; التقارب الفرنسي الجزائري.. على حساب من؟ | مجلة المجتمع

العنوان التقارب الفرنسي الجزائري.. على حساب من؟

الكاتب د. محمد الغمقي

تاريخ النشر الثلاثاء 19-يناير-1993

مشاهدات 15

نشر في العدد 1034

نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 19-يناير-1993

أدى وزير خارجية فرنسا رولان دوما زيارة عمل في الأسبوع الماضي إلى الجزائر وأكد دعم بلاده للسلطات هناك في هذا الظرف العصيب، وفي أي إطار تندرج هذه الزيارة؟ وما هي أبعادها بالنظر إلى مستقبل العلاقات الفرنسية- الجزائرية خصوصًا، وعلاقات المجموعة الأوربية بدول المغرب العربي عمومًا؟

تقارب مصلحي

يبدو أن حصول هذه الزيارة في هذا الظرف بالذات جاء نتيجة طبيعية لالتقاء مصلحة الطرفين في التقارب بينهما باعتبار حساسية الظروف الداخلية الخاصة لكل طرف؛ فالنظام الجزائري الحالي يعيش عزلة داخلية وخارجية وليدة الانقلاب على المسار الديمقراطي الذي كاد أن يوصل التيار الإسلامي إلى سدة الحكم، بالإضافة إلى فرض إجراءات أمنية سعيًا لاحتواء المقاومة المسلحة، ورغم المبررات التي قدمتها السلطات للحل الأمني الذي انتهجته فإن الإشكالية الرئيسية التي ما تزال مطروحة تتعلق بضعف مصداقية النظام القائم وشعبيته مما تسبب في جو من عدم الاستقرار وتدهور الوضع الأمني ووضع الحريات العامة «اعتقالات في صفوف أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ- إيقاف الصحف- فرض منع الجولان».

أما على المستوى الفرنسي فإن الحملة الانتخابية قد انطلقت وستنتهي بموعد آذار «مارس» القادم وانتخاب برلمان جديد، وكل التحاليل السياسية الحالية تؤكد على وجود مؤشرات لمعركة انتخابية كبيرة بسبب تقارب الوزن السياسي لكتلتي اليمين واليسار، بل ربما هناك إمكانية تفوق الكتلة الأولى مما يستوجب في هذه الحالة تعايشًا جديدًا بين رئيس اشتراكي وحكومة يمينية.

وقد تكون هذه التخوفات المستقبلية وراء حرص الطرف الفرنسي على كسب ود السلطات الجزائرية لتفويت الفرصة على المعارضة الفرنسية باتهام الحكومة الحالية بالتقصير في دعم الجهات الرسمية في الجزائر وغض الطرف عن التيار الإسلامي.

ومعلوم أن الصحافة الجزائرية الرسمية قامت بحملة مكثفة على فرنسا في الأشهر الأخيرة بحجة أن باريس لها علاقات جيدة مع ممثلين للجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومقصرة في تقديم مساعدات اقتصادية ومالية لفائدة الجزائر، بل وصل الأمر إلى اتهام فرنسا بالوقوف وراء عملية اغتيال بوضياف والتفجير الحاصل في مطار بومدين. 

وازداد التوتر بعد محاولة السلطات الفرنسية فك هيمنة الجزائر على الجالية الجزائرية في فرنسا عن طريق مسجد باريس الكبير، علمًا بأن هذا الأخير كان تحت إشراف أحد أعضاء المجلس الأعلى للدولة الحاكم في الجزائر حاليًا. كما أصدرت السلطات الفرنسية إجراءات مشددة على دخول أبناء المغرب العربي إلى ترابها وذلك لصعوبة «تقديم تأشيرات الدخول» لأغراض اقتصادية وأمنية بالدرجة الأولى.

هاجس عدم الاستقرار

ومما زاد من التخوفات الفرنسية بحث النظام الجزائري عن مخارج لعزلته خارج الإطار الفرنسي وموافقة ذلك المنافسة الأمريكية لفرنسا في المنطقة المغاربية بحيث استغلت الولايات المتحدة الفراغ الذي تركته الدبلوماسية الفرنسية في الجزائر بالخصوص، ومع تدهور الأوضاع الأمنية هناك تخوفت فرنسا أن تنفلت الأمور من يديها وتفقد تأثيرها ونفوذها في منطقة حيوية بالدرجة الأولى بالنسبة إليها. 

من هنا جاءت زيارة دوما لإرجاع الأمور إلى نصابها؛ حيث أكدت التقارير الأمريكية إلى عدم مقدرة النظام الجزائري على السيطرة على الأوضاع الأمنية، بل إنه مهدد بالسقوط إزاء وضع عدم الاستقرار السائد في الجزائر والمنطقة عمومًا تدخلت فرنسا بكل ثقلها إلى جانب السلطة. وفي هذا الإطار جاءت التصريحات المطمئنة لساسة الجزائر سواء التي أعلن عنها وزير الخارجية الفرنسي خلال مقابلاته العديدة مع مسئولي الدولة أو من خلال الرسالة التي أبلغها ميتران إلى الرئيس الجزائري علي كافي؛ فقد صرح دوما بأن فرنسا تسعى إلى البقاء إلى جانب الجزائر خلال هذه المرحلة الانتقالية الصعبة بصفة واضحة وجادة، ومساعدتها على استعادة النهج الديمقراطي عن طريق التنمية. أما عن فريق الحكم فإنه يصفه بكونه «حريصًا على عدم ترك الدولة تضعف، وداعيًا بضرورة إعادة المسار الديمقراطي في يوم من الأيام ومصرًّا على توجيه البلد نحو التحديث». 

وأكد وزير الخارجية الفرنسي على ضرورة ترجمة الصداقة «الفرنسية- الجزائرية» بغير العبارات. وفي هذا الإطار أعلن عن فتح خط قروض مميز لفائدة الجزائر العام ١٩٩٣ بمبلغ يصل إلى خمس مليار فرنك، والتفاوض حول برتوكول مالي، علمًا بأن العجز المالي في الجزائر بلغ حوالي ملياري دولار. كما أعلن عن زيارة وزير المالية والاقتصاد الفرنسي ميشال مابان للتوقيع على اتفاقية حماية الاستثمارات.

أما فيما يتعلق بالإجراءات الأخيرة التي اتخذتها السلطات الفرنسية بشأن الهجرة، فقد طمأن دوما بأن «سلوك الجالية الجزائرية مثالي وتمنى أن البناء الأوربي لا يمس المبادلات بين بلدينا». وأعلن عن بعض «المرونة» في الحصول على تأشيرات الدخول إلى فرنسا إلى بعض الفئات من الجزائريين كالطلبة ورجال الأعمال.

الوقاية خير من العلاج

ومن الشخصيات التي التقى بها دوما الرئيس كافي ووزير الدفاع الجنرال خالد نزار ونظيره الجزائري الأخضر الإبراهيمي الذي بحث معه بشكل خاص الوضع المغاربي والعلاقات بين دول اتحاد المغرب العربي والدول الأوربية الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط وعملية السلام في الشرق الأوسط بما في ذلك قضية الفلسطينيين المبعدين ومشكلة الصحراء الغربية.. ودعا إلى إيجاد حل عبر التوافق بخصوص هذا المشكل.

من جهة أخرى أعلن عن الاتفاق على «سلسلة من اللقاءات الدورية» بين المسئولين في البلدين بما في ذلك لقاءات بين الوزراء مرتين سنويًّا.

ونقل دوما دعوة من رئيس الوزراء الفرنسي إلى نظيره الجزائري لزيارة فرنسا وقال: إن الزيارة ستتم عندما يسمح برنامج عبد السلام «بلعيد» بذلك مع الإشارة إلى أنه لم تكن فرنسا مرتاحة لاختيار هذا الأخير على رأس الحكومة الجديدة خلفًا للسيد غزالي «السفير الحالي للجزائر بفرنسا» لاعتبارات عديدة سياسية بالدرجة الأولى.

وتعليقًا عن هذه الزيارة صرح أحد مسئولي الجبهة الإسلامية للإنقاذ في المنفى «رابح كبير» لصحيفة «الحياة»، واستغرابه من الموقف الفرنسي، واعتبر أن مساندة وزير الخارجية الفرنسي مشبوهة، وعليه أن يقدم المبررات لإعلان مساندته، ودعا المسئولين الفرنسيين إلى أن يفكروا في الشعب الجزائري ويحافظوا على علاقة جيدة به لأنه الأبقى، بينما لا يضمن أصعب القرار في الجزائر غدهم.

وانطلاقًا من كل هذه المعطيات يمكن القول بأن منطق الدولة هو الذي فرض عودة العلاقات الفرنسية- الجزائرية إلى ما قبل الانقلاب على المسار الديمقراطي. كما أن المصالح هي التي قادت إلى هذا التصالح لأن البناء الأوربي لم يكتمل بعد وملامح العلاقات الأوربية المغاربية لم تتضح، وكل تغيير جذري في المنطقة المغاربية في الوقت الحاضر يحمل في طياته العديد من المفاجآت، لذلك فإن أوربا عمومًا وفرنسا بالخصوص غير مستعدة في ظرف الأزمة العالمية والقضايا المزمنة الداخلية الحالية أن تترك الأوضاع تسير في غير الاتجاه الذي لا يضمن لها مصالحها.

الجزائر: أحكام بالإعدام ومأزق الحل الأمني

أصدرت المحكمة العسكرية ببشار عشرين حكمًا بالإعدام منها ستة عشر حكمًا غيابيًّا وأربعة أحكام بالسجن المؤبد، في حين تراوحت الأحكام الأخرى بين سنة سجنًا غير نافذة وعشر سنوات سجنًا نافذة، بينما استفاد عشرة متهمين بالبراءة في قضية ٧٩ عسكريًّا ومدنيًّا بتهمة تشكيل وقيادة مجموعة مسلحة ومحاولة تنظيم مؤامرات وعرض وتوزيع وثائق تحريضية تضر بأمن البلاد وعدم التبليغ في الجرائم. 

وذكرت الصحافة الجزائرية استنادًا إلى بعض المصادر أن قائد هذه المجموعة يحتل مرتبة ضابط بالجيش الجزائري كان على اتصال بقائد «الحركة الإسلامية المسلحة» عبد القادر الشبوطي، وكان قد حاول تنفيذ مخطط لضرب استقرار الجيش بتحريض بعض العسكريين على الفرار.

ودامت المحاكمة ٨٢ يومًا في جلسات مغلقة بحضور ٦٢ متهمًا، أما الآخرون بما فيهم ٨ مدنيين فإنهم ما زالوا في حالة فرار.

ومعلوم أن الدفاع المدني المتهمين كان قد انسحب بعد خمسة أيام من الجلسات المغلقة وتم تعويضه بخمسة محامين عسكريين عينتهم المحكمة للدفاع عن المتهمين. 

وقد أصدرت المحاكم العسكرية والمدنية إلى الآن ٤٦ حكمًا بالإعدام في حق المسلحين؛ حيث أصدرت المحاكم العسكرية ٣٦ حكمًا منذ إعلان حالة الطوارئ في 7 شباط «فبراير» الماضي.

وتندرج هذه الأحكام في إطار الحل الأمني الشامل الذي انتهجته السلطات الجزائرية لمواجهة ما أسمته «بالعنف» علمًا بأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ ترى على لسان مسئوليها «رابح كبير» في تصريح له لصحيفة الحياة بأن النظام هو الذي بدأ بالعنف، أما الشعب فرد بحركة جهادية لرفض الظلم والطغيان. وأضاف بأن عنف السلطات فرض علينا هذا الأسلوب، والشعب الجزائري اختار سبيل الجهاد، وإذا وجدت سبل أخرى فإن الجبهة منذ يومها الأول كانت أحرص على عدم إراقة الدماء، وأنها لم تعلن حتى الآن الجهاد لكنها تعتبر المقاومة التي يمارسها المجاهدون جهادًا في سبيل الله، وإذا تطورت الأوضاع بهذا الشكل واستمر تعنت السلطات فسوف تعلن الجبهة الجهاد.

من خلال هذه المقاربة يفهم أن النظام سار في خيار المواجهة إلى نهايته بما في ذلك إصدار أحكام بالإعدام، وخاصة إذا كان المعتقلون ينتمون إلى المؤسسة العسكرية لخطورتها. أما الحركة الإسلامية المسلحة التي يقال: إنها الذراع المسلح للجبهة فقد أصدرت بيانين يتضمن أحدهما لأول مرة تبني أغلب العمليات العسكرية خلال كانون الأول الماضي ضد القوات النظامية.

لكن يبدو أن فرص الحوار لم تغلق نهائيًّا وأن القطيعة ليست تامة خاصة إذا تراجع النظام عن تنفيذ أحكام الإعدام واعتمد وساطات داخلية وخارجية لإيجاد صيغة تفاوض تجنب البلاد المآسي وإراقة الدماء في أرض المليون شهيد، وما إشارة رابح كبير إلى «سبل أخرى» إلا ترجمة وتعبير عن إمكانية إیجاد مخرج للمأزق السياسي والأمني الحالي.

الرابط المختصر :