العنوان التنوير الإسلامي وغيبوبة الوعي
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 22-فبراير-1994
مشاهدات 11
نشر في العدد 1089
نشر في الصفحة 37
الثلاثاء 22-فبراير-1994
التنوير الإسلامي العالمي حقيقة تاريخية لا يستطيع صاحب عقل أن يماري فيها، والمشروع الحضاري الإسلامي بدهية إنسانية، لا يقدر أي مكابر تجاوزها، فقد جاء الإسلام إلى الحياة على قدر، وظهرت شمسه بميعاد، فكان فجرًا أطل على التاريخ، وضحى أشرق على الوجود، وهداية رفرفت على القلوب والنفوس والجوانح، تنطق به وترويه صفحات الزمان، وتشهد به وتسجله محاكم التاريخ، جاء الإسلام والقرن السادس والسابع الميلادي من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، وكانت الإنسانية متدنية ومنحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها، أو تعاليم تقود خطوها، وتمنعها من التردي، وكلما مرت الأيام زادتها سرعة في الهبوط وشدة في التسفل، ونسي الإنسان ربه، وفقد رشده في هذا القرن، وخفتت دعوة الأنبياء من زمن، وانسحب رجال الدين عن ميدان الحياة، ولاذوا بالأديرة والخلوات والكنائس فرارًا بدينهم من الفتن، وضنا بأنفسهم عن الهلاك، وإخفاقًا في الكفاح الصعب في میدان الروح والمادة، ومن بقي منهم في تيار الحياة، اصطلح مع الملوك والحكام وأهل الشهوات من المنحرفين، وعاونهم على إثمهم وعدوانهم ظلمًا للناس وأكلًا لأموالهم، وأصبحت الديانات فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المنحرفين والمنافقين، فالمسيحية أصبحت مزيجًا من الخرافات اليونانية، وخليطًا من الوثنية الرومانية، وتراكيب من الأفلاطونية المصرية، والأمم الأوروبية كانت في الشمال والغرب تتسكع في ظلام الجهل المطبق والأمية الفاشية والحروب الدامية، واليهودية انقلبت أحقادًا وأضغانًا وأنانية وإفسادًا، وكان اليهود أشد على الشعوب من الشياطين، فما أن يظفروا بأهل دين أو ملة حتى يسوموهم سوء العذاب، ويغروا بهم، ويبيدوهم عن آخرهم.
أما فارس التي شاركت الروم في حكم العالم، وكان لها من الحول والطول ما يشار إليه بالبنان، فكانت حقلًا لنشاط كبار الهدامين الذين عرفهم العالم، وكان الأكاسرة يدعون أنهم من نسل الآلهة، وليس للناس عندهم حقوق، وإنما عليهم واجبات، وليس للناس قبلهم إلا السمع والطاعة، كما كان الناس مستعبدين لهم موقوفين على خدمتهم، وما كانت الجاهلية العربية بأسعد حالًا من باقي الأمم في التردي، بل ويزاد على ذلك فقر مدقع، وحروب مدمرة، وخصومات ماحقة، ونأي بعيد عن الديانات كلها.
كل هذا وذاك من الرذائل، ومن الاستعباد والاضطهاد يصاحبه وثنية بغيضة، وعبودية مهلكة، ويكفي أن تعلم أنه كان في الهند وحدها في القرن السادس ۳۳۰ مليون إله، فكل شيء جذاب يعبد، وكل مرفق في الحياة يعد إلهًا ويقدس، وهكذا جاوزت الأصنام والآلهة الحصر، منها أشخاص وأبطال، وأنهار، وجبال، وأشجار، ونصب، وآلات حرب، وحيوانات، وشموس، وأقمار، وأجرام فلكية، وأعضاء تناسلية، وكانت فوضى ومتاهات أفقدت الإنسانية خصائصها.
وجاء الإسلام فانقشع هذا الظلام، وتوارى هذا الركاموصدق القائل:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا على صنم قد هام في صنم
والأرض مملوءة جورًا مسـخرة *** لكل طاغية في الأرض محتكم
وجاء التنوير الإسلامي المعجز، وصدق الله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ (المائدة:15-16)، ونادى الإسلام في البشرية عامة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ (النساء:174)، واستيقظ الميت المسربل في الجهالة على شموس الهداية، وإشراقة المعرفة، وبعث العقول، وقابل الزمان المتلهف رجال التنوير بالترحاب والإعزاز، ولكم كان الفرق واضحًا لكل ذي عينين، ظاهرًا لكل ذي بصيرة، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾(الرعد:16)، ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾(فاطر:22)، ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾(الأنعام:122).
وما هي إلا طرفة عين في التاريخ حتى رجع العالم إلى عقله، والإنسانية إلى رشدها، وفي هذا يقول توماس كاريل: «لقد كانت صيحة محمد أشبه ما تكون بشرارة ملتهبة، وقعت لا على كثبان كسولة من رمال الصحراء، ولكن على جبال من البارود الذي تفجر مرة واحدة، فعم نوره الآفاق من هضاب الهند وحتى سهول الأندلس».
ولقد جاء التنوير الإسلامي بمشروع حضاري متكامل ومبهرفي كل شيء، جاء بمشروع روحي، ومشروع خلقي واجتماعي وسياسي وأسري، فردي وجماعي، على مستوى الأمة، وعلى مستوى العالم، ولم يكن هذا المشروع نتاج عنصرية بغيضة، ولا وليد شطحات عنيدة أو شهوات متحكمة، وإنما كان وحيًا إلهيًا صافيًا رائقًا، آخى بين الناس، واستل الأحقاد والأضغان، وخاطب الفطرة، وأنار العقول، وطمأن النفوس، ومسح على الأفئدة، فدانت له الألوان والأعراق، فخضعت له الشعوب والأمم عن حب وطواعية، وأخوة وإيثار، فازدهرت به الحياة، ونعمت بهداه، فما أحوج الأمة- بل العالم- اليوم إلى أشعة هذا التنوير الإلهي السامي حتى ترجع الأمة إلى مجدها، وتسترد عافيتها، أما أن تجر الأمة إلى نفايات ظلامية غربية أو شرقية باسم التنوير بغير مشروع حضاري فاعل، بل بمشاريع يعلم أصحابها أنفسهم أنه قد بدأ العد التنازلي لزوالها من زمن، فهذه هي الكارثة.
يقول برزنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد كارتر: «إن العالم مثل طائرة بدون طيار، يسيرها ملاح آلي، وسرعتها في ازدياد مستمر، وليس لها وجهة معينة، وفقدان الأسس الأخلاقية والفلسفية تجعل الملاح الوحيد الآن غير صالح لقيادة الطائرة، وأنه يستحيل لدولة عظمى أن تبقى مسيطرة ما لم تكن حاملة لرسالة ذات قيمة عالمية، ولذلك نقول ليس هناك الآن في العالم نظام يحمي الإنسان في دنياه من الاستغلال والاستعباد والظلم بأنواعه، إلا الإسلام برسالته الخالدة» فهل نفهم ذلك ونعيه؟ وسنظل ننصح الذين يغنون اليوم موال النظام العالمي الجديد، بخاصة من أبناء العرب والمسلمين، أن يصمتوا ويستغفروا ربهم إنه كان غفارًا!!!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
المؤرخ د. عثمان سيد إسماعيل لـ المجتمع: هوية القارة الإفريقية عربية إسلامية
نشر في العدد 1239
17
الثلاثاء 25-فبراير-1997