العنوان التفسير العلمي للقرآن.. هــل يتحقق الإعجاز القرآني بالإعجاز العلمي؟
الكاتب الأستاذ محمد الصباغ
تاريخ النشر الثلاثاء 02-يونيو-1970
مشاهدات 97
نشر في العدد 12
نشر في الصفحة 8
الثلاثاء 02-يونيو-1970
اكتشف الإنسان المعاصر القمر، ونزل على سطحه، وعاد إلى الأرض ببعض صخوره، وإنها لخطوة جريئة متقدمة في مجال العلم، ما في ذلك شك.
وما تزال أبحاث الفضاء تطالعنا بالجديد العجيب المثير، وما تزال فتوحات علمية ضخمة تواجهنا بما كان يعده السابقون حلمًا من الأحلام، ونسمع كل يوم توقعات متعددة للمختصين في مجال هذه الأبحاث تفوق التصور تتبعها توقعات من نوع آخر من قبل السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في تغير أحوال إنسان الأرض عقب ذلك.
ولئن استوفى القمر، هذا الكوكب الصغير القريب، حظه من البحث والتجربة والرحلة؛ فإن الكواكب الأخرى الأكبر والأبعد ستكون ميدانًا لأبحاثهم وتجاربهم ورحلاتهم.
والحق أن ذلك فتح ضخم في تاريخ الإنسان وعلومه قابله المؤمنون- كما قابله أهل الأرض- بإعجاب واحترام، وشهد أهل العلم من المسلمين أنها خطوة جريئة تستحق الثناء، لأنها تطلع المؤمن على سعة ملكوت الله، وتفقهه على عظمة هذا الكون الفسيح، وتزيد في إيمانه نمـوًا وقوةً وعمقًا، وتقدّم للإنسان العون على أن يعرف من سنن الله الكونية ما لم يكن يعرف.
ولكن رافق هذه الخطوة الجريئة المتقدمة في العلم إحساس غريب من قبل بعض السذج الطيبين، هذا الإحساس الغريب مشوب بالخوف من أن يكون ذلك مظنة التعارض مع أسس الإيمان وقضاياه.
ولذا فقد انطلق نفر منهم يتلمسون إشارات في القرآن والحديث تومئ إلى ذلك، وخاضوا في هذا الموضوع خوضًا كبيرًا، وتناولت أقلام الباحثين هذا الموضوع بالمعالجة والبحث، ونُوقش من على منابر المسلمين مناقشات بعضهـا سديد وبعضها يحتاج إلى تقويم.
وأود في هذا المقال أن أتحدث عن هذه الظاهرة في تفسير القرآن: عرفت هذه الظاهرة في الدراسات القرآنية بالتفسير العلمي للقرآن.
إن التفسير العلمي للقرآن مدرسة من مدارس التفسير شاعت في عصرنا هذا
شيوعًا كبيرًا.
هل يتحقق الإعجاز القرآني بالإعجاز العلمي ونستطيع أن نجد لهذا الاتجاه جذورًا في ثقافتنا الإسلامية القديمة التي خلفها لنا السلف ومن أبرز أعلامنا القدامى الذين كانت لهم في ذلك أبحاث: الإمام الرازي في تفسيره الكبير مفاتيح الغيب، والإمام الغزالي في كتابيه: إحياء علوم الدين، وجواهر القرآن.
وعقد السيوطي بابًا في كتابه: الإتقان في علوم القرآن تحدث فيه عن العلوم المستنبطة من القرآن، ونقل أقوال عدد من العلماء تقرّر أن كل شيء موجود في القرآن، ولكننا في مطلع هذا القرن الهجري الذي نشهد نهايته الآن نرى هذا اللون من التفسير قد راج ونما، وتوسعت أرجاؤه وتعددت، وتخصص فيه بعض المؤلفين، فما هو؟ وما الرأي فيه؟ إنه تحكيم مصطلحات بين آيات القرآن ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية.
ويعتمد هذا التفسير على التوسع في مدلول الكلمات والآيات القرآنية، والاستيحاء من الكلمة منقطعة عن سياقها في الآية، والاعتماد على الإشارات من هنا ومن هناك.
ويذهب القائلون به إلى أن الإعجاز إنما يتحقق في الإعجاز العلمي، ويقررون بأسلوب خطابي أن كثيرًا من النظريات العلمية الحديثة التي تفتق عنها الذهن البشري المعاصر بعد أجيال من الخبرة والمعرفة وركام من التجارب والمحاولات قد سبق إليها القرآن قبل بضعة عشر قرنًا، وأشار إليها.
ويحاولون الاستدلال على صحة دعواهم بتحميل الألفاظ فوق ما تحمل، ويتكلفون لذلك تكلفًا كبيرًا.
كان الاهتمام بهذا اللون من التفسير نتيجة لانبهار نفر منا بضياء الحضارة الأوروبية التي فتحنا أعيننا علـى مخترعاتها وثمرات علومها، فذهب هذا النفر يتلمس إشارات ذلك في القرآن، ويدعو إلى فهم القرآن على ضوء النظريات الحديثة!!! كأن ما وصلت إليه هذه الحضارة حقائق ثابتة!!!
والحق أن هذا الاتجاه من التفسير غير سديد؛ وذلك لأن العلم في قلق دائم، وتغير مستمر، وتطور لا يكاد يقف لا يجد غضاضة في أن ينقض اليوم ما سبق أن أقره بالأمس، بل إنه ليفعل ذلك مزهوًا بتقدمه وكشوفه.
والحقائق العلمية تبقى بصورة مؤقتة ثابتة في نظر العلماء حتى تدحضها حقائق أخرى، أما الفرضيات والنظريات فهي لأول وهلة في نظرهم لا تعد من الحقائق في شيء.
هذه حقائق العلم ونظرياته.
الحقائق القرآنية نهائية
أما الحقائق القرآنية فهي في نظر المؤمنين حقائق نهائية قاطعة مطلقة، فكيف يجوز في المنهج الصحيح أن يحتكم في آيات الله الصادقة التي تقرر هذه الحقائق النهائية إلى تلك النظريات القلقة والحقائق المعرضة للتغيير؟
إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها، لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها، والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان.
والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه بناء شخصه وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور يوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط. يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكر الصحيح.
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانًا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته ولا حتى بما يسميه «حقائق علمية» مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة، أما ما يصل إليه البحث الإنساني -أيًا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي تقيده بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها.. فمن الخطأ المنهجي أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق أخرى غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري.
هذا بالقياس إلى «الحقائق العلمية»، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى «علمية».. ومن هذه الفروض والنظريات كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه.. فهذه كلها ليست «حقائق علمية» حتى بالقياس الإنساني، وإنما هي نظريات وفروض، كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق، ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسيرات جديدة لمجموعة الملاحظات القديمة.
إن كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات وحقائق ليست مطلقة تحتوي على غلطين:
1- الخطأ المنهجي الذي أشار إليه قبل قليل.
2- تنطوي هذه المحاولة على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم. أما المعنى الأول فهو الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن وأن القرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم أو الاستدلال له من العلم، مع الفرق بين الأمرين.
وأما المعنى الثاني فهو سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان، بناء يمكنه من اكتشاف الكثير ومعرفة العديد من أسرار الكون.
وأما المعنى الثالث فهو التأويل المستمر مع التكلف لنصوص القرآن.. إن رجال هذا الاتجاه يحملون نصوص القرآن ويلهثون بها وراء الفروض والنظريات التي يجدّ فيها كل يوم جديد.
إن التوسع في هذا الاتجاه في تفسير القرآن غير سديد، ولئن حاز إعجاب فئات من العامة وأنصاف المثقفين فإن واجب المثقفين أن يقفوا من هذا الاتجاه الموقف السليم الذي يُمليه الوعي السليم، ورعاية شأن القرآن الكريم.