العنوان التجربة اليابانيّة في شعر الأمراني (3 – 3)
الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود
تاريخ النشر السبت 01-أكتوبر-2016
مشاهدات 14
نشر في العدد 2100
نشر في الصفحة 74
السبت 01-أكتوبر-2016
التجربة اليابانيّة في شعر الأمراني (3 – 3)
رحلة في المكان والزمان
ب بصفة عامة تبدو لغة المجموعة أقرب إلى السرد الذي يقدم صورة كلية للفكرة، منها إلى الاهتمام بالصور الجزئية التي عهدناها في شعرنا منذ القدم، ولا يعني ذلك أن الشاعر تخلى عن المجاز بتجلياته المختلفة تشبيهاً واستعارة وكناية، فالمجموعة تكاد تكون مجازاً في إطار عام يحتفي بالإشارات والرموز والصور الجزئية، وظّفه الشاعر ليقدم لنا الحالة اليابانية ومناخها الطبيعي والبشري كما نرى في المقطع التالي من قصيدة شنغماي:
بالله يا أيّتها العواصفُ الهوجاءْ
ترفّقي بكلّ من بلّلهُ الحياءْ
أيّتها السَّماءْ
لا تُمطري في ليل شنْغَمايْ
لا تبعثي أسايْ
فإنّه مولايْ
يسير دون معطفٍ
ودونما فراءْ
في ليلك الأزرق يا سماء شنغمايْ
ولا ريب أن الخيط السردي في أشعار التجربة اليابانية وفي الشعر بصفة عامة، يخرج النص من الرتابة إلى دائرة الحيوية والتجدد، وخاصة إذا ضفرته بعض الصور الجديدة «ترفّقي بكلّ من بلّلهُ الحياءْ»، «لا تبعثي أساي فإنه مولاي».
سردية أخرى في قصيدة «قمر شنغماي» تستلهم اللغة الصوفية وتذكرنا بروح الشعر عند محمد إقبال، وتعلن شكوى الكون من سطوة البغاة، وبطلة هذه الشكوى غزالة يختبئ القمر تحت إهابها البهي ويشهق نور روحها الوضيء في قوامها النضر:
تأوّهــتْ غــــزالــةٌ فرعاءْ
جاءَتْ من الصَّحْـــرَاءْ
يسْكُنها الـــخَـــفَـــرْ
تحْتَ إهابِها البهيّْ
يختبئُ القَـــمَـــــــرْ
ونورُ رُوحِـــها الوضيّْ
يشْهَــقُ في قِـــــوامِها النّــضِــــرْ
تأوّهتْ إذ سمعتْ شكوى
كصوتِ النّايْ:
يا ربّ، يا مـــولايْ
الكونُ جــاءَ حاملاً شكْـــواهْ
من سَـــطْـــوةِ البُــغـــاةْ
وقالت السّمـاءُ:
يا إلــهيَ ائْذَنْ ليَ
أُنْــزلْ غضبي عليهمُ
في معطيات التجربة اليابانية نحيا رؤية إنسانية تتوسل بالعديد من العناصر الفنية التي تتناغم مع طبيعة التجربة وأبعادها، ولعل أول ملامح التجربة أنها رحلة في المكان والزمان، ولها من الطرق والمسارات ما يوصل الشاعر إلى غايته، فالرحلة الروحية لها التأمل والتفكير والشكوى والتأملات الذهنية التي تسبح مع التاريخ والمعتقد والخيال، والرحلة المادية تستحضر وسائل المواصلات الحديثة الراهنة وأماكن انطلاقها ووصولها؛ فهناك المطار والقطار والطائر والطائرة والعصفور والسفينة، والرحلة في كل الأحوال استكشاف لعالم جديد في تجربة جديدة، يصحب فيها الشاعر محبوبه إلى مدن اليابان ومواقعها التي أتيح له أن ينزل بها أو يطل عليها.
لا ندري من هو المحبوب المقصود تماماً، ولكنه في كل الأحوال رمز للعلاقة التي تحكم الشاعر، وتجعله يعبر عنها، سواء كان محبوباً من لحم ودم أو هو المحبوب الإله في علاه وفقاً للرمزية الصوفية.
المحبوب البشري يتسلح بالحياء والخفر، وله ملامح من التقشف والزهد، وصراعه مع الرغبة مربوط بالإيمان، فيعصمه من الزلل، هل يعبر عنه هذا المقطع في قصيدة لواء الحمد؟
أرى كلماتِ مولاتي
بجوفِ اللَّــــيْــــلِ
تَفْتَحُ شُرفـةَ التّسْبيحْ
إذا هبّتْ علينا الرّيحْ
فنُضحي مثلما ذي النّونْ
نُلَــفِّــعُ سوءةَ الدنيا
بــأوراقٍ من اليقطينْ
ينطلق الشاعر في الطريق إلى مطلع الشمس مع محبوبه.. من هو؟ إنه يستخدم من أجله الدعاء كي تترفق به العواصف الهوجاء، ولا تمطر السماء عليه حتى لا يتبلل لأنه يسير بلا معطف وقد بلله الحياء؟ ما دلالة «كل من بلله الحياء» هنا؟ هل هي استعادة لقيمة إسلامية إنسانية غابت عن المجتمعات المادية الراهنة؟ إنها معطيات قصيدة شنغماي التي أشرنا إليها من قبل:
بالله يا أيّتها العواصفُ الهوجاءْ
ترفّقي بكلّ من بلّلهُ الحياءْ
أيّتها السَّماءْ
لا تُمطري في ليل شنْغَمايْ
لا تبعثي أسايْ
فإنّه مولايْ
يسير دون معطفٍ
ودونما فراءْ
في ليلك الأزرق يا سماء شنغمايْ
حضور الدعاء في اليابان، وشنغماي خاصة التي أظلمت، ما دلالته؟ وما الباعث عليه؟ وما معنى ظهور القمر في الظلمة؟ وهل رمزيته ترمز إلى أمل بعيد يتوازى مع مئذنة يتيمة وعدد قليل من المصلين، في إشارة إلى أن الإنسانية هنا محاصرة؟ ثم هذا المعجم الذي يدور حول الحياء ومشتقاته في مقابل الواقع لذي يضج بالجرأة والعجرفة والصلافة في قصيدة «قـمـر شـــنغـماي»:
أظْـلمتِ السّماءْ
ومن بعِـــيدٍ قمرٌ
يُطلّ في استحْــيـــاءْ
على ذرى مئذنةٍ يتيمةٍ
تجأر بالدّعاءْ:
يا رافع السّمــاءْ
يا واهب الضياءْ
يا ناشرَ النّهـــارْ
من فضلك العميمِ
يا مُــــفَـــجّــرَ الحجــارةِ الخــرساءِ
بالأنهـــارْ
وحيـــدةٌ أنا بلا عُـــمّــارْ
سوى قليلٍ عشقـــوا السّجـــودَ
في الأسْحـــارْ
أشكو لك اللهمَّ
يا مكوّر الليل على النّهـــارْ
مولاي، يا مُكَــوْكِــبَ الكواكبْ
مولايَ، يا مسيِّــرَ المراكبْ
في البــرّ والبحـــارْ
يا واهب الثّمـــارْ
أطْعمتَــهُمْ، لم يشكــروا
أسْقيتَــهُمْ، لم يذكروا
إلهــيَ العظيمَ، يا مقلّبَ القُـــلـــوبْ
يا غــافــــرَ الذّنُـــوبْ
وأنتَ يا مولايَ بالأبرارْ
ما أرحمكْ
وأنت يا مولايَ بالفُـجّـــارْ
ما أحلمَكْ
هبْني حبيباً
يذرف الدّموعَ في المحرابْ
يا حَــيُّ، يا وَدُودُ، يا وهّـــابْ
الدعاء هنا إشارة إلى نوع من العجز أمام واقع يصعب تغييره بسهولة، إنه واقع شرس خالٍ من الشاكرين والذاكرين، والشاعر يتمنى من رافع السماء وواهب الضياء والثمار والنهار، ومكوكب الكواكب أن يهب هذه المئذنة اليتيمة في أرض اليابان حبيباً يبكي في المحراب خشية من الله ويرفع الأذان ويقيم الصلاة.
الحبيب هنا هو العبد الصالح المخلص المطيع لله، هو حبيب مرتجى، لأنه غائب في البلد الذي لم يتعرف على الإسلام بعد.
وتتواصل الرحلة المادية الروحية في أرجاء اليابان من خلال رصد بعض المواقع التي تشير إلى التاريخ الإسلامي من خلال واقع يختلف عما هو قائم في بلادنا العربية الإسلامية، فتحتشد مثلا قصيدة «سجود القلب في مسجد طوكيو» بكثافة الرؤية الإسلامية التي نطالعها في تصوير حيّ وعذب، يعتمد على الاستعارة والتشبيه والكناية؛ وهو يسرد أداء الصلاة في جامع طوكيو بدءاً من الأذان ثم الوضوء حتى إقامة الصلاة وامرأة تصلي مع مجموعة أخرى من النساء في ليلة عاصفة تقصف فيها الرياح والأمطار «سال صوت بلال، عين مطهرة، يمامة في ثوب قانتة، الصبايا الحور، بكت كقمرية»:
هنا في قلبِ «طوكيو» سالَ
صوتُ بلالْ
يقول: تعالْ
إلى عينٍ مطهّـرةٍ، تُقبّلُ راحتيكَ،
يفيضُ منها الحوض بالأنداءِ،
عينُ الطّهر ليس تغورْ
يُفجرّها أخي الإنسانْ
تفيض عليك بالإيمانْ
رأيتُ يمامةً في ثوبِ قانتةٍ بأسحارِ
على سجَّادةٍ من نورْ
تبايعُـــها الصَّبايا الحُـــورْ
فتنهضُ كي تُصلّي وهْيَ باسطةٌ
مدامَعها إلى الباري
ويحسبها الخليُّ بكتْ كــقُــمْــريّــةْ
إذا ما أرسلتْ شجواً إلى القمْــريّ
في ليلٍ شديدِ العصْفِ، موّارِ
بريحٍ ذات أمطارِ
وقد يكون الحبيب وسيلة للانطلاق في رحلة روحية نحو التعبير عن هموم وطنية وقومية كما نرى في قصيدة «أقمارُ الصَّيف الزكيّة» التي يحلم فيها باستعادة الهيبة وإنصاف الفقراء، وشموخ المساجد وعزة الأمة وتحرير الأماكن الأسيرة من خلال الإشارات الذكية إلى جامع الفنا بمراكش، وسيف ذي يزن، وعائشة القنديشة أو الكونتيسة أو القديسة التي قامت بدور مهم في الجهاد ضد الغزاة.
ابتسمي حتّى تسترجع مرّاكشُ
هيبتها الملكيّة
وتُوزّعَ بهجتها الفيحاءَ على فقراءِ بلادي
ويُردّدَ «جامع لفنا» ألحان «الأزليّة»
ويُــعَــلّقَ سيفٌ يَزنيٌّ
رَقَّ العشق المنشورْ
ويُحَــرّرَ قبل صراخ الأرصادِ الهمجيّة
طائره المأسورْ
وتُهيِّئَ عائشةُ «القنديشةُ»
ولعل قصيدة سراج القلب تختزل الرحلة اليابانية المادية والروحية، فضلاً عن كونها تمثل حالة تداخل النصوص بصورة ممتدة ومتنوعة؛ فهي تنهض إلى قضايا اجتماعية وإنسانية مثل التعاطف مع الفقراء، والشوق إلى الأحبة، وطلب الرحمة من المحبوب الأكبر بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت، ودعوة إلى الحب الإلهي ففيه الطمأنينة والأمل.
الشاعر يستدعي في القصيدة أشعاراً عديدة عربية وإسلامية لحاتم الطائي حول كرمه:
أوْقِــــدْ، فإنّ اللّيْلَ لَيْلٌ قَرُّ
والرّيحَ، يا مُوقِدُ، رِيحٌ صِرُّ
عَسَى يَرَى نارَكَ مَنْ يَمُرّ
إنْ جَلَبَتْ ضَيْفــاً، فأنْتَ حُرُّ
وأخرى لإيليا أبي ماضي، مشابهة لها، وكلها تصب في إطار الرحلة والسفر والغرفة والضيافة.. وشاعرنا يصوغ رؤيته من خلال رحلة النبي موسى عليه السلام في الطور مستمراً في الإيقاع الصوفي ومعجمه:
مُريدُكَ آنس من جانبِ القلبِ نارا
فقال: مكانَـكِ، أمّارتي
فلعلّيَ آتي حبيبي بما يدفع القَـــــرَّ عنه
وما يملأ الرّوحَ وُدّاً
وما يمنحُ الفقراءَ العُــــراةَ دِثارا
ثم يستدعي أبياتاً أخرى بحثاً عن المحاسن المحجوبة بسنا المحبوب في الرحلة الصعبة التي يصر الشاعر على متابعتها:
فيا قلبُ قلْ للأحبّةِ:
إنّي سأركبُ من أجلكم كلّ صعبِ
فإنْ نلت من حِبّكمْ غَرفتين
فذلك حسبي
وإن نلتُ من حُبّكم رشفتين
تألّـهَ قلبي
فسبحانَ ربي
يواصل الشاعر دعاءه، معلناً حسن ظنه بربه، وجميل عفوه، واثقاً أن عطاياه تترا، ويطلب الرضا، والانتقال إلى السماء إذا ضاقت الأرض بالأشواق؛ فالحب هو الغاية والمنتهى، لذا يستدعي ما قاله بديعُ الزمانِ الزمان النورسي:
إذا أنت لم تعرف الحبَّ
أدمتْكَ حُــمْــرُ الحِــــرابْ
ولم يظفر القلْبُ منك بأيّ جوابْ
فأحبَّ إذنْ أيّ شيءٍ
غزالاً
نسيماً
أساريرَ ناسكةٍ تتبتّلُ
عزْمَ مجاهِدةٍ تترجّلُ عن خيْلها
فلعلّكَ في هذه الفلواتِ المخيفةِ
تلقى المريد الذي صار شيخكَ
هلْ عرفتْ شمسَ تبريزَ نجوى جلالٍ؟
ورابعةُ العدويّةُ
هل دمُها سوفَ يذهبُ هدراً؟
ثم يختم قصيدته الطويلة بالقصيدة المنسوبة إلى رابعة العدوية والتي تعبر فيها عن الحب الإلهي الذي لا يبتغي ثمناً، بل هو خالص للمحبوب الأعظم:
أحبُّك حبَّين: حُــبَّ الهــــوى
وحُــبّاً لأنّـــــك أهْــــل لذاكا
فأمّــا الذي هو حُـــبُّ الهـــوى
فشغْلي بذكرك عمّــنْ سواكا
وأمّــــــــا الذي أنت أهلٌ له
فكشفُك لي الحُجْبَ حتى أراكا
وبعد.. يمكن القول الآن: إن حسن الأمراني يقدم أدباً إسلامياً في صورته الرفيعة؛ لأنه يملك الأداة الفنية الفائقة، وهو ما نفتقده في بعض النصوص المحسوبة على الأدب الإسلامي، ويتخذ منها خصوم هذا الأدب، أو قل: خصوم الإسلام دليلاً على ضعف الأدب الإسلامي، ويدفعهم إلى عدم الاعتراف به، مع أنهم يدافعون عن الأدب الشيوعي الذي يروج تحت مسمى الأدب الاجتماعي الذي يبدو أقرب إلى البيانات أو المنشورات السياسية الفاقعة.
وحسن الأمراني يقدم تجربة شعرية إنسانية جديدة بزيارته لليابان، ويصوغ مشاهداته ويعبر عن أحاسيسه منطلقاً من استمساكه بهويته وشخصيته الإسلامية عبر تراث ممتد في التاريخ والواقع، وحلم بالمستقبل الذي يسعى إلى الحرية والعزة واستعادة الهيبة.
لا ريب أن حسن الأمراني شاعر كبير بالمعنى الفني والإنساني، تفخر به الأمة، والأدب الإسلامي جميعاً.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل