; التيار العلماني.. من المآزق إلى المخارج(1) | مجلة المجتمع

العنوان التيار العلماني.. من المآزق إلى المخارج(1)

الكاتب بلال التليدي

تاريخ النشر السبت 25-أغسطس-2007

مشاهدات 18

نشر في العدد 1766

نشر في الصفحة 66

السبت 25-أغسطس-2007

هناك ما يشبه الإجماع على أنّ المعادلة السياسية العربية تخضع لتجاذب ثلاث قوى رئيسة هي نظم الحكم، والتيار العلماني، والحركة الإسلامية، مع بعض التجاوز عند إطلاق مفردتي التيار العلماني، والحركة الإسلامية، لأنّنا حقيقةً لسنا أمام تيار علماني واحد له عنوان سياسي واضح، ويتأسّس على أرضية فكرية متوافَقٌ عليها، ولسنا أمام حركة إسلامية تنتظمها توجهاتٍ موحدة، ولكنّنا أمام مقاربات متعددة لا تنتج بالضرورة المسلك السياسي نفسه. 

ورغم أنّ التوافق اليوم حاصل بين الحركة الإسلامية والتيار العلماني حول ضرورة إحداث تحوُّل سياسي في الدول العربية، وضرورة الانتقال بها نحو الديمقراطية، إلا أنَّ التوصيف الدقيق للوضع العربي الراهن لا يكاد يبصر أثرًا لهذا التوافق على مستوى السلوك السياسي لهذه الحركات لتحقيق هذه التطلعات، بل الذي يظهر وبصورة قاتمة في بعض البلدان العربية، هو الصراع العلماني الإسلامي الذي يحتدِم أحيانًا ويصل إلى أشكال من التنابز والمصادرة والإقصاء.

 فالطبيعي- بحكم الشعارات والعناوين التي جعلتها هذه الأطراف مرتكزات لها في الممارسة السياسية- أن يكون التيَّار العلماني أقرب إلى الحركة الإسلامية في مواجهة نوازع الاستبداد، وتغول الدولة الشمولية، لكن الواقع في كثير من البلدان العربية يؤكِّد التقارب الكبير بين أنظمة الحكم والتيار العلماني، كلما اقتربتْ المعادلة السياسية من لحظةٍ حاسمة، وهو ما يتناقض مع المشاريع الديمقراطية التي تتبناها النخب العلمانية، كما يتناقض مع كل التطلعات التي ترفع شعار الانتقال نحو الديمقراطية.

 لكن ما الذي يفسر هذه الظاهرة السياسية في وطننا العربي؟ وما الذي يدفع كثيرًا من مكونات التيار العلماني إلى تغيير عناوينها وإستراتيجيتها التغييرية؟ وهل يمكن الحديث عن مأزق حقيقية للتوجه العلماني بخصوص المطالبة بالديمقراطية في وطننا العربي؟

المأزق الأول الهوية الفكرية

من الطبيعي ألّا تجد أرضيةً فكريةً تنتظم التوجه العلماني بالتحديد، نظرًا لتعدد مكونات هذا التيار، واستحالة أن يجتمع الماركسي والليبرالي والقومي على مرجعيةٍ فكريةٍ واحدة، لكن ليس هذا هو المأخذ الذي نركز عليه في هذا المأزق، إنّ المشكلة الفكرية العميقة داخل التوجه العلماني تكمن أساسًا في تحديد مفهوم العلمانية، وطريقة تمثُّلها داخل مكونات هذا التيار، بالإضافة إلى السلوك السياسي المفضي إلى تحصيلها.

وبالنّظر إلى هذه المشكلة يمكن أن نلحظ عشرات التمثلات المسألة العلمانية، بدءًا من القراءة المتطرفة التي تستصحب التجربة التاريخية الغربية، وتعتبر المضامين الدينية عائقًا حقيقيًا أمام الديمقراطية، وإنتهاءً بالعلمانية المنفتحة والمعتدلة التي تقبل بالإسلاميين الديمقراطيين بتعبير «د. سعد الدين إبراهيم». 

ويمكن للمثقف أن يجد في هذا التعدُّد تعبيرًا عن ثراء داخل التأثيث العلماني، لكن الباحث السياسي يهتم بشكلٍ أكبر بأثر هذه الخلافات على السلوك السياسي الذي سينتهجه التيار العلماني. 

وهكذا تنتج هذه الخلافات مسلكياتٍ سياسيةً مختلفة تخضع بالضرورة للرؤية الفكرية المنظمة لكل توجه من التوجهات، ففي الوقت الذي تجاوزتْ فيه بعض مكونات الطيف العلماني حساسيات الموقف من الحركة الإسلامية، وبدأت تتعامل مع مكوناتها كشريك في جبهة النضال الديمقراطي، نرى مكونات أخرى تشترط على الحركة الإسلامية أن تعدل من أطروحتها الفكرية، وتحذو حذو الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، ومكونات ما زالتْ تحتفظ بأطروحتها الكلاسيكية التي ترى ألّا حوار مطلقًا مع أعداء الديمقراطية، وفي لحظاتٍ حاسمةٍ تجدها تفضل الاقتراب من النظم الحاكمة، قطعًا للطريق على حركة تزعم أنَّها ستكرّس الاستبداد بارتكازها على المضامين الدينية التي تمثل عائقًا أمام بناء الدول العصرية حسب تقليعاتها الفلسفية التقليدية.

فإذا انتقلنا إلى الخلاف الفكري الذي يميز مكونات الطيف العلماني، فسنجد كثيرًا من هذه المكونات لم يوطن الفكر الديمقراطي داخل رؤيته الفكرية والسياسية بشكل ينسجم مع مفرداتها، فما زال الطرح الماركسي يُعاني من مأزق توطين الديمقراطية والممارسة الديمقراطية في نسقه الفكري، إذ لم تحدث مراجعاتٍ جادة في التجديد الماركسي العربي بشكلٍ يجعل الديمقراطية تتعايش مع مفردات البناء الماركسي، وعادة ما ينظر إلى الديمقراطية على أساس أنها مرحلة من مراحل التحرير والانتقال نحو الاشتراكية، وهو ما يطرح سؤال المبدئية والوضوح في الخط الفكري والسياسي، وما زال التيار القومي ذاته يعيش إشكالاتِ تجديد مفردات خطابه بشكل يجعل الديمقراطية تأخذ موقعها ضمن نسقه الفكري- إن صحَّ أن نتحدث عن نسقٍ فكري قومي.

فهذه كلها مآزقٌ تتعلق بالهوية الفكرية، وتنتج ما لا نهاية له من الممارسات السياسية المتناقضة التي لا تتعارض فقط مع التطلعات الديمقراطية، ولكنها أحيانًا- وفي سياق سياسي محدد- قد تساهم في خلق فتنةٍ داخلية.

الرابط المختصر :