; التاريخ الإسلامي - رصد مساره وسبر أغواره (3) - آثار المنهج المعجز | مجلة المجتمع

العنوان التاريخ الإسلامي - رصد مساره وسبر أغواره (3) - آثار المنهج المعجز

الكاتب أ.د. عبد الرحمن علي الحجي

تاريخ النشر السبت 03-مايو-2008

مشاهدات 12

نشر في العدد 1800

نشر في الصفحة 43

السبت 03-مايو-2008

الفتوحات الإسلامية تجاوزت الحركة العسكرية وشملت كل نواحي الحياة متجاوزة الحدود المباشرة إلى الميادين الفسيحة

إن معجزات الإسلام كثيرة، ومنها تقويماته للفهم الإنساني للحياة والطبيعة البشرية، وهذا المنهج واقعي مؤكد مرئي، من خلال نظرة منصفة متريثة تصغر أمامها كل المناهج، مما يجعلها وحدها هي التي توصل إلى الحقيقة ويحسن السير في الطريق على هداها الرشيد المنير الواضح. وكل هذه من منجزاته ومعجزاته الفريدة العجيبة، كيف لا وهو الذي «لا تنقضي عجائبه» (۱). 

إن حركة تاريخ الحياة ومجرياتها سائرة لا تتوقف، وكم من فرق أن تسير إلى الهاوية، أو أن ترتقي إلى القمم العالية. والنصر للمؤمنين لم يتم صدفة أو جزافًا ولم يأت فلتة، بل كان ذلك بسنن كونية هي النواميس الربانية، سواء كانت مألوفة أو خارقة، فهي قوانين مستديمة، كما أنها نواميس لا تتأخر (2).

منهج رباني: وهذا الفهم -بالمنهج الرباني الفريد- لا يقيم تفسيرًا سليمًا للتاريخ فحسب، بل يقيم كذلك الحياة السليمة التي تثمر وتضمن تفسيرًا قائمًا مؤكدًا ملموسًا حقيقيًا، للتاريخ عمومًا والحياة الإسلامية والإنسانية كذلك، وهي تجد أدلتها بصورة رئيسة من الحياة الإسلامية وعمومها، شواهد قدمتها مبنية على هذا المنهج. 

فهذا المنهج مثلما يربي الإنسان فردًا بكل مكوناته، كذلك يربي الأمة ويلاحم بين أفرادها ويقيم قائدًا لأعمدتها ومرتكزاتها ومقوماتها، يلمها متربية متواصلة متلاحمة.

وإبعاد هذا الفهم يجعل عناصر الحياة غير متكاملة، لأنها أهملت مهمًا، وإبعاد هذا المهم، بل حتى التقليل من دوره وموقعه، يعرقل ويربك ويؤخر المسيرة، ويؤدي إلى ذهابها، وإن كثيرًا من النظريات، حتى التي فيها بعض وجاهة -لكن لإهمالها جوانب أخرى- تكون مضللة، وربما هذا المهم المهمل لا يقل أهمية عن الجوانب المدركة، وهذا هو سبب شقاء الإنسان في عصرنا.

خوارق وغيبيات

ومن المهم جدًا وضع أمور أخرى في موضعها، فلا بد من حساب الخوارق والغيبيات والروحانيات ووضعها في موضعها في تفسير الحياة وأحداث التاريخ، وإن هذه الحزمة المحتشدة في حركة الحياة والتاريخ تبرز متدافعة متداخلة بها، مجتمعة مع غيرها تنير الفهم، وهي لازمة لفهم المنهج نفسه: قرآنًا وسنة وسيرة، حين تتم بمعرفتها موقعه من السنن الكونية المألوفة المكشوفة أو الخارقة، وهذا هو الذي جعل الحياة الإسلامية مترقية متوقية، وغيرها متفلتة تكاد تفتك وتحرق، وبذلك تظهر أمارات الانهيار وتنهار وتنتهي إلى الدمار الذي يأتي على الديار والديار (3).

وهذا -طبيعيًا- يعني أن الفهم الإسلامي ومنهجه هو الذي يمكن أن يفهم الحياة ويجيد تفسيره للتاريخ وحركته ويستقيم أمره. وهو ضروري للإنسان، وإلا فالهلاك والدمار والفوضى، ما دام يصدر عن غير منهج القرآن الذي هو وحده يقيمه على الدرب. لكن هذا لا يتم من خلال الصيغ النظرية، بل لابد من صياغة الإنسان وتربيته واستقرار عقيدته على ضوء هذا المنهج وفي محضنه.

مقارنة بين التفاسير

فلا يمكن للتفاسير المتعجلة أن تفهم -فضلًا عن أن تفسر- مسيرة التاريخ الإسلامي والإنساني، بينما التفسير الإسلامي مستوعب بوضوح تام كل الحياة التي أثمرتها كافة المناهج بإحاطتها بفهمها ونقلها إلى أرضيتها، متلاحمة مع بعضها البعض، في صورة كريمة متكاملة ومرتبطة بجذورها ومنبتها الحقيقي، ومن هذه القاعدة الصلبة يمكن لهذا الفهم الإسلامي أن يعي تفسير الأحداث المتواثبة السائرة الماضية الغابرة والحاضرة «حتى وقتنا الحاضر»، بل يستطيع أن يتوقع مصائرها قبل حدوثها، متقاربًا من الدرجة التي يفهم بها الأيام السالفة: ﴿ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ﴾ ( سورة الرعد: 6)، والتي تعجز المناهج الأخرى عن قراءتها بشكل صحيح قويم مفهوم متجاوب. بل إنها ضلت عن هذه وما فهمت، فبقيت هي نفسها ضالة، وهذا يعني أن المنهج الإسلامي هو الذي يمثل النظرة والفهم الواقعي ويغوص إلى قعر المضامين ويرى بواطنها.

أين يكمُن التميُز؟

وبما أن المسلم -فردًا وجماعة، مجتمعًا ودولة- قد تميز بتميز الإسلام، وليس بأي عوامل أخرى قومية، أو جغرافية، أو وراثية، فلا بد أن يكون تفسيره قائمًا على تلكم الحقائق، وتكون لهذا التفسير قوانينه التي تحكمه، ولا يمكن أن تطبق عليه قوانين أخرى لحركة مجتمع مغاير له، للاختلاف في تكوينه وفهمه وإيمانه ومنطلقاته، وإن كان التفسير الإسلامي للتاريخ شاملًا أيضًا، بمنهجه وصالحًا متكافئًا لفهم وتفسير عموم التاريخ الإنساني، بل هو وحده الذي يستطيع ذلك، ولا بديل.

ومهما يكن، فإن هذه حقيقة متقنة الأساس متينة البناء تقوم على أحداث، لفت وامتدت في الحياة الإسلامية من كل جانب وناحية وميدان، نراها متساوقة منسجمة مع هذا الفهم والمنهج والتكوين، مثلما هي متطاوعة في حركة الفرد والمجتمع حسب هذه الصياغة والصبغة ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: 138).

شمول الحركة وتأثيرها

فحركة الأفراد -كل على حدة- كحركة المجتمع، نراها كذلك فهي مغايرة لكل ما عداها وأي أحد غيره، وقد أخذت تراها تتجاوز غيرها. وكذلك حركة الجماعة والمجتمع والدولة، حاكمًا ومحكومًا، وهذا نراه بوضوح وشموخ عجيب وقوة فذة فريدة ظاهرة باهرة، تمتلك ذلك في أحداث غامرة الحركة مشهودة، امتلأت بها حياة المجتمع المسلم، كما هو الحال في الفتوحات الإسلامية، تجاوزت الحركة العسكرية التي لا علاقة لها البتة بانتشار الإسلام، على عكس ما يظن البعض من الدارسين وغيرهم (٤) بل جالت كل نواحي الحياة، متجاوزة الحدود المباشرة إلى الميادين الفسيحة الشاملة. 

فالعوامل التي تؤثر والأهداف التي تحرك، والقوى التي تدفع ليست هي التي في غيرها، وهذا جعل أثر كل حدث فيها والحركة به أو التوجه نحوه مختلفًا   -كمًا ونوعًا- ولا بد للتفسير الإسلامي للتاريخ وللحياة الإنسانية أن يتضح بهذا البناء ويظهر بمثل هذه الصيغ، وإلا فسيكون كالسير في متاهة والذهاب إلى شتات وتفرق، ويكون الحديث خارجًا عنه ولا بمثله. وهذا أمر جرى النداء به والدعوة إليه، في وقت كان التوجه إليه محدودًا والكتابة فيه مبعثره أو متعثرة أو متعذرة، والأخذ به تجاوزًا. وهو بذلك لا يلتزم ولا يجاري رضا الآخرين عنه، وافقته فلسفاتهم أو خالفته، أقرته أم رفضته، وفي الوقت الذي لا يأخذ بالموقف التبريري أو الدفاعي أو التلفيقي، أو التلقيفي، فإنه منهج أصيل، وقوي، واضح، ومستقل.

تردي الموازين الأخرى

ومن هنا فإن جميع الموازين والمقاييس تسقط أمامه، وتتردى كافة التفسيرات القومية والمادية والجنسية والاجتماعية والبيئية والطائفية، وهذه حتى لو صدقت أو صحت -بأي مقدار- ففي غير المجتمع المسلم، وحتى في هذه ليست دومًا صادقة، لأنها حين تعاملت مع الإنسان أهملت     -في كثير من الأحيان- إنسانيته وتجاهلت فطرته وتكوينه، مثلما تجاهلت وأهملت سنن الحياة والنواميس الكونية، فجارت وحارت ثم بارت، ولا بد أن تبور. فهي عاجزة هنا وهناك سواء بسواء تساوى أمرها في فهم أسباب التردي أو أسباب النهوض والترقي. 

هذا إذا اعتبرنا أن القائمين بها جادون في بحوثهم، وصادقون مع أنفسهم، فهم في هذه الحالة مجتهدون أخطأوا، ولأسباب ترى وتدرك. أما لو كانوا غير ذلك فهم خونة للعلم معتدون على الإنسان متربصون بحياته، لا يحق لهم الخوض فيه ولا التعرض لقضاياه، فضلًا عن توجيه مسيرته أو تفسيرها وتقديم نظريات تاريخه وحضارته، ذلك بسبب من التحكم المسبق في فتاواهم والنظر المطلق في تنظيراتهم، التي وإن سادت حينًا فقد بدا اليوم هزالها، وحتى لكثير ممن قالوا بها (٥) وكثير منها يدور بالإنسان ويأخذه إلى المتاهات المرعبة المتعبة الناصية (٦).

الهوامش

(1) في ظلال القرآن، 2/1041 «من حديث شريف في وصف القرآن».

(2) انظر: في ظلال القرآن 2/1042.

(3) انظر: في ظلال القرآن ٢/ ٦٣٢ 4/2370.

(4)انظر: في ظلال القرآن ٦٧٢/٢- ٦٧٤، ١٤٣٢/٣- ١٤٣٣- 1435-1436-1494-1509-1542.  كذلك: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي «للمؤلف» ۹۷ - ۹۸ .

الرابط المختصر :