرةً كاملةً انصرفَ إلى دفن آلاف مؤلفة من الجثثِ الملقاةِ في الشوارعِ والبيوتِ، وذلكَ بمساعدةٍ منْ أهالي قصبة «باريتي بور» و«سيد بور».
غيرَ أن الجثثَ كانتْ من الكثرةِ حيثُ لمْ يتمكن الجيشُ منْ دفنها أيامًا، وبقيت الكثيرةُ منها تنتفخُ وتنشرُ روائح عفنة، وشاهدتْ بأمِّ عيني في أحدِ البيوتِ جثةً نائيًا جلدها، وكانتْ ملابسها موضوعةً بجانبها، وعرفتْ منها أن هذهِ الجثة لبنتٍ من البناتِ التعيساتِ منْ قومي أصابتها طعناتٌ عنيفةٌ من الرماحِ والسكاكينِ، وأخيرًا انغمستْ في الدمِ والترابِ، وبقيتْ جثتها لمْ تكمنْ ولمْ تدفنْ لتحكيَ للمشاهدينَ حكاياتٍ واقعيةً عن التجاربِ القوميةِ والاشتراكيةِ في هذا الوطنِ الإسلاميِّ، ولما ذهبتُ إلى «مدرسةِ إقبالٍ الثانويةِ» رأيتُ جليدًا سميكًا من الدمِ تجمدَ في طولِ الساحةِ وعرضها، وكانت الرائحةُ العفنةُ تنتشرُ في أرجائها حتى ما كدتُّ أمكثُ فيها لدقائقَ، وقابلتُ أحدًا منْ أهالي ديناجْ بور أصابته عدة جروحٍ خلالَ الهجومِ، فحكى لي قصةً أدرجها بقَضِّها وقضيضِها فيما يلي:
«أمسكوني من بيتي وساقوني إلى شاطىء قناة «كنجنْ»، وهناكَ انهالَ عليَّ شابٌّ بآلةٍ حادةٍ بكلِّ قوةٍ فسقطتْ على الأرضِ جريحًا، وتركني الشابُّ وتقدمَ إلى الأمامِ، وأصبحتْ إحدى اليدينِ جريحةً لا تتحركُ، وصارَ لساني كالخشبِ الجافِّ بعدَ أنْ سالَ منْ جسدي قدرٌ كبيرٌ من الدمِ، ولما خيمَ الظلامُ تسللتُ متجشمًا إلى القناةِ عسى أنْ أجدَ شيئًا من الماءِ، ورأيتُ الشاطئَ تراكمت عليهِ أكوامٌ من الجثثِ، وكانتْ حمرةُ الدمِ تلمحُ في الماءِ بوضوحٍ، ولمْ أجدْ في نفسي رغبةً في شربِ هذا الماءِ، وتقدمتُ خطواتٍ إلى أن اقتربتُ من المدرسةِ، وسمعتُ خريرَ الماءِ الساقطِ من الميزاب، وذهبتُ إليهِ فإذا بسيلٍ من الدمِ يسقطُ على الأرضِ من الميزاب بدلَ الماءِ».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل