العنوان الجمال في كل شيء
الكاتب جاسم المسلم
تاريخ النشر الثلاثاء 11-نوفمبر-1980
مشاهدات 12
نشر في العدد 504
نشر في الصفحة 40
الثلاثاء 11-نوفمبر-1980
ورد في حديث مسلم: «إن الله جميل يحب الجمال»، وما أعظم الجمال في تربية الدعاة ومخالطتهم، فليكن صبرك جميلًا وصفحك جميلًا، تكن بذلك متأسيًا نبيك ومربيك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله بأن يصبر بغير شكوى إلا لله، وأن يهجر بغير أذى، وأن يصفح بلا عتاب، والصبر نهايته النصر والفرج من الله فاصبر على ضعف إخوانك وقلة همتهم، وادع الله لهم وتفان في تربيتهم، وتذكر دائمًا قوله تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران: 159)، وكما قال الله تعالى ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (آل عمران: 186)، وقال: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ (آل عمران: 125)، واعلم أن الله أمر المؤمنين بتقواه، فليفعلوا المأمور، وليتركوا المحظور وليصبروا على ما يصيبهم من المقدور، فمأمور الله هو الواجبات والتي من أهمها المنهيات، والتي من أخطرها ترك الجهاد وإيثار الحياة والأهواء والشهوات.
ثم بعد ذلك الصبر على ما يأتي من مقدور الله. اعلم أن الصبر ذكر في مواطن كثيرة مع التقوى منها قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 90).
كما أنه قد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ (يونس: 109)، وقد قرن الله بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ (البلد: 17)، فمن رحمتك بأخيك أن تصبر على تقصيره وأنت تربيه، وبذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» لذلك أخي المربي لا تشكُ من تلميذك، فأنت كالطبيب المعالج لأمراض الناس، والملزم بالصبر على معالجتهم، وبهجر جميل بغير أذى، وأي أذى أكبر من الإطالة في القطيعة وعدم السؤال! وعند صفحك أخي المربي وفقك الله لا تظهر عتابك، لأخيك، فإنما تعمل هذه الأمور مبتغيًا ثواب الله ابتداء.
* من المفاهيم المهمة عدم الاستخفاف بالعمل ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ (المدثر: 6)، «قرأ ابن مسعود ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ ، قال الحسن البصري: «لا تمنن بعلمك على ربك تستكثره»، وكذا قال الربيع بن أنس واختاره ابن جرير -أي الطبري»([1]).
من المفاهيم التي يجب أن يعيبها المربي، ويحمل نفسه عليها ويربي إخوانه بمعانيها، مفهوم (عدم استكثار العمل على الله تعالى) أو إن شئت (الاستخفاف بالعمل) وهو مفهوم مهم، لأنه يغرس في الداعية الحركة الدائبة المستمرة التي لا تعرف الراحة، متمثلًا قول الشاعر:
بصـرت بالراحة فلم أرها تنال إلا على جسـر من التعب
كما أنه يربي الأخ على عدم الغرور بعمله والنظر إلى نفسه على حقيقتها وصورتها، فإن الغرور بالنفس والنظر إليها على أنها ذات شأن وبال صارف لها عن تلمس سبيل النجاة، «فينبغي أن يكون للمؤمن ظنان: ظن بنفسه وظن بربه، فأما ظنه بالنفس، فينبغي أن ينزل بها دون جماحاتها، ولا يفتأ ينزل، فإذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئًا أوجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائمًا يدفعها، وكلما أكثرت من الخير قال لها أكثري، وكلما أقلت من الشر قال لها أقلي. ولا يزال هو دأبه ودأبها ما بقي. وأما الظن بالله فينبغي أن يعلو به فوق العثرات والعلل والآثام ولا يزال يعلو، فإن الله عند ظن عبده به، إن خيرًا فله وإن شرًا فعليه»([2]).
وهذا الذي ذكرناه هو الذي ينبغي أن تصير إليه النفس، وتربى عليه كما «أن نية المؤمن لا تنطوي إلا على الخير الكامل، فهو لا يعد اليسير من الشر يسيرًا، ولا يرى الكثير من الخير كثيرًا، فالأصل القائم في تلك النية المؤمنة، ألا يبدأ الشر كي لا يوجد، وألا ينتهي الخير كي لا يفنى»([3]).
وأنت إذا أمعنت النظر في وصايا سلفنا الصالح تجدهم يحرصون على وصيتك، بهذا من خلال وصيتهم لأبنائهم، حيث يوصي عون بن عبد الله بن عتبة ابنه قائلًا: «كن ممن يقتدي بمن قبله، فهو إمام لمن بعده، إن زُكي خاف مما يقولون واستغفر لما لا يعلمون، لا يغره ثناء من جهله، يقول ربي أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بها من غيري، فهو يستبطئ نفسه في العمل ويأتي ما أتى من الأعمال الصالحة على وجل»([4]).
وهو كما قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون: 60)، «ومن له همة ناهضة وعزيمة صادقة لا يستكثر شيئًا لله تعالى»([5]) وقد عدوا الإعجاب بالعمل والفخر به من الجهل «كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعمله»([6]) هكذا كان يقول مسروق بن الأجدع، وقد دل على حرصهم على هذا الأمر سلوكهم قبل أقوالهم، فهذا ابن وهب يقول: «ما رأيت أحد أشد استخفافًا بعمله من حيوة»([7]).
وما أدراك ما حيوة هذا، هو حيوة بن شريح زاهد فقيه ثقة من أهل مصر.
ونختم كلامنا بمأثور عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كانوا يرون أنفسهم، وهم من هم في الأسبقية والجهاد، تقول الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها:«والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها»([8])، وذلك في حادثة الإفك.
* إن الدعوة تجارب لا كلمات مسطرة في الكتب، من هنا تأتي صعوبة مهمة المربي
«تدوين التجارب»:
من المعروف لكل داعية أن الدعوة تجارب، ولن نجد في يوم من الأيام سطورًا في الكتب تشرح لنا الدعوة وأساليبها، نعم، قد توضع خطوط عامة، أو إرشادات، لكن الفهم الحقيقي للواقع التربوي والرحلة التربوية، وفهم النفسيات، والمحيط الذي تتحرك فيه الدعوة، كل ذلك لا يكون إلا بالمعايشة الواقعية للعمل.
فنحن كدعاة نواجه نفسيات، ونواجه عقولًا، ومن أصعب المهمات إدخال فكرة في عقل إنسان أو معالجة عيب في نفسه، وكذلك مواجهة واقع سيئ، ومن هنا تأتي صعوبة مهمة المربي، ومن هذا المنطلق قلنا: إن الدعوة تجارب لا كلمات مسطرة في الكتب، تجارب لمعرفة طبيعة النفس الإنسانية وحقيقتها، وتجارب لمعرفة كيفية معالجة هذه النفس، وجعلها تسير على هدي الإسلام.
كان لا بد من هذه المقدمة لكي أتخذها منطلقًا لحديثي عن تدوين التجارب التربوية، فكل أخ في الدعوة يمر بتجربة أو تجارب كثيرة في حقل الدعوة، وهذه التجارب التي يمر بها قد لا يواجهها الكثيرون من الإخوة، وإن واجهتهم فقد تختلف كيفية مجابهتهم وعلاجهم لها، فكان من الضروري أن يسجلها الأخ في مذكراته، يشرح فيها كل ما يتصل بهذه التجربة من ملاحظات وطرق علاج ليستفيد منها إخوانه الآخرون في حقل الدعوة، وهذا التدوين لتجارب الدعوة يفيد كثيرًا لعدة اعتبارات:
* فيه فائدة للدعاة؛ ولذلك حين تكون التجارب الواقعية التي يمر فيها الدعاة مسجلة ومدونة فتجتمع لديه ثروة من المعلومات من الممكن أن تكون مصدرًا من مصادر تقييم السير التربوي للدعاة.
