; الجهاد هو الطريق.. أمس واليوم وغدًا | مجلة المجتمع

العنوان الجهاد هو الطريق.. أمس واليوم وغدًا

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 29-يناير-1974

مشاهدات 15

نشر في العدد 185

نشر في الصفحة 16

الثلاثاء 29-يناير-1974

لكل معركة من معارك التاريخ معان أو عبر تتركها وتعمقها من فوق أشلاء القتلى، ودماء الجرحى، وأنات الثكالى المكلومين.

ومعركة ٦ أكتوبر بعيدًا عن التطورات التي لحقتها واختلاف الرأي حولها.. هذه المعركة، قد تركت هي الأخرى -شأنها شأن المعارك التاريخية- معاني أو عبرًا.. يجب أن تبقى، وأن تعمق، وألا تضيع وسط الزحام، حتى لا تضيع أرواح القتلى ودماء الجرحى وأنات المكلومين دون أن يكون لها في مسيرة حياتنا ثمن أو حصاد، ودون أن تترك بصماتها على صفحات تاريخنا الطويل.

وبديهي أن ثمة إيجابيات وسلبيات.

وبديهي في مسيرتنا أيضًا أن نعي عبرة التاريخ من الإيجابيات والسلبيات معًا، بل ربما كانت عبرة السلبيات أغلى وأوجب وعيًّا وحرصًا من عبرة الإيجابيات.

والحق، وبصرف النظر عن دخولنا حومة الدوامات فيما بعد، أن ثمة معاني جديرة بالوعي الكامل، يجب أن نحرص على تنظيمها، وتعلمها، وحفظها، وتربية الجيل الحاضر عليها قد تركتها معركة العاشر من رمضان.

ومهما يكن من أمر التقلبات العابرة، فيجب ألا نترك المعركة تضيع في أذهاننا، دون أن نحدد عبرة التاريخ، وأن نرسم على هداها معالم مرحلتنا القادمة.

ولئن كان ثمة نصر حقيقي بارز خرجنا به من معركة ٦ أكتوبر، فلن يكون هذا النصر عملية اجتياحنا لخط اليهودي «بارليف»، وإنما يتجسد النصر الحقيقي في عملية اجتياحنا لخطوط الهزيمة الداخلية التي تعاونت عوامل كثيرة على تعميقها فينا.

إن هذا هو المعنى الأول الذي يجب أن نعيه ونركز عليه ونخطط على أساسه:

• لقد انتصرنا على الوهم.. لقد مات الغول، وانتهت من نفوسنا قصة الغوريلا التي تنام بتأثير مخدرها الرهيب.. والتي حاول «كهنة» الإعلام العربي أن يجعلوها شبحًا مقيمًا في الأذهان والنفوس.

• ومهما يكن من أمر الاتفاقات الدولية فلن نقبل الوصاية الدولية، واستبعادنا - نحن المسلمين والعرب- خدمة للسلام العالمي «الشيوعي المسيحي اليهودي» المشترك.

لقد رفضنا هذا المنطق المكشوف الكافر، أو بتعبير آخر، لقد رفضته دماء الضحايا، وأرواح الشهداء، وأنات المكلومين. وعلى الذين يريدون التعامل معنا أن يعاملونا من مواقع أخرى، ومن منطلقات فكرية أخرى.

• إن مرحلة اليأس، والخوف، والوهم قد انتهت.. ولا مجال لإرهابنا بعد اليوم.. وإن القنبلة الذرية لن ترغمنا على الخوف من الموت، وبدلًا من أن نموت خوفًا من القنبلة الذرية، فالأشرف والأخلد أن نموت بالقنبلة نفسها.. إذا لم يكن من الموت بد.

لقد كان المملوك المسلم «سيف الدين قطز» بطل موقعة «عين جالوت» الفاصلة، ذا مستوى حضاري رفيع، حين انتصر على الوهم قبل دخول المعركة. أعني.. حين قتل رسل التتار أمام الناس، وأظهر لهم أن هؤلاء البرابرة الذين كسحوا بغداد -عاصمة الخلافة- ليسوا أكثر من بشر عاديين انتصروا في ظروف غير عادية..

وقد علق «قطز» رؤوس هؤلاء المرسل على مشانق عالية كي يراها القاصي والداني، ويتسامع الناس بها في مصر والشام وبلاد المسلمين.

-وكان لا بد بعد أن انتصر «قطز» على خطوط الوهم - أن ينتصر في عين جالوت، والأسباب كثيرة:

- أولًا: لأنه إنسان انتصر على الهزيمة الداخلية في نفسه، ونفوس الجماهير المسلمة.

• ولأنه - ثانيًا - انطلق - بعد ذلك في إعداده للمعركة - من المنطلقات الأساسية التي حدد التطور التاريخي الذي هو جزء من سنة الله - أن هذه الأمة لن تنتصر بدونها.

• ولأنه - ثالثًا - قاتل.. وقاتلت معه كل طوائف الشعب، التي سقطت عنها المظالم، وقادها العلماء.. وارتفعت فوق هاماتها، وفي أعماقها.. راية – وا إسلاماه-.

إن معركة ٦ أكتوبر هي الخط الفاصل بين مرحلتين نفسيتين في حياة أمتنا المسلمة.. وهي التمهيد الطبيعي لانحراف خط السقوط إلى ناحية الصعود.

إنها بداية الطريق.. الطريق الطويل الشاق.

ومن السذاجة الزعم بأنها أهم أو أخطر مراحل الطريق ـ كما قال البعض - إنها كانت - في حد ذاتها - مجرد بداية للمسيرة الصحيحة للنصر وكفى. ولن يكون هذا النصر حقيقيًّا إلا يوم نقوم بطرد اليهود من كل الأرض العربية - تمامًا كطرد المماليك في -عين جالوت- التتار من سائر بلاد المسلمين، وأيضًا كما طرد عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي جحافل الصليبيين.

إن الطريق الذي سار فيه هؤلاء -وهو الطريق الوحيد- لطرد اليهود - كل اليهود الطارئين - من أرضنا العربية الإسلامية.. إن هذا الطريق.. هو طريق الجهاد.. الجهاد، ولو إلى الأبد.. إن الصليبيين لم يخرجوا في يوم أو سنة أو عشر سنوات، وإنما استمر الصراع معهم حوالي قرنين ولو أن راية الجهاد سقطت خلال هذين القرنين.. لكانت النتائج ربما أسوا مما نتصور.. لربما قد تحولنا في العالم العربي الإسلامي إلى أندلس أخرى نذبح فيه كالأنعام، ويعمدنا الصليبيون بقسوة السيف..

إن طريقنا الوحيد -بإيجاز- كما حددته أبرز معاني حرب ٦ أكتوبر أن نرفع راية الجهاد إلى الأبد: جهاد مع النفس والمجتمع والأعداء.

 

إننا لم نهزم بالجهاد قط، وإنما هزمنا في كل تاريخنا بالمفاوضات والمساومات وفترات التواكل والرخاء الخادع، وأعداؤنا لا أخلاق لهم، وهم يستغلون مبادئنا والتزاماتنا الخلقية لمصلحتهم.. بل إنهم في الغالب لا يقبلون المفاوضات والمساومات إلا إذا كانت متعلقة بمصلحتهم وحدهم.

الجهاد ثورتنا الدائمة، والجهاد لغة الأقوياء الحريصين على الحياة الشريفة، وفي ديننا أن من ترك الجهاد ذل، وأن من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.. ماذا يعني هذا؟

إن هذا يعني أن يجاهد كل فرد مسلم.. أن تتوالى حلقات الجهاد ولا تنقطع. والتاريخ الإسلامي يؤكد ما أمر به ديننا، فنحن دائمًا في صراع مع الكفر في أشكاله المختلفة؛ بدءا من أبي جهل ومسيلمة، ومرورًا بالصليبيين والتتار واليهود والشيوعيين وليس ثمة نهاية لهذه الملحمة الدائرة بين الحق الذي ائتمننا الله عليه والباطل الذي يدين به هؤلاء، إنه جهاد إلى الأبد.

إن الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة حافلة بتصوير أهمية الجهاد، وضرورته، وضرورة استمراره.. إنه يطلق عليه كثيرًا «الرباط» و«المرابطة» ويطلق على أصحابه «المرابطون»، وليست دولة المرابطين التي قامت في المغرب العربي وحمت الإسلام في الأندلس عنا ببعيدة.

أجل: إن الجهاد استمراري في حياتنا كما تصوره نصوص ديننا، وكما يصوره تاريخنا الذي قامت دول بأكملها من دوله على أساس فلسفة الرباط والجهاد وحماية الثغور ورفع راية التوحيد ونشر الإسلام،.

لقد كنا دائما نرهب الأعداء، وكان الأعداء منذ ارتفعت راية الإسلام وامتدت حضارته لا يفكرون في غزونا.. لماذا؟ لأنهم يعلمون أننا يقظون دائمًا.. راية الجهاد لم تسقط من أيدينا، ولأنهم يعلمون أننا كنا ننطلق دائمًا من إسلامنا.. وإسلامنا يشمل في أعماقنا الحرارة الدائمة: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ﴾. (البقرة: ١٢٠)

إنها حرب أبدية بين الحق والباطل.

ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار».

ويقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».

وسئل عليه السلام: «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله.

قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل ثم ماذا؟.. قال حج مبرور».

إن الجهاد يتلو مباشرة الإيمان بالله والرسول.. ويوضع قبل ركن الإسلام الخامس «الحج».

وليس الجهاد هو اللحاق بركب جماعة المقاتلين فحسب، بل: «من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا»..

إنها قضية تحويل الأمة إلى أمة مجاهدة في كل مواقعها، وبدل الركون إلى الدعة وانتظار سلام الأعداء والرضى بقضائهم فينا، ليكن الجهاد شعارنا الأصيل والحي والمتجدد.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. (آل عمران: ٢٠٠).

 

بالجهاد تتحقق كل أحلامنا.. هكذا تقول تجربتنا مع التاريخ والحضارة، وهكذا تقول كل التجارب الناجحة.

بالجهاد صنعنا حضارتنا.

ومن السذاجة الزعم بأن الفرس والروم أو غيرهم كانوا سيسمحون لنا ببناء حضارة إسلامية دون أن ندك عروشهم.

هل سمحت لنا إنجلترا أو فرنسا بالتقدم الصناعي في ظل استعمارهما لنا؟.. أم أنهما أشاعا فينا العبث والتحلل والرقص، وبدأوا ببناء «الأوبرا» قبل بناء مصنع للأقلام أو الأحذية أو الملابس لشعوبنا الجاهلة العارية؟.

هل كان يمكن للجزائر أن تتبنى نهضة صناعية في ظل فرنسا؟ وهل كان يمكن للدول التي تتقدم في مضمار الحضارة الآن أن تصل إلى ما وصلت اليه وعدوها جاثم على صدرها..؟

والمثل قريب..

إن الصين - لأنها أولًا- حررت نفسها سياسيًّا - تملك الآن القنبلة الذرية وتملك غير ذلك من وسائل الدمار. ومع التقدم الاقتصادي الياباني أو الألماني، هل سمحت الدول المنتصرة في الحرب الثانية لكل من اليابان أو ألمانيا بإنتاج الأسلحة الاستراتيجية أو الثقيلة.. بل الخفيفة؟ كلا..

وبما أننا في ظل الوجود اليهودي المطمئن إلى الدعم الصليبي الدائم؛ لا نستطيع أن تكون تجربتنا نسخة من تجربتي ألمانيا أو اليابان، فلا طريق أمامنا إلا التحرر.. أولًا.. أو الإصرار على التحرير من خلال حرب دائمة، والعمل في الوقت نفسه على مواصلة البناء الحضاري الداخلي.

إن هذا الوجود اليهودي واضح مع نفسه.. إنه يعتقد أنه لا سلام له إلا بضمان تدميرنا بين الحين والحين (٤٨ - ٥٦ - ٦٧)، وهو يرسم في ذهنه حدودًا آمنة تعني بقاءنا عبيدًا له في الأوقات كلها.. ويستطيع من خلال الحدود الآمنة الاطمئنان إلى الانخفاض الدائم في معدل رقينا الحضاري. ويوم يشعر بأية بادرة نهضة، فإنه سيكون في المكان الذي يسمح له فورًا بضربها ووأدها في المهد.

من هنا تبدو ضرورة الجهاد الدائم، لكي نعيش ولكا نتقدم. وحتى مع الانتصار الدائم يجب رفع راية الجهاد لحراسة النصر على الأقل، وأما مع الهزيمة والظلم فالجهاد واجب لرفع الهزيمة والظلم: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر» كما قال رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام.

إننا مدعوون لتغيير سير حياتنا، ومحط تفكيرنا، وأسلوب إعلامنا ولن يتأتى لنا هذا التغيير بالخطب وحدها.. وإنما بإعلان ثورة الجهاد إلى الأبد، وبتحولنا إلى أمة مرابطة في سبيل «وااسلاماه»..

ونحن كذلك مطالبون بتطهير بلادنا من الثغرات الطائفية ومظاهر التفكك، ومن المحافل الماسونية «الصهيونية» المنتشرة في مدننا العربية الإسلامية كي تمد العدو بالمعلومات التي تحصل عليها من خلال احتكاكها بالجماهير أو ممارسة أعضائها لبعض الوظائف الحيوية. ومثلها نوادي الروتاري والليونز التي تعمل على جمع أسرار بلادنا وتحليلها وتبليغها لأعدائنا، هذا بالإضافة إلى أوكار الرذيلة وحانات الخمور والآفات الاخلاقية والاجتماعية الأخرى المنتشرة في مجتمعاتنا بتأثير ابتعادنا عن إسلامنا وخضوعنا لسموم الصليبيين واليهود الخبيثة.. كيف نزيلها بغير الجهاد الدائم؟

لقد كتب الخليفة عمر -رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص بطل القادسية يقول: «آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون لمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم».

فكيف نحقق هذه الثورة التطهيرية في مجتمعاتنا التي ينتظرها صراع طويل، والتي يتشبث بها الأعداء من كل جانب؟.. إن هذه الثورة التطهيرية لا يكفي فيها الكلمات الجميلة ولا الوعظ الطيب، بل لا بد من «الجهاد»، لأنه في ظل الرخاء والسلام الظاهري لا يمكن أن يبلغ البناء تمامه، لأنك تبنيه وغيرك يهدم.

إن ابن القيم الجوزية - أحد المفكرين الإسلاميين الكبار- يشرح آية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. (العنكبوت: ٦٩) بقوله: «علق –سبحانه- الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه. ومن ترك الجهاد فإنه من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد. قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا. فمن نصر عليها نصر على عدوه».

هكذا فهم أسلافنا الجهاد.. فهموه تطهيرًا في داخل النفس والمجتمع، تمهيدًا للتطهير في الخارج وفهموه معركة في الباطن والظاهر. وفهموه معركة مستمرة بين الحق والباطل شاء الله أن يستعر أوارها منذ أول التاريخ وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

المهم أن ننتصر على الهزيمة في أنفسنا، وأن ننتصر على الهزائم العابرة، وألا يخدعنا نصر جزئي والمهم: أن نفهم طريقنا الذي شاءت سنة الله ألا يكون لنا طريق سواه.

والله غالب على أمره ولو كره الكافرون.

الرابط المختصر :