; وعد بلفور.. ومصالح الغرب.. الحلقة الأولى | مجلة المجتمع

العنوان وعد بلفور.. ومصالح الغرب.. الحلقة الأولى

الكاتب عبد الوهاب المسيري

تاريخ النشر الثلاثاء 26-أكتوبر-1999

مشاهدات 18

نشر في العدد 1373

نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 26-أكتوبر-1999

  • سعى بلفور لنقل اليهود خارج أوروبا وتوظيفهم في خدمة الحضارة الغربية.

  • اليهود باعتبارهم شعبًا منبوذًا لا يمكنهم حل مشكلتهم بالاندماج في المجتمعات الغربية.

  • الحل يكون بالتحول إلى مادة استيطانية بيضاء نافعة توطن خارح أوروبا.

 

يدعي الغرب أنه تبنى المشروع الصهيوني، وأن له موطئ قدم في بلادنا العربية حبًا في اليهود، وتعويضًا لهم عما لحق بهم من أذى في العالم الغربي!

وهو منطق أقل ما يوصف به أنه معوج، إذ كيف نعوض أقلية عما لحق بها من أذى في مكان ما بأن نعطيها مكانًا آخر؟ ألم يكن من الأولى اقتطاع مكان من ألمانيا أو حتى الولايات المتحدة، التي تكن لهم حبًا خاصًا، حسب الادعاء الإعلامي - ليؤسسوا فيه وطنهم القوي؟

منطق معوج: ولكن هذا المنطق المعوج هو منطق إعلامي محض، أي للاستهلاك المحلي والعالمي، فالغرب لم يؤيد المشروع الصهيوني حبًا في اليهود، وإنما حبًا في نفسه، وخدمة لمصالحة الاستعمارية، بل يلاحظ أن كثيرًا من الشخصيات التي عملت من أجل إصدار وعد بلفور هي شخصيات لا تكن حبًا لليهود ممن يطلق عليهم اصطلاح معاد للسامية «بالإنجليزية: أنتي سيمتيك Anti - Semitic».

وعلى كل فثمة علاقة وثيقة بين الاستعمار والعنصرية، فالإنسان الغربي قد طور الأساطير الخاصة بتفوقه العرقي حتى يبرر عملية الاستيلاء على أراضي الغير، وموقفه من الصهيونية لا يختلف كثيرًا، وإن كانت عنصريته ضد العرب أكثر وضوحًا وحدة من عنصريته ضد اليهود.

وتظهر هذه الميول الاستعمارية العنصرية في سيرة أهم شخصيتين وراء وعد بلفور وهما: جيمس بلفور «1848 - 1930 م»، ومارك سايكس «1879 - 1919 م».

الجذور الفكرية والسياسية لوعد بلفور

أما جيمس بلفور فهو الوزير البريطاني الذي ينسب له وعد بلفور, تلقى بلفور تعليمًا دينيًا من أمه في طفولته، وتشبع بتعاليم العهد القديم، خصوصًا في تفسيراتها الحرفية البروتستانتية، ورؤية بلفور لليهود متأثرة بالرؤية الألفية الاسترجاعية التي تراهم باعتبارهم شعبًا مختارًا ومجرد وسيلة للتعجيل بالخلاص، وهي الرؤية التي تمت علمنتها فتحول اليهود إلى الشعب العضوي «المختار» المنبوذ، ويتجلى هذا المزيج من الكره والإعجاب من جانب بلفور في تلك المقدمة التي كتبها لمؤلف سولوكوف «تاريخ الصهيونية» حيث يبدي معارضته لفكرة المستوطن البوذي أو المستوطن المسيحي.

فالمسيحية والبوذية في رأيه مجرد أديان، ولكنه يقبل فكرة المستوطن اليهودي، لأن «العرق والدين والوطن» أمور مترابطة بالنسبة إلى اليهود، كما أن ولاءهم لدينهم وعرقهم أعمق بكثير من ولائهم للدولة التي يعيشون فيها، إن هذا الشعب العضوي يتميز أعضاؤه بالنشاط والحركية، ولذا فقد حققوا نجاحًا باهرًا في المجتمع.

ولكن هذا الشعب العضوي المختار هو أيضًا «جماعة أجنبية معادية» تؤمن بدين هو محل كره متوارث من المحيطين بها، أدى وجودها في الحضارة الغربية إلى «بؤس وشقاء استمرا دهرًا من الزمان»، ولأن تلك الحضارة لا تستطيع طرد أو استيعاب هذه الجماعة، فهم يتسببون في كوارث تحيق بإنجلترا «كما فعل يهود اليديشية المهاجرون إليها»، وقد أعلن بلفور أن ولاء اليهود للدولة التي يعيشون فيها «ضعيف إذا ما قورن بولائهم لدينهم وعرقهم، وذلك نتيجة طريقتهم في الحياة ونتيجة عزلتهم، فهم لا يتزاوجون إلا من بني جنسهم»، وهذا اتهام لليهود بأنهم جماعة لا تندمج كما أنها تعاني من ازدواج الولاء، بل انعدامه أحيانًا، وهو اتهام يوجهه دائمًا الصهاينة ومعادو اليهود لما يسمونه «الشخصية اليهودية».

وقد اعترف بلفور نفسه لحاييم وايزمان بأنه وجد نفسه متفقًا مع افتراضات كوزيما فاجنر «ابنة الموسيقار المعروف» عن اليهود ومتقبلًا لها، وهي افتراضات معادية لليهود بشكل متطرف، لكل هذا خلص بلفور إلى أنه ليس من مصلحة أي بلد أن يكون فيه يهود مهما بلغت وطنيتهم وإنغماسهم في الحياة القومية، وانطلاقًا من ذلك، فقد تبنى قانون الغرباء الذي صدر بين عامي 1903 و 1905 م والذي كان يهدف إلى وضع حد لدخول يهود اليديشية إلى إنجلترا، وقد أدى موقفه هذا إلى الهجوم عليه من قبل المؤتمر الصهيوني السابع (1905 م)، حيث وصفت تصريحاته بأنها «معاداة صريحة للشعب اليهودي بأسره»، كما هاجمته الصحافة البريطانية.

وقد يبدو الأمر لأول وهلة وكأنه نوع من التناقض الواضح الذي يقترب من الشيزوفرانيا، ولكن أفكار بلفور الاسترجاعية «علمانية كانت أو دينية» تعبر عن رغبة في التخلص من اليهود وفي حوسلتهم لخدمة الحضارة الغربية، والواقع أن مفهوم الحوسلة هو الذي يفسر تأرجحه بين الحب والكره، فالحب هو حب لشعب عضوي مختار متماسك، ومن ثم فإنه لا ينتمي إلى مسار التاريخ الإنساني العادي ولا يمكن استيعابه في الحضارة الغربية، والكره هو أيضًا لشعب عضوي مختار متماسك يرفض الاندماج أو الانتماء لمسار التاريخ الإنساني العادي أو الحضارة الغربية.

والنتيجة واحدة، حبًا أو كرهًا، وهي نقل اليهود خارج أوروبا وتوظيفهم في خدمة الحضارة الغربية، فالشعب العضوي المنبوذ لا يمكن أن يحل مشكلته داخل التشكيل الحضاري الغربي عن طريق الاندماج في المجتمعات الغربية، وإنما يمكنه حلها من داخل التشكيل الاستعماري الغربي عن طريق التحول إلى مادة استيطانية نافعة بيضاء توطن خارج أوروبا «في أي بقعة في آسيا أو أفريقيا»، وبالفعل، تعمق اهتمام بلفور بالمسألة اليهودية حين حضر هرتزل وتفاوض مع وزير المستعمرات جوزيف تشامبرلين ووزير الخارجية لانسدون، حيث أجرى معهما مفاوضات بشأن توطين اليهود في شبه جزيرة سيناء لتحويل الفائض البشري اليهودي عن إنجلترا وتوطينه في خدمة الإمبراطورية، وفي هذا الإطار اقترح تشامبرلين - الوزير في وزارة بلفور - توطين اليهود في إحدى المستعمرات الإنجليزية، وترجم هذا الاقتراح إلى مشروع شرق أفريقيا.

وفي عام 1905 م، قام بلفور بمقابلة حاييم وايزمان في مانشستر،  وأعجب به كثيرًا، ولكنه نسي فكرته الصهيونية إلى حد كبير في فترة الحرب، ثم قابله مرة أخرى عام 1915 م وناقش معه الأهداف الصهيونية «بعد أن كانت الوزارة البريطانية قد ناقشتها عام 1914 م»، وعندما عين وزيرًا للخارجية في وزارة لويد جورج عام 1916 م، عاد المخطط الإمبريالي البريطاني بسبب تصاعد الجو الثوري الذي ساد أوروبا والشرق العربي «وقد كان بلفور يرى أن الصهاينة حماة مجتمع ذي تقاليد دينية وعرقية تجعل اليهودي غير المندمج قوة محافظة هائلة في السياسة العالمية».

زار بلفور الولايات المتحدة عام 1917 م في إطار محاولات إنجلترا حث الولايات المتحدة على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء، وقابل الزعيم الصهيوني الأمريكي لويس برانديز، وفي نوفمبر من العام نفسه، أصدر بلفور تصريحه أو وعده المشهور نيابة عن الحكومة الإنجليزية، وقد شهد العام نفسه رفضه التدخل لدى الحكومة الروسية لإزالة القيود المتعلقة بإعطاء اليهود حقوقهم المدنية.

بلفور ومستقبل فلسطين

وقد بين بلفور تصوره لمستقبل فلسطين في إحدى المذكرات، حيث قال: إن الصهيونية، سواء أكانت على حق أو كانت على باطل، خيرة كانت أو شريرة، فإنها ذات جذور متأصلة في «تعاليم قديمة وحاجات حالية وآمال مستقبلية غربية»، ولذا فإن أهميتها «تفوق رغبات وميول السبعمائة ألف عربي» قاطني هذه الأرض، وقد أكد بلفور في مذكرة أخرى أن الحلفاء لم يكن في نيتهم قط استشارة سكان فلسطين العرب، وانطلاقًا من إدراك الأهمية الجغرافية - السياسية لفلسطين، طلب بلفور أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين «الذين رفض من قبل دخولهم إنجلترا»، وأن توسع حدودها لتشمل الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن.

مارك سايكس

والشخصية الثانية هو مارك سايكس، وهو الآخر خليط من هذا الحرص على المصالح الاستعمارية وكره اليهود، فمارك سايكس دبلوماسي ورحالة بريطاني، ولد في لندن، وتلقى تعليمه في موناكو وبروكسل وكمبردج، عمل في الجيش البريطاني بعض الوقت في جنوب أفريقيا عام 1902 م، وسافر إلى سورية، والعراق وعين ملحقًا فخريًا للسفارة البريطانية في أسطنبول، وعين بسبب خبرته الواسعة في شؤون الشرق مساعدًا لوزارة الحرب البريطانية، وكانت وظيفته تزويد مجلس الوزراء بالمعلومات والمشورة حول شؤون الشرق الأوسط، ولم يكن سايكس من صانعي القرار إلا أنه كان مؤثرًا جدًا فيهم، بسبب شهرته كخبير في شؤون الشرق الأوسط وحظوته لدى أصحاب السلطة، بل يرى كاتب سيرة حياته أنه كان القوة المحركة للسياسة البريطانية الخاصة بفلسطين، التي أدت إلى إصدار وعد بلفور ثم الانتداب البريطاني على فلسطين، ومما تجدر ملاحظته أن سايكس كان كاثوليكيًا على عكس الغالبية الساحقة من الصهاينة غير المسيحيين الذين يأتون من أوساط بروتستانتي.

اشترك سايكس - بحكم منصبه - في المباحثات التي جرت في لندن وكان يمثل فيها الجانب البريطاني، أما فرانسوا جورج بيكو، القنصل الفرنسي السابق في بيروت، ومستشار السفارة الفرنسية في لندن، فكان يمثل الجانب الفرنسي فيما يتصل بما كان يسمى «المسألة السورية»، أي مستقبل المنطقة العربية «وخصوصًا الشام»، وتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية في آسيا، وقد انتهت هذه المباحثات بشكل مبدئي عام 1916 م، بتوقيع اتفاقية سايكس - بيكو الشهيرة لتقسيم مناطق النفوذ بين إنجلترا وفرنسا، وقد وضعت فلسطين بمقتضى الاتفاق تحت إشراف إدارة دولية.

وبعد هذا التوقيع المبدئي، اطلع السير مارك سایكس على المذكرة التي وزعها هربرت صمويل علي أعضاء الوزارة البريطانية يقترح فيها أن تتبنى إنجلترا المشروع الصهيوني.

وقد اكتشف سايكس على التو أنه لو تبنت إنجلترا المشروع الصهيوني، فإن هذا سيوفر لها موطئ قدم راسخًا في الشرق الأوسط، واكتشف سايكس أن بوسعه استخدام الصهاينة في التخلص من الجزء الخاص بوضع فلسطين تحت إدارة دولية «أي فرنسية - إنجليزية»، ومما له دلالته أن القيادة الصهيونية لم تكن تعرف شيئًا عن الاتفاق السري هذا «أي أن القرار دائمًا قرار استعماري يتم توظيفه لاحقًا للصهيونية»، ولم يعرف وايزمان عن الاتفاق إلا في 16 أبريل 1917 م من تشارلز سکوت - رئيس تحرير «المانشستر جارديان»، وقد تقرر أن يعبر الصهاينة عن رغبتهم في أن تكون فلسطين تحت حكم إنجلترا وحسب، وألا تقسم، وبالفعل قام الصهاينة بما طلب منهم، وأكد له أن الدولة الصهيونية لن تضر بمصالح فرنسا، ولكن العنصر الحاسم في تغيير وجهة النظر الفرنسية لم يكن الضغوط الصهيونية وإنما وصول القوات البريطانية تحت قيادة اللنبي إلى فلسطين، واستيلاؤهم عليها دون عون القوات الفرنسية، كما أن اندلاع الثورة البلشفية، وانسحاب روسيا من الحرب غير الصورة تمامًا، وقد انتهى الأمر بأن تنازلت فرنسا عن فلسطين لإنجلترا، وقد شارك سايكس بشكل أساسي في الصياغة النهائية لوعد بلفور.

وكان سايكس - كما هي العادة مع الصهاينة غير اليهود - معاديًا لليهود بشكل صريح ويصدر عن مفهوم الشعب العضوي المنبوذ.

فاليهودي بالنسبة له هو الممول العالمي، وينقسم اليهود - حسب تصوره - إلى قسمين: اليهود المتأنجلزون «أي المندمجون» الذين يتخلون عن هويتهم «العضوية»، ومن ثم يمكثون في بلادهم ولا يهاجرون منها، وكان سايكس يكن لهم احتقارًا عميقًا، وهناك العبراني الحقيقي «هذا الذي يترك إنجلترا ليستوطن في بلده العضوي»، وهؤلاء كان يحبهم سايكس، شأنه في هذا شأن النازيين ، وشأن كل من يرغب في أن «يعود» اليهود إلى «وطنهم القومي» في فلسطين، فتفرغ أوروبا من يهودها، ومن هنا فلا غرو أن يؤيد سايكس المشروع الصهيوني.

الرابط المختصر :