* وبالتدوين يمكن أن تحدث مناقشات مفتوحة بين الدعاة، يتم فيها تبادل الخبرات والتجارب، فتكون فيها فائدة للدعاة في حقل الدعوة، سواء ممن بدأ جديدًا في العملية التربوية، أو ممن كانت له سابقة، فالواقع التربوي: إنه كلما أوغل الإنسان في الدعوة، شعر أن هناك الكثير لا يعرفه ويحتاج لمعرفته، ومن الضروري أن يعي الدعاة العاملون ذلك، والله الموفق.
تقويم اللسان
ومن الأخطاء التي تجري على ألسنة بعض المتحدثين وأقلام بعض الكاتبين قول بعضهم: جابهتُ عدوي، يريدون أسمعته كلامًا غليظًا في وجهه، وهذا خطأ فلم يسمع في كلام العرب جابهته (بالألف) وإنما الذي سمع جَبَهتُه.
ويجدر بنا أن نبين معنى الجبهة في أصل استعمالها عند العرب، والجَبْهةُ هي مستوى ما بين الحاجبين إلى مقدم الرأس.
أما الجبين هي ما فوق الصدغ، وهما (جبينان) عن يمين الجبهة وشمالها، وتجمع الجبهة على جباه وجبهات، ويجمع الجبين على أجبن وأجبنة وجُبن.
ومنها قول بعضهم: اشتريت جريدة المساء أو جريدة الصباح، وهذا خطأ لأن للجريدة معاني أخرى ليس فيها ما يقرأ أو يكتب، فيه فمن معاني الجريدة التي وردت في كلام العرب: (1) البقية من المال، (2) سعفة النخل إذا نزع عنها الخوص، (3) الجريدة من الخيل، هي التي أُخرجت من بين الخيل لغرض يريده صاحبها، وهذان الاستعمالان الأخيران مجازيان للكلمة، ويقال إبل جريدة يريدون بذلك خيار الإبل.
فأنت ترى مما سبق بيانه أن استعمال الجريدة غير صحيح والصحيح أن يستعمل لفظ صحيفة وهي التي جاءت في كلام العرب الفصيح نحو قوله تعالى ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (الأعلى: 19)، ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ (عبس: 13-14).
وهذا كله يعني أن الصحيفة هي التي تحمل الكتابة لتقرأ.
ومنها قول بعضهم: أصيب فلان بالدوخة، وهذا خطأ لا يوافق الفصيح المعروف من كلام العرب فإن لهذه الكلمة معاني أخرى، ليس منها معنى ألم الرأس أو الإحساس بالغثيان، فمن معانيها داخ الرجل إذا ذل، وهانت عليه نفسه، وتقول العرب: داخ الناس إذا أذلهم عدوهم وأخضعهم، وداخ البلاد إذا قهرها واستولى عليها، والصحيح أن يقال في مثل هذا الاستعمال: أصيب بدوار.
ومنها قولهم: تداولوا في الأمر، وهذا لا يصح. والصحيح أن يقال: تداولوا الأمر أي جعلوه متداولًا بينهم، أخذه مرة وذاك مرة ومنه قوله تبارك وتعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140)، وفعل تداول لا يتعدى إلى المفعول بحرف التعدي، وإنما ينصب المفعول بنفسه.
ومنها قولهم: واستطرد في حديثه، وهذا لا يوافق الصحيح الفصيح، والصحيح أن يقول: تابع حديثه، فإن كلمة استطرد في كلام العرب بمعانٍ أخرى منها:
تقول العرب:
(1) استطرد فلان لخصمه: أظهر له الانهزام مكيدة، ومنها:
(2) استطرد إليه الأمر: إذا وصله بعد تأخر.
(3) استطرد الوحش بالسهم ونحوه: عمل على طرده من المكان.
___________________________
الهوامش
([1]) تفسير ابن كثير- الجزء السابع- تفسير سورة المدثر.
([2]) وحي القلم- 1/270.
([3]) وحي القلم- 2/42.
([4]) زهد ابن المبارك- ص333- بتصرف.
([5]) الإحياء- 5/196.
([6]) طبقات ابن سعد- 3/70.
([7]) تهذيب التهذيب- 3/70.
([8]) البخاري- 5/153.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل