; الحل السلمي والحل الحربي لقضية فلسطين | مجلة المجتمع

العنوان الحل السلمي والحل الحربي لقضية فلسطين

الكاتب الشيخ محمد الغزالى

تاريخ النشر الثلاثاء 11-أغسطس-1970

مشاهدات 66

نشر في العدد 22

نشر في الصفحة 16

الثلاثاء 11-أغسطس-1970

الحل السلمي والحل الحربي لقضية فلسطين

طبيعة المرحلة القائمة في العالم الإسلامي

استفتاء

"المجتمع" تسأل والكتّاب يجيبون

 

وجّهت صحيفة المجتمع سبعة أسئلة إلى كبار الكتّاب والعلماء، تدور حول مشاكلنا المعاصرة. وقد تفضّل الشيخ محمَّد الغزالي بالردِّ على الأسئلة. ويسرّ جريدة المجتمع أن تقدّم الأسئلة والأجوبة في مسلسل وتبدأ بالإجابة على الأسئلة الثلاثة الأولى.

السؤال الأول: «المرحلة القائمة في العالم الإسلاميِّ هل تُبشِّر بالخير وتثير التفاؤل، أم أنَّها على النقيض نذير سوء ولا خير من ورائها»؟

السؤال الثاني: هل تعتقد أن قضيَّة فلسطين يمكن أن تُحلَّ سلميًا كما ينادي البعض؟ وإذا كنت تعتقد هذا، فما صورته في ذهنك؟ وإذا كان لا يتمّ أن الحرب هي الأمثل، فما صورتها؟ هل هي حرب شعوب أم حرب حكومات؟ وهل تكون عربيَّة أم إسلاميَّة؟

السؤال الثالث: الشيوعيَّة والرأسماليَّة تتصارعان على اقتسام الأرض، فما هو موقفنا -كمسلمين- من هذا الصراع؟ وما هو رأيك في مستقبل النظامين؟

السؤال الرابع: تثور نزعات نحو وحدة أو اتِّحاد في منطقتنا تحت شعارات القوميَّة العربيَّة أو القوى التقدُّمية، أو تطالب بتجمُّع إقليميٍّ كالغرب الكبير مثلاً. فما رأيكم في هذا اللَّون من التفكير؟ وهل عندكم بديل أو صيغة أخرى تقدِّمونها للمجتمع المسلم؟

 

السؤال الأوَّل: «المرحلة القائمة في العالم الإسلاميِّ هل تبشِّر بالخير وتثير التفاؤل؟ أم أنَّها على النقيض نذير سوء ولا خير من ورائها»؟

العالم الإسلامي اليوم في فترة كئيبة من تاريخه الطويل، فترة فقد فيها وحدته، ونسي رسالته، وألمَّت به إغفاءة كبرى جعلته يتدحرج في مؤخِّرة الركب الإنسانيِّ ضعيف الوعي والحركة، يطمع في العدو ويأسى به الصديق. وهذه حال منكورة يستحيل قبولها أو ارتقاب خير من ورائها.

ولقد قلت في كتاب لي -لما يظهر بعد- ما أظنُّه إجابة شافية على هذا السؤال:

الفقر الحقيقيُّ في الأُمَّة الإسلاميَّة الكبيرة هو هذا الشلل الغريب في الهمم والمواهب وهذا التخلُّف السحيق في مجال الإنتاج والإجادة، إلى جانب تعلّق وضيع بالشهوات، ونَهَمَة بادية إلى الدنيا.

وما تصف خصومهم بأنَّهم يكرهون الحياة وملذَّاتها، بيد أنَّ الأمم القويَّة تبلغ ما تهوى بوسائلها الخاصَّة، أمَّا الأمم الضعيفة فهي تلهث وراء غيرها، تتعلَّق بركابهم تعلُّق المتسلِّقين بمركبات النقل، أو المتسوِّلين بأذيال السادة.

والنهوض الحقيقيُّ هو زوال هذه العلل وفناء جراثيمها، وقدرة الأُمَّة على الاستغناء بعملها وإنتاجها. والاستهداء بإيمانها وفضائلها، والاستعلاء على متاع الدنيا بحيث تأخذ منه بقدر، وتنصرف عنه متى تشاء.

ويؤسفني التصريح بأنَّ الشعوب الإسلاميَّة حتَّى يومنا هذا لم تبدأ نهضة صحيحة، وأنَّ مظاهر التقدُّم الَّتي نراها، أو نسمع عنها هي امتداد نشاط القوى الكبرى في العالم أكثر ممَّا هي تطلع المتأخرين للتقدم.

فالغرب الصليبيُّ يصطنع شعوبًا شتَّى لخدمة مآربه ويمدُّها بكثيرٍ من عونه المادِّيّ وقليل من تقدُّمه الحضاريّ والشرق الشيوعيّ ينافسه في ذلك الميدان، ويحاول الاستفادة من أخطائه، أو يحاول ميراثه إذا انتهى في مكان ما.

وجمهرة المتعلِّمين أوزاع، بعضهم يؤثر النمط الغربيَّ في الفكر والسلوك، وآخرون قد أعجبتهم الماركسيَّة، فاصطبغوا ظاهرًا وباطنًا بنزعتها.

أمَّا الذين يتشبَّثون بالعقائد والفضائل الإسلاميَّة ويريدون بناء المجتمع الكبير على دعائم الوحي المحمَّدي فقلَّة غامضة في الناس، ولا أقول منكورة الوجهة منكودة الحظِّ. من أجل ذلك قلت: إنَّ الشعوب الإسلاميَّة لم تبدأ بعد نهضة صحيحة، تكون امتداداً لتاريخها، وإبرازًا لشخصيَّتها، أو نماء لأصلها، وتثبيتًا لملامحها. ومن الغلط تصوّر أنَّني أحرّم الاستفادة من تجارب الآخرين ومعارفهم.

 كيف وهؤلاء الآخرون ما تقدَّموا إلَّا بما نقلوه عن أخلاقنا من فكر وخلق ووعي وتجربة. إنَّ دولة الخلافة الراشدة اقتبست في بناء النظام الإسلاميِّ من مواريث الروم والفرس دون غضاضة.

وعندما آكل أطعمة أجنبيَّة أنا بحاجة إليها فالجسم الذي نما هو جسمي، والقوى الَّتي انسابت في أوصاله هي قواي. المهمُّ عندي أن أبقى أنا بمشخِّصاتي ومقوِّماتي، المهمّ أن أبقى وتبقى في كياني جميع المبادئ الَّتي أمثّلها والَّتي ترتبط بي وأرتبط بها، لأنَّها رسالتي في الحياة ووظيفتي في الأرض.

هذا هو مقياس النهضة وآية صدقها أو زيفها، فهل في العالم الإسلاميِّ نهضات جادَّة تجعل الإسلام الحنيف وجهتها والرسول الكريم أسوتها؟

 إنَّنا هنا شديدو الحرص على جعل البناء الجديد ينهض على هاتيك الدعائم.

وإذا كنَّا نستورد من الخارج ثمرات التقدُّم الصناعيِّ، وننتفع من خيرات غيرنا في آفاق الحياة العامَّة فليكن ذلك في إطار صلب من شرائعنا وشعائرنا.

فإنَّه لا قيمة لأحدث الآلات إذا تولَّى إدارتها قلب خرب، ولا قيمة لأفتك الأسلحة إذا حاول الضرب بها فؤاد مستوحش مقطوع عن الله مولَع بالشهوات.

إنَّ بناء النفوس والضمائر يسبق بناء المصانع والجيوش، وهذا البناء لا يتمُّ إلا وفق تعاليم الإسلام «1».

«1» من كتاب «حصاد الغرور» الذي تضمّن ما ألقاه الكاتب من محاضرات في جمعيَّة الإصلاح الاجتماعي، مع بحوث أخرى.

السؤال الثاني: هل تعتقد أن قضيَّة فلسطين يمكن أن تُحلَّ سلميًا كما ينادي بعضهم؟

وإذا كنت تعتقد هذا فما صورته في ذهنك؟ وإذا كان لا يتم أنَّ الحرب هي الأمثل فما صورتها؟ هل هي حرب شعوب أم حرب حكومات؟ وهل تكون عربيَّة أم إسلاميَّة؟

 لقد قرَّر اليهود أن يقيموا وطناً قوميًّا لهم في فلسطين، وتحوَّلت أمانيهم الدينيَّة إلى مخطَّطات مدروسة تنفّذ بدقة وصرامة، فهم باسم التوراة والتلمود جاءوا، وتحت شعارات من الوحي الذي يقدِّسونه تحرَّكت مواكبهم من أرجاء الشرق والغرب صوب فلسطين.

وفلسطين عندما قرَّر اليهود الاستيلاء عليها لم تكن أرضًا خلاء، بل كانت مسكونةً بألوف مؤلَّفة من العرب، ومعنى تهويد هذه الأرض طرد من عليها من سكان، أو إبادتهم وفق تعاليم العهد القديم.

وقد أعان الاستعمار إعانة فعَّالة على تحقيق هذه الغايات وتقريب بعيدها وتذليل صعابها وانتهى الأمر في سنة 1390 من الهجرة إلى قيام دولة لليهود، وتحاول البقاء في وجه مقاومة متفرّقة من العرب الذين صحوا على أشباح الضياع والذلِّ والخيانة تحيط بهم من كلِّ مكان. هل يحتاج فهم هذا الموقف إلى ذكاء سطحيِّ أو عميق؟ إنَّ الحرب قد أُعلنت بالفعل على العرب، وهدفها المحدَّد إجلاؤهم أو إفناؤهم، وإقامة وجود دينيٍّ يهوديٍّ على أنقاض جنسهم ورسالتهم وكتابهم، فأين مكان السلام في هذا الوضع؟ إنَّ السلام هنا معناه الاستسلام للذبح، معناه قيام إسرائيل لا داخل حدودها الحاليَّة وحسب، بل في الإطار الذي رسمته التوراة، من الفرات إلى النيل.

ومعنى هذا -دون کدّ الذهن أو إعمال الذكاء- سحق الوجود العربيِّ الإسلاميِّ في الشرق الأوسط، ثمَّ الإجهاز على أطراف الأمَّة الإسلاميَّة الكبرى في إفريقيا وآسيا بعد زوال الكيان العربيِّ الأصيل، إذ العرب دماغ الإسلام وقلبه.

وتلك هي الغاية الَّتي تسعى لها قوى كثيرة وتتجمَّع لتحقيقها عناصر شريرة.

وإنَّني ألمس وراء التحرُّكات هذه النيَّات السوء، وتلك الأهداف الرهيبة، وإن أعجب فعجبي للذين يُقادون إلى مصارعهم وهم مخدَّرون، وتلطمهم الأحداث وهم غافلون ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (التوبة: 126).

إنَّ الحرب فرضت فرضًا على العرب، فلا خيار لهم بإزائها، ولا مكان للتساؤل عن فرص تجنّيها بعد ما دارت رحاها على يومنا وغدنا.

ولا معنى لتجنُّب الحرب إلَّا الاستسلام للفناء، والرضا بالتلاشي والانقضاء، وما دام القتال قد كتب علينا بدوافع دينيَّة وأحقاد تاريخيَّة وأطماع استعماريَّة، وما دامت غايته إبادتنا فلا بدَّ أن نتلاقى عربًا ومسلمين، حكومات وشعوبًا لردّ هذه الغائلة، واستبقاء وجودنا المهدَّد.

إنَّ الحرب المعلنة علينا دينيَّة لا يماري في ذلك عاقل، وما دامت العقيدة سلاحًا يرتكز إليه العدوان، فلم لا تكون العقيدة سلاحًا يرتكز عليه الدفاع؟ وما معنى إبعاد الإسلام عن معركة هو فيها مستهدف؟ وأمَّته فيه ضحيَّة اليوم والغد.

إنَّني أعتقد من أعماق قلبي أنَّ إبعاد الإسلام عن المعركة لا يخدم إلَّا بني إسرائيل ومن ورائهم من الحاقدين على رسالة محمَّد وجنسه القدامى والمحدثين.

وإبعاد الإسلام عن القتال الدائر أنفع لبني إسرائيل من إمدادهم بألف طائرة من أفتك طراز.

إنَّه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، ولا يَصدُّ عدوانًا يعتمد على دين إلَّا دفاعٌ يُستندُ إلى دين.

السؤال الثالث: الشيوعيَّة والرأسماليَّة تتصارعان على اقتسام الأرض فما هو موقفنا -كمسلمين- من هذا الصراع؟ وما هو رأيك في مستقبل النظامين؟

في العالم جبهتان متقدِّمتان مادِّيًّا وعقليًا تتنازعان زمامه، وتبغى كلتاهما أن تنفرد بقيادته وتوجيهه.

والمفروض في نظر الكثيرين أن تنتصر إحداهما وتبسط سلطانها على العالم أجمع.

ولست في جانب هذا الفرض، بل إنَّ ما أرجِحه أنَّه ستوجد جبهة ثالثة تقدِّم للعالم نموذجًا أفضل لمجتمع بشريٍّ عادل حرٍّ مؤمن بالله ورسله لا يطمع في السيطرة على الآخرين، ولكنَّه يستطيع أن يضيء لهم الطريق. 

ولي ملاحظة على العنوان الذي يطلق على العالم الرأسماليِّ، أنَّ رأس المال عندما يتكوَّن من حلال طيِّب، لا من مال منهوب، ولا من حيف على الطبقات الكادحة، وعندما يقوم بسدِّ الثغرات الاجتماعيَّة لا بتوسيعها، واحترام الحقوق الأدبيَّة لا إهدارها، إنَّه في هذه الحال يصلح أساسًا لجماعة إنسانيَّة كريمة.

ولكن العالم الرأسماليّ الآن يقوم بعمليَّات خطف كُبرى لثروات الشعوب، ويعمل على توسيع الفتوق في الكيان العالميِّ، ويجتهد في إهدار الكرامة البشريَّة للملوَّنين، كما يجتهد في إهدار حقوق الأمم الضعيفة وإبقائها في منزلة التابع المهين.

وعندي أنَّ العالم الشيوعيَّ إنَّما يمتدُّ مستغِلًا أخطاء الرأسماليَّة في الميادين الاجتماعيَّة والسياسيَّة وهي أخطاء جسيمة.

وهناك كتل من الشعوب التي ضارها الحرمان والذلُّ، ترمقُ المعسكر الشيوعيّ بعين الخيال، تحسَبُ أنَّ نجاتها عنده وعذرها أنَّها تريد الخلاص ممَّا تعاني إلى ما تأمُل، ثمَّ إنَّ الدين قد تخلَّى عن وظيفته السماويَّة في ظلِّ هذه الرأسماليَّة.

وقد رأينا -نحن العرب- كيف تجمّع اليهود على ديانتهم لاستئصالنا، وكيف أعانتهم الدول المسيحيَّة الكُبرى علينا إشباعًا لحقدها وجشعها.

فإذا احتقر المادِّيُّون دور الدين في صياغة مستقبل الإنسان فهم معذورون، لأنَّ طبول الحاخامات والبابوات كانت تدقُّ بحماس في مواكب المعتدين.

إنَّ العالم الرأسماليَّ ينتحر بما يتناوله من تفرقة عنصريَّة، ومظالم مادِّيَّة وأدبيَّة، وبما يكنّه في ضميره الآثم من ضغائن على الإسلام والمسلمين.

فهل معنى هذا الكلام أنَّ البشريَّة ستؤثِر الكفر بالله، والبُعد عن هداه؟ لا أعتقد. إنَّها ستبقى في حيرة تطول أو تكثر حتَّى يوجد جيل من الناس يقدّم لها الهدى مقرونًا بالعدل، والحريَّة مقرونة بالفضيلة، والإيمان بالروح مقرونًا بتقدير الجسد، والإيمان بالآخرة مقرونًا بتقدير الدنيا.

ما اسم النظام الذي يقوم بهذا الدور الفريد المجيد؟ اسمه الإسلام.

وليست للإسلام الآن أمَّة تقدِّمه بمفهومه الحقيقيِّ القديم، توجد بقايا كيان تهدّم تفوح منه رائحة البلى تنتشر بقاياه على أديم القارتين القديمتين، وتسكن في أكواخه ثمانمائة مليون مسلم.

أنا شخصيًّا أحد الضائقين بأحوال هذه الأمَّة النائمة.

كما أنَّني أحد الذين يناشدون أُمَّتهم تلك أن تعود إلى ربِّها ونبِّيها وكتابها، والله يعلم متى تجيب؟

إنَّني أطلب من المسلمين -قبل أن يحدِّدوا موقفهم من هذا أو ذاك- أن يحدِّدوا موقفهم من الإسلام المستوحش الغريب ثمَّ على ضوء هذا الموقف نعامل العدوَّ والصديق.

وحقيقة أخرى أقررها هنا، أنَّ الإسلام لم يأخذ بعد امتداده الذي كتب الله له.

لقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أنَّ هذا الدين سيبلغُ ما بلغ اللَّيل والنهار، وهذا تعبير غريب، وهو صريح في أنَّ الإسلام سيصنع العالم أجمع.

كما جاء في الصحاح أنَّه باسم الإسلام ستمتلئ الأرض عدلًا بعد ما مُلئت جورًا، وأنَّ صحراء الجزيرة ستتحوَّل إلى أرضيَّة تهتز زرعًا، وفي حديث آخر «أُمَّتي كالغيث لا يدري أوَّله خير أم آخره».

ومن هنا فنحن نعتقد أنَّ المستقبل لدين الله الحقِّ لا للنظم الأرضيَّة الأخرى، وإذا كان مسلمو اليوم أكثر ضياعًا فلأنَّهم ينتمون إلى الإسلام انتماء مزوَّرًا، وهم عبء عليه لا عون له، وإذا انتهى دور الإسلام في الأرض، فذلك إيذان بانتهاء الإنسانيَّة على سطح هذا الكوكب، وبدء حساب الأوّلين والