العنوان الحد من التسلح في جنيف: حقائق وأكاذيب حول الأمن الدولي الأعرج
الكاتب نبيل شبيب
تاريخ النشر الثلاثاء 11-فبراير-1997
مشاهدات 18
نشر في العدد 1238
نشر في الصفحة 36
الثلاثاء 11-فبراير-1997
تحليل سياسي
- المزاعم القائلة بأن معاهدة حظر التجارب النووية تستهدف تخفيف مخاطر الحرب هي في حقيقتها محاولة من الدول الكبرى لمنع تسليح الدول الأخرى
- لا سبيل إلى الامتناع عن الخضوع الإسلامي للضغوط الدولية المتنامية إلا عن طريق صيغة أمنية مشتركة تجمع الدول الإسلامية على أرضية راسخة
بون: نبيل شبيب
بدأت في جنيف جولة أخرى من المفاوضات الدولية فيما يسمى «مؤتمر نزع السلاح» التابع لهيئة الأمم المتحدة، ومن المفروض أن تستمر هذه الجولة حتى مارس «آذار» المقبل، وليست محاولة تخفيف أخطار الحرب عن طريق الحد من التسلح جديدة، فقد كانت البداية الأولى في عام ١٩٣٢م من جانب عصبة الأمم، وأخفقت إخفاقًا ذريعًا فوقعت الحرب العالمية الثانية بدلًا من ذلك، وتلاها أكبر سباق على التسلح في تاريخ البشرية، وتجددت المحاولة عام ١٩٦٢م، بمشاركة ١٨ دولة، وارتفع العدد في هذه الأثناء إلى ٦١ دولة هي التي تصنع الأسلحة المعنية بالبحث وتملكها وتتاجر بها في أنحاء العالم، وبعضها مرشح لذلك فحسب وفق المستوى التقني الذي وصل إليه.
وقد حملت مفاوضات جنيف اسم «مؤتمر نزع السلاح»، منذ 15 عامًا، ولكنها لم تتوصل حتى الآن إلى اتفاقية واحدة وضعت موضع التنفيذ، وتسمح بتبرير الوصف المذكور، بل يمكن القول إن المشكلة الرئيسية التي سيطرت على المؤتمر، ولاسيما في مفاوضات عام ١٩٩٦م، هو ذلك التناقض الشديد بين المساعي المبذولة من جانب الدول التي تملك السلاح المتطور للحيلولة دون وصوله أو وصول تقنياته إلى سواها، وبين رفضها الدائم لعقد اتفاقيات عالمية تلزمها بإتلاف ما تملكه، أو يحظر عليها استخدامه والتهديد باستخدامه على الأقل، كما يقتضي تعبير «نزع السلاح» في الأصل.
أكذوبة الحد من التسلح
الموضوع الرئيسي الذي سيطر على مؤتمر جنيف عام ١٩٩٦م هو حظر التجارب النووية حظرًا شاملًا، وتميزت المفاوضات بالضغوط الكبرى التي مارستها الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، على الدول النامية التي تمتلك جزئيًّا تقنية الصناعة النووية العسكرية، حتى تركت تلك الدول الهند وحدها في ميدان المعارضة، بعد أن كانت تطالب معًا - مثل ما كانت تصنع من قبل في مفاوضات تمديد حظر انتشار الأسلحة النووية - بربط الموافقة على حظر التجارب بأن تعطي الدول النووية تعهدًا بالتخلي عن تسلحها النووي الراهن، رغم ذلك فإن العجز عن التوصل إلى إجماع الأصوات في جنيف في العام الميلادي الماضي، لم يمنع من مواصلة المساعي عن طريق الدورة العامة للأمم المتحدة، فتم هناك التصديق على النص كما أرادته الدول النووية، ووقعت عليه في هذه الأثناء ۱۳۸ دولة، ولكن لا يمكن أن يسري مفعول اتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية، إلا بعد أن توقع الهند عليها أيضًا.
