العنوان التطـرف.. الوجـه الآخـر
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
مشاهدات 15
نشر في العدد 1171
نشر في الصفحة 47
الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
شعارات التطرف والعنف والإرهاب أصبحت اليوم من الشعارات التي لا يجوز لباحث عربي أن يقربها إلا بوجهة نظر واحدة ومنطق معين، قد يملى عليه إملاء، أو يوجه إليه توجيهًا، فإذا حاول أن يبدي وجهة نظر معينة، أو يدلي بحقيقة ما، دخل من حيث لا يدري في غابة من الألغام، ومتاهة من المتفجرات والصواعق، يستحيل أن يسلم منها، أو يرى بعدها النور، وهذا مما يعقد المشاكل، ويبعد الحلول للقضايا، ويقضي على التفكير المخلص، ويمنع كثيرًا من المصلحين من المشاركة في خدمة أوطانهم، وقد رأيت بعضًا من الباحثين الغربيين والأمريكيين تعرض إلى شعار "التطرف" بالتحليل والبحث الميداني على مدار حقبة من الزمن بدأت قبل عصر التنوير، وانتهت بوقتنا الحاضر، من هؤلاء المؤرخ الأمريكي الكبير الدكتور كرين برنتون، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد الذي تعرض لحقب الثورة الفرنسية الكبرى والثورة الأمريكية، والثورة البلشفية والثورتين الصناعية والفكرية، وتحدث عن رجال تلك الثورات، ثم تكلم عن الحقب الدكتاتورية التي أعقبتها، ونظر إلى حالات التطرف التي صاحبت هذه وتلك، وقننها تقنينا علميا، فكان صادق النظرة في بحثه جديرًا بالتأمل في منطقه وتحليله ونتائجه، وقد خلص هذا المؤرخ الباحث في بحثه إلى أن هناك نوعين من المتطرفين.
النوع الأول من الذين يطلق عليهم وصف التطرف هم المكافحون ضد الظلم في بلادهم وضد التأخر في مجتمعهم، وضد الكبت والتسيب والفساد في ديارهم؛ فهؤلاء أصحاب التغيير، وطلابه، ودعاته في أجواء استنامت وتكورت على نظام معين يحقق مصالح فئة من الناس، ويلغي الآخرين، قد شعروا بمعاناة الناس وآلامهم، فهبوا بفكر وعقل وسواعد فتية يطالبون بالتغيير. يقول الباحث فيهم: "وهؤلاء المتطرفون في مجتمعاتهم يدركون تمام الإدراك قلة عددهم، ويفاخرون عادة بذلك ولا يفت في عضدهم هذا، ويشعرون في بادئ الأمر يقينًا بأنهم منعزلون عن أبناء وطنهم وأنهم وهبوا أنفسهم لقضية لم يكن أبناء وطنهم دون شك على مستواهم أو على مستواها وعيًّا وعملاً، وهؤلاء المتطرفون يقتنعون بأنهم يمثلون حقًّا الطليعة، وأنهم أفضل الناس من أبناء وطنهم، وأنهم تحقيق واقعي لما هو كامن غير متحقق في غيرهم وهم في تلك اللحظة يثقون تماما أنهم أسمى من الكثيرين الخاملين الكسالي".
ثم يقول: "ولا شك أن السلطات في ذلك الوقت تنظر إليهم على أنهم متطرفون خارجون على المألوف والمستقر، وإن كان فاسدًا!! وأما نظر الناس إليهم فهم يشعرون في أعماقهم بالتعاطف مع هؤلاء المتطرفين، وجل هؤلاء من الرجال والنساء المذعورين غير التواقين إلى الاستشهاد؛ لأنهم عاجزون كل العجز عن تحمل الإجهاد الفعلي والمعنوي وكذلك الإجهاد الجسدي الذي يتحمله المتطرف المخلص وقت الأزمة".
ثم يتطرق الدكتور كرين برنتون إلى النوع الثاني من أنواع التطرف فيقول: «قد يتجسد التطرف في أشكال حكومية ذات مركزية عامة، وأن هذه هذه الأشكال تختلف في تفصيلاتها باختلاف مجتمعاتنا"، ثم يقول: الحق أن حكومات الإرهاب تبدو في منتهى الطغيان، ويصعب احتمالها حين ننظر إليها الآن لأنها تكون في منتهى العجز عن استغلال بنيها، أو القيام بأعمال كبيرة، وإن فعلت ذلك فعلته بمنتهى الفوضوية، ومنتهى السوء حيث يكون إداريوها الفعليون ينقصهم الخبرة عادة، ويكونون غالبا من المنافقين التافهين، ومن المعاندين العاجزين الذين ارتقوا إلى مراكز الصدارة بغير حق، وقد هيأ لهم ذلك فرصًا كبيرة للفساد والانحراف، ولا غرابة إذن أن تتسم عهود الإرهاب هذه بأعمال العنف الشاذة.
ثم يشرع الباحث بذكر ملامح هذا التطرف السلطوي وتعديد جوانب هيكلياته على شكل نقاط معينة منها:
1- ارتكازه على هيئة تشريعية هزيلة -ولو أنها كثيرة الكلام- كالبرلمان الهزيل والمؤتمر الشوري، ومجالس الشعب المختلفة وغالبا ما تكون هذه التجمعات من أصحاب المصالح الخاصة، والمجروحين الذين لا يستطيعون بحكم مصالحهم الوقوف في وجه الفساد.
2- الاستعانة بسلطات قضائية معينة؛ فالمحاكم القديمة لا تستطيع العمل في هذه الأجواء وفق أسلوبها التقليدي، ولذلك فإنها تعزز بمحاكم فوق العادة محاكم ثورته، أو تستبدل بها كلها تعيينات جديدة، ورجال آخرون، أو محاكم قضائية خاصة من نوع معين تحكم على وفق الأهواء بأحكام سيئة مسبقة.
3- يستعان غالبًا بفرق خاصة من البوليس بأسماء مختلفة، لإجراء القمع المطلوب، ولقد كانت روسيا في عهد ستالين مثالاً حيًّا لذلك، وفي بعض البلدان المتخلفة أمثلة كثيرة على استعمال البوليس السري الذي يذكر بأمراء الألوية في عهود أوروبا المظلمة التي تذكر بالمحاكم الهزيلة التي أنشاتها الأجهزة القمعية عام ١٦٥٥ . ١٦٥٦، والتي امتزجت فيها السلطات التشريعية والإدارية والقضائية امتزاجًا كاملاً مثلما حدث في محكمة النجم، أيام أسرتي تيدور وستيوارت والتي ضاعت فيها كل المقدسات وحقوق الإنسان.
4- حكم الإرهاب دائما يكون متطرفًا ويمثل حالة من التوتر والعجز والخوف ينقض بقسوة على ذوي الاعتدال، أو أصحاب الإصلاح والرأي الآخر بغير ذنب إلا الاختلاف في الرأي.
5- عدم الالتفات إلى الجرائم الحقيقية في الأمة، والاستعاضة عنها بالجرائم السياسية التي تشغل الرأي العام، وغالبًا ما يعم الفساد والخراب والتسيب لإهمال الجرائم الحقيقية.
6- انفصال الأقوال عن الأفعال، فقد يدعى إلى العدالة، والحرية والتسامح، والواقع عكس ذلك تمامًا، وقد يبشر بالرخاء والسوء الاقتصادي يفوق الحد، وآخر ما يقال في ذلك إن هؤلاء المتطرفين السلطويين ينقلبون إلى مديري مسارح، لا مديري أمم، يجيدون الكذب والتمثيل، لا الأعمال والأفعال والتعامل مع الحقائق، ومن هنا يأتي التردي، وتحل الانتكاسات لذهاب أهل الرأي وانسياح الجهل والفساد، وذهاب القانون.
وقديمًا قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تلقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولوا في الأشرار تنقاد
والبـيـــت لا يـــبـتـــنـى إلا لــه عـــمـــــد ولا جــبــال إذا لــم تـرس أوتاد
هذان هما النوعان من التطرف اللذان أشار إليهما الباحث فأي الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا؟ وهل سياتي على أمتنا يوم تتخلص فيه من التطرف وما السبيل إلى ذلك؟ وهل تتداركها عناية الله ورحمته؟ نسأل الله ذلك.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
مصطفى مشهور نائب المرشد العام للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين يتجاوب مع دعوة أسبوزيتو:
نشر في العدد 1081
15
الثلاثاء 28-ديسمبر-1993