والواقع أن المعاهدة الأخرى المتعلقة بحظر انتشار الأسلحة النووية كانت تتضمن عند عقدها قبل بضعة وعشرين عامًا «وعودًا جازمة» بأن تتحرك الدول النووية بالفعل على طريق الحد من تسلحها النووي بمعنى نزع السلاح وإتلافه، وربطت مقدمة المعاهدة بين تمديدها وبين تنفيذ هذه الوعود، ولكن فترة المعاهدة - ٢٥ عامًا – انتهت دون تنفيذ هذه الوعود، وجرى تمديدها إلى أجل غير مسمى دون مجرد التعهد بتنفيذها لاحقًا، ولم تكن الدول النووية تخفي بهذا الصدد أنها إنما تفرضإرادتها على سواها اعتمادًا على قوتها.
لقد كشفت مفاوضات جنيف عام ١٩٩٦م عن الأكذوبة الرئيسية التي تسيطر عليها، فمن البداية تحولت غاية المؤتمر من تخفيف أخطار الحرب والتسلح عالميًّا، إلى ضبط أسباب احتكار السلاح المتطور لدى عدد محدود من الدول، تختلف فيما بينها في ميادين عديدة، وتتفق في نهاية المطاف على ألا يتوفر في البلدان النامية حتى القدر الأدنى من القوة الرادعة الضرورية لمواجهة احتمالات استخدام تلك الأسلحة المتطورة ضدها.
على أن ما يوضح مدى الخداع في وصف اتفاقية حظر التجارب النووية بأنها إجراء يستهدف الحد من التسلح العالمي وترسيخ دعائم الأمن الدولي، حقيقة أن الدول النووية المعنية لم توافق أصلًا على حظر التجارب النووية تحت الأرض، إلا بعد أن وصلت بتطوير تقنياتها إلى مستوى يسمح لها بالاستغناء عن تلك التجارب، دون أن تتوقف عن متابعة صناعاتها العسكرية الفتاكة، وهذا ما أقيمت له أحدث المنشآت في تلك البلدان، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، اعتمادًا على ما يعرف بتنقية «التجارب الوهمية» طبق الأصل على شاشة العقول الإلكترونية، إن المزاعم القائلة إن معاهدة حظر التجارب تستهدف تخفيف مخاطر الحرب والتسلح، تتحول بذلك إلى مجرد حبوب مسكنة للرأي العام من جهة، ومن جهة أخرى إلى قيود إضافية في رداء شرعية دولية مزعومة للحيلولة دون تسلح الدول الأخرى التي يمكن أن تتعرض لخطر عدوان خارجي عليها.
تزييف الشرعية الدولية
هذه الأكذوبة قديمة قدم بدء مفاوضات جنيف نفسها، ففي الماضي أيضًا كانت أول معاهدة على الإطلاق أمكن التوصل إليها في مؤتمر جنيف، هي معاهدة حظر التجارب النووية في الأجواء الفضائية والكونية وفي الماء، ولم تعقد هذه المعاهدة إلا بعد إجراء ألوف التجارب النووية في الأجواء وفوق سطح الأرض، وبعد وصول التسلح النووي في الشرق والغرب إلى ذروة خطيرة، وانكشف عقب سقوط الاتحاد السوفييتي فقط حجم الأضرار الضخمة التي أصابت السكان في منطقة التجارب والقرب منها، وكان معظمهم من المسلمين في قازقستان، وهي مماثلة لأضرار التجارب التي أجرتها البلدان الأخرى ولم ينكشف أمرها جميعًا بعد، ولكن تكشف عن بعضها وسائل الإعلام في الدرجة الأولى بين الفينة والفينة، وآخر ما تسربت معلومات «رسمية» بصدده قبل أيام، كانت في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تردد أن ٢٠٠٠ تجربة أجريت بين عام ١٩٤٥م و١٩٥٨م، قد تعرض لإشعاعاتها القاتلة ما لا يقل عن ٢٥٠ ألف جندي، ما يزال ٦٠ ألفًا منهم على قيد الحياة، ولم تعترف وزارة الدفاع بتعويض على الأضرار الصحية التي أصابت معظمهم وأفراد أسرهم، إلا في ٤٥٠ حالة.
التناقض بين الحقائق والمزاعم المعلنة رسميًّا يظهر بوضوح أكبر عند الإشارة إلى أن تلك المعاهدة القديمة أيضًا لم تعقد لحظر التجارب النووية، إلا بعد أن تأكدت الدول المعنية عمليًّا من جدوى تقنية التجارب تحت الأرض، فلم يشملها الحظر لمتابعة التسلح النووي، بل اقتصر الاتفاق على حظر تلك التجارب التي لم تعد توجد حاجة إليها، ولكن اقترن ذلك في حينه بحملة مركزة التضليل الرأي العام داخل البلدان المعنية عالميًّا، شبيهة بالحملة التي شهدها عام ١٩٩٦م مع عقد المعاهدة الجديدة.
وتخضع اتفاقيات الحد من التسلح إلى أنظمة معقدة من حيث التصديق عليها وسريان مفعولها، توحي للوهلة الأولى بأنها ناتجة عن شروط الوصول بها إلى مستوى معاهدات «قانونية دولية» ملزمة، وهي لا تخضع في واقع الأمر إلا لمبدأ واحد – إذا صح وصفه بالمبدأ – وهو إرادة القوة وما يفرضه من يملكها في العالم المعاصر، ويسري ذلك على اتفاقيتين عالميتين أخريين أمكن التوصل إليهما في مفاوضات جنيف أولاهما لحظر الأسلحة الحيوية منذ السبعينيات الميلادية وقد أصبحت سارية المفعول في هذه الأثناء، والثانية لحظر الأسلحة الكيماوية وقد عقدت عام ١٩٩٢م ومن المفروض أن يسري مفعولها في أبريل «نیسان» القادم، بعد أن وقعت عليها ۱۷۸ دولة.
ولكن الدول الرئيسية، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وكلاهما على رأس من يصنع تلك الأسلحة ويخزن كميات ضخمة منها، بلغ حجمها عشرات الألوف من الأطنان، وتكفي لإبادة البشرية جمعاء ألوف المرات... هذه الدول لم تخط حتى الآن خطوة واحدة في اتجاه تخفيف ذلك المخزون الضخم على الأقل، فضلًا عن إتلافه نهائيًّا، وإنما بقيت سائر الجهود المبذولة مركزة دوليًّا على «إرهاب» البلدان التي لا تمتلك تلك الأسلحة من العمل على تصنيعها، ولا يحتاج الأمر إلى أدلة على زيف عنوان «الشرعية الدولية»، إذا ما ذكرنا على سبيل المثال دون الحصر كيف تحرك الأمريكيون عسكريًّا، فلم ينتظروا الحصول على تفويض دولي ولا حاولوا الحصول عليه أصلًا، عندما قاموا بحملتهم الجوية على المنشآت الليبية، بذريعة الاشتباه بإقامة مصنع للأسلحة الكيماوية.
الصفقات الملغومة
والمفروض من الناحية المنطقية أن الخطر الحقيقي من امتلاك هذه الأسلحة لا يكمن في وصولها إلى دولة من الدول الصغيرة التي تحتاج ولا ريب إلى عشرات السنين قبل أن تتحول هذه الأسلحة لديها إلى قوة «رادعة» فحسب، وهي على أي حال لا تستطيع وفق الموازين العسكرية الأولية المحضة أن تصل بها إلى مستوى تشكيل تهدید فعلي ومباشر تجاه الدول التي نصبت نفسها في موقع الشرطي والجلاد في ساحة الأمن الدولي.
كما أن من أشد الحجج تضليلًا بهذا الصدد القول إن الخطر الأكبر يكمن في «نوعية الأنظمة الاستبدادية»، القائمة في تلك البلدان الصغيرة نسبيًّا، فالحجة الأقوى هي أن الدول الغربية بديمقراطيتها القديمة والشرقية بديمقراطيتها الحديثة، هي التي استخدمت هذه الأسلحة الفتاكة أكثر من سواها، كلما ضمنت عدم قدرة الطرف المتعرض لعدوانها على الرد عليه، ولم يقتصر ذلك على أن السلاح النووي لم يستخدم إلا مرة واحدة، في اليابان من جانب الأمريكيين، ورغم أن الحرب العالمية الثانية كانت قد انتهت واقعيًّا وكانت اليابان على استعداد لتوقيع اتفاقيات «الاستسلام»، بعد أن وقعتها ألمانيا وإيطاليا، إنما استخدمت الأسلحة المحظورة دوليًّا مرات عديدة أخرى، وكان ذلك في الدرجة الأولى كما هو معروف من جانب الأمريكيين في فيتنام والروس في أفغانستان، وهذا ما لا يزال مستمرًا حتى الآن، كما يشهد الكشف قبل أسابيع معدودة عن استخدام الروس في الشيشان في عهد الرئيس «الديمقراطي»، يلتسين لعدد من الأسلحة المحرمة دوليًّا، وفي مقدمتها ما يعرف بالقنابل الفراغية الشديدة الفتك بالبشر وبالعمران على السواء، وليس مجهولًا أيضًا أن السياسة الأمريكية هي التي توفر التغطية الدولية – لا الشرعية الدولية بطبيعة الحال – لاستخدام الإسرائيليين أسلحة محرمة دوليًّا أيضًا، كما هو الحال من القنابل العنقوية والانشطارية والحارقة ولعب الأطفال الملغومة وغيرها في جنوب لبنان.
لقد كانت الاتفاقيات المعقودة في الماضي أشبه بصفقات محضة بين الدول ذات التسلح الفتاك المحظور والأخطر على البشرية مادامت هذه الدول تسيطر عليه، ومن المنتظر أن تشهد الجولة الجديدة للمفاوضات في جنيف مزيدًا من تلك «الصفقات» بين هذه الدول على حساب سواها، مفاوضات عام ١٩٩٦م، شهدت أمثلة على ذلك، أبرزها للعيان ترضية الصين الشعبية بالتقنيات الأمريكية - وبتسهيلات موعودة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية - مقابل الموافقة الصينية في اللحظة الأخيرة على حظر التجارب النووية تحت الأرض، وسيكون الميدان الرئيسي للصفقات الجديدة في الجولة الراهنة من المفاوضات بين واشنطن وموسكو في الدرجة الأولى، وهو ما بدأت بوادره بالفعل بإعلان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الرغبة في التفاوض من الرئيس الروسي بوريس يلتسين، خلال لقائهما القادم في أبريل نيسان ۱۹۹۷م على المعاهدة الثالثة للحد من الأسلحة النووية البعيدة المدى وكانت الاتفاقية الثانية قد وقعت في ٢/١/١٩٩٣م، وتضمنت الاتفاق الثنائي على تخفيض هذه الأسلحة إلى ما يتراوح بين ۳۰۰۰ و٣٥٠٠ قطعة سلاح لكل طرف قبل حلول عام ٢٠٠٣م، وامتنع مجلس الدوما النيابي في موسكو عن التصديق على الاتفاقية حتى الآن باعتبارها تشمل الأسلحة المنتشرة برًّا، بينما يبقى للأمريكيين تفوق خطير من خلال أسلحتهم النووية البحرية، ولم يعد الروس قادرين ماليًّا على التعويض عن ذلك ببرنامج تسلح جديد هذا ما دفع موسكو إلى الترحيب الآن بالعرض الأمريكي الجديد الذي يمكن أن يزيل العقبة الأخيرة في وجه تنفيذ الاتفاقية الثانية، إذا ما تم الاتفاق على تخفيض الأسلحة المعنية إلى ٢٠٠٠ قطعة لكل طرف.
حظر الألغام المضادة
ويظهر وجه الصفقة المنتظرة في الثمن الذي يريد الأمريكيون الحصول عليه، وهو الموافقة على حظر الألغام المضادة للأشخاص، وهو ما تسعى إليه سائر الدول الغربية في الوقت الحاضر والحجة «الرسمية المعلنة»، وراء ذلك هو المخاطر الكبرى المعروفة التي يمثلها انتشار الألغام في زهاء ۱۱۰ دول في الوقت الحاضر، مما يسبب مقتل الألوف سنويًّا، ولاسيما في أفغانستان والصومال ومنطقة البلقان، ولكن الأرجح هو أن الدافع الفعلي يكمن في أن الصيغ الجديدة للعمليات العسكرية كما تضعها الأجهزة الغربية كحلف شمال الأطلسي، وتتركز على التدخل السريع وتوجيه الضربات الجوية في الدرجة الأولى، لم تعد تحتاج إلى الألغام الماضدة للأشخاص، ويلفت النظر هنا إلى أن الدول الغربية ترفض أن يمتد الحظر إلى الألغام الأخرى المضادة للدبابات والمدرعات بل على النقيض من ذلك فهي ماضية في تطوير تصنيعها للتوصل إلى ما يوصف بالجيل الثالث والجيل الرابع من الألغام، ويوصف بالألغام الذكية الأشد فتكًا والقابلة لاستخدامها ضد القوات «المعادية»، ثم إبطال مفعولها عن بعد قبل اقتحام مواقعها كيلا تتعرض قوات الطرف المهاجم لأخطارها!.
الأمن العالمي الأعرج
الأهم من ذلك أن تقنية صناعة الألغام المطلوب حظرها الآن بسيطة نسبيًّا وتكاليف إنتاجها منخفضة، وهذا ما جعلها في متناول عدد كبير من الدول النامية، التي تريد الربط بين الاستغناء عنه وبين تعهد الدول النووية بالتخلي عن تسلحها النووي أيضًا، وترفض الدول النووية ذلك، وترتكز المعارضة الروسية الحالية على القول بحاجة الاتحاد الروسي إلى الألغام الأرضية لحماية حدوده الطويلة والمقصود في المنطقة الجنوبية مع البلدان الإسلامية، ولكن الأمريكيين يلوحون في ضغوطهم الراهنة على الروس ببرنامج جديد لإقامة شبكة جديدة من الأسلحة المضادة للصواريخ النووية، وهو ما أعرب عن تأييده ساسة الحزب الجمهوري بغالبيتهم الراهنة في مجلسي الكونجرس الأمريكي، ووزير الدافع الجديد كوهين، رغم أن هذه الشبكة تمثل خرقًا لاتفاقية ثنائية معقودة مع موسكو منذ عام ١٩٧٢م بصدد الأسلحة المضادة للصواريخ.
ولكن ما يبدو في إطار العلاقات الثنائية بين غرب وشرق وأمريكيين وروس، يظهر في خاتمة المطاف كصفقة مشتركة قد تضمن مزيدًا من الأمن للطرفين، ولكن لا تضمن قطعًا أمنًا دوليًّا «شاملًا»، كما يفترض أن تعنيه هذه الكلمة وما تقرره المواثيق الدولية بصددها، فالثمن الذي يريده الروس يتجاوز حدود مفاوضات جنيف نفسها، بعد أن أصبحت جملة العلاقات الأمنية بين الغرب والشرق، أو بين حلف شمال الأطلسي وموسكو هي المطروحة على بساط البحث، والصفقة الأوسع نطاقًا هي مجموعة الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع موسكو جنبًا إلى جنب مع توسعة حلف شمال الأطلسي شرقًا، وهنا لم تعد القضية المطروحة هي التساؤل عن مهام الحلف المستقبلية وقد أصبحت «مهام عالمية»، تتجاوز مجاله الجغرافي، وتتركز على المنطقة الإسلامية الموصوفة في وثائقه – منذ قمة روما الأطلسية عام ١٩٩١م - بمنطقة الأزمات، وبأنها مصدر خطر «الأصولية» على العالم وأمنه وسلامه، بل القضية الرئيسية المطروحة بين الغرب وموسكو هي توزيع ميادين الهيمنة الأمنية الدولية تحت عنوان «الأمن الدولي» حينًا و «الأمن الأوروبي» حينًا آخر.
السلام البارد
إن العلاقات الأمنية بين الطرفين والتي أطلق عليها الرئيس الروسي يلتسين وصف «السلام البارد» بعد الحرب الباردة قابلة لترتيب جديد في ظل «النظام الدولي الجديد»، وهو ما سبق أن جرى تنفيذه جزئيًّا على أرض الواقع من خلال دعم نشر الهيمنة الروسية من جديد في أواسط آسيا، كما ساهمت واشنطن على وجه التخصيص، ولتثبيت ربط أوروبا فيها أطلسيًّا، في دعم وصول موسكو عبر ثغرة البلقان إلى موقع المشاركة في صناعة القرار الأمنِي على الأرض الأوروبية من جديد، بعد أن فقدت هذا الموقع بسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي، وتسعى موسكو علاوة على ذلك إلى تعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة المناطق الإسلامية الباقية تحت سيطرتها بعد أن كشفت حرب الشيشان ضحالة تلك القدرات، وفي مواجهة المناطق الإسلامية التي خرجت عن سيطرتها من قبل شكليًا على الأقل، كما أظهرت أمثلة طاجيكستان وأذربيجان... ولا ريب في استمرار التطلعات الروسية من وراء ذلك إلى منطقة «المياه الدافئة» على السواحل الإسلامية في المحيط الهندي والبحر العربي، كما كان الحال في العهود القيصرية والشيوعية البائدة.
لقد لوح رئيس الوزراء الروسي تشرنومردين إلى الثمن المطلوب من الغرب أثناء مؤتمر حلف شمال الأطلسي الأخير في بروكسل، وهو يؤكد رفض توسعة الحلف شرقًا، فأشار إلى إمكانية التوصل إلى تفاهم إذا استجابت الدول الغربية للرغبات الروسية بصدد تعديل الاتفاقية المعقودةحول تخفيض انتشار القوات والأسلحة الثقيلة التقليدية، وهي الاتفاقية التي جرت حولها مفاوضات مضنية أثناء الحرب الباردة، ووقعت في نهاية عام ١٩٩٠م في باريس، وأهم بنودها تثبيت حد أعلى لنوعيات رئيسية من الأسلحة الثقيلة، ولعدد القوات البرية، في أربع قطاعات أرضية، كانت تشمل المجال الجغرافي للحلفين الشرقي والغربي، وتريد موسكو تعديل هذه الاتفاقية بما يفسح أمامها المجال لنشر عدد أكبر من القوات بتجهيزات عسكرية ثقيلة أوسع نطاقًا، في شمال القوقاز على وجه التخصيص، وهو ما استجابت إليه الدول الغربية جزئيًّا أثناء حرب الشيشان رغم ما كانت تطلقه من مواقف رسمية تطالب بإنهاء الحرب، ومن المنتظر أن تستجيب استجابة أشمل لهذه الرغبات الروسية أثناء المفاوضات بين الجانبين في عام ۱۹٩٧م، جنبًا إلى جنب مع الحصول على الموافقة الروسية على المطالب الأمنية الغربية، على صعيد توسيع الحلف شرقًا، وعلى صعيد مفاوضات الحد من التسلح في جنيف.
فإن هذا الأمن العالمي الأعرج يستهدف المنطقة الإسلامية في حصيلته، وماتزال الدول الإسلامية تتحرك في المفاوضات الدولية من قبيل مفاوضات جنيف تحركًا انفراديًا، أقصاه اتفاق بعضها على مواقف مشتركة من منطلق إقليمي محدود، وليس من منطلق شامل للأرض الإسلامية المعرضة للخطر، وهذا ما كان يؤدي إلى أن يبدأ ممثلو تلك الدول بإعلان «أشد» المواقف تمسكًا بالمصلحة الأمنية للبلدان الإسلامية والنامية عمومًا، والتي تبين في نصوص كلماتهم نوعية الأخطار التي تعنيها الموافقة على الصيغ المطروحة من جانب القوى الدولية ولاسيما الغربية، ثم لا تنتهي المفاوضات إلا وتوافق تلك الدول الإسلامية نفسها، على تلك الصيغ دون تغيير، وبسائر ما سبق ووصفته من مخاطر تنطوي عليها، كما حدث في تمديد اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وفي صياغة اتفاقية حظر التجارب النووية، وسوى ذلك من الاتفاقات، وكما يتوقع أن يحدث الآن أيضًا في الجولات الحالية والقادمة من مؤتمر جنيف حول «نزع السلاح»، وقد أصبح بمثابة مؤتمر نزع البقية الباقية من أسلحة الدول الأضعف عالميًا، مع انتزاع إرادتها السياسية والأمنية، وترسيخ احتكار كل سلاح متطور في أيدي الأطراف التي سبق أن استخدمته استخدامًا إجراميًّا، ولن تتردد عن ذلك في المستقبل أيضًا كلما أرادت، بزعم الدفاع عن مصالحها - أو مطامعها - العالمية وتعرضها إلى خطر حقيقي أو مكذوب، ولا سيما بعد افتقاد أي سلاح يردعها عن مثل ذلك العدوان.
القوة الرادعة
إن هذا السلوك الدولي، والسلوك المتبع من جانب البلدان الإسلامية على السواء، يتناقض مع أهم ما ثبتته حقبة الحرب الباردة من نتائج على صعيد ترسيخ دعائم السلام العالمي والأمن الدولي، فالامتناع عن صدام عسكري بين الشرق والعام لم يكن قائمًا بسبب وجود السلاح لدى طرف دون طرف، بل نتيجة فعالية صيغة «الردع المتبادل»، التي جعلت كل طرف يتردد عن تعريض نفسه للخطر بالامتناع عن الاعتداء على خصمه.
إن توفير القوة الرادعة، هو الذي يمنع من انهيار السلام العالمي والأمن الدولي، وليس احتكار القوة الفتاكة وتجريد المعرضين لأخطارها من قوة رادعة تحميهم من استخدامها ضدهم، ولئن كان منطق فرض السيطرة يبيح للدول المهيمنة عالميًّا أن تتحرك في هذا الاتجاه بكل ما تملك من وسائل وتمارسه من ضغوط، فلا يوجد ما يبيح للدول النامية ولا سيما الإسلامية أن تتصرف وفق ذلك المنطق، وأن تخضع له مهما كانت الضغوط الحالية، فما يمكن أن تخسره الآن لو امتنعت عن الخضوع للضغوط لا يمثل عشر معشار ما يمكن أن يصيبها في المستقبل من خسائر ويصيب الشعوب الإسلامية في أجيالها المقبلة ومصالحها الحيوية.
ولا سبيل إلى الامتناع عن الخضوع للضغوط الدولية المتنامية، إلا عن طريق صيغة أمنية مشتركة تجمع الدول الإسلامية، والنامية ما أمكن، على أرضية راسخة، تضع المصالح المشتركة فوق اعتبارات الخلافات والنزاعات الإقليمية والمحلية الراهنة، وتتكامل بمفعولها مع صيغة سياسية مشتركة أشمل، نحتاج إليها في بلادنا الإسلامية في مختلف الميادين، حاجة ماسة لا مبالغة في وصفها بالمصيرية في الحاضر والمستقبل.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
مفاهيم يجب أنْ تُصَحَحَ: وحدة الفهم.. المدخل الرئيسي لوحدة الأمة
نشر في العدد 1245
19
الثلاثاء 08-أبريل-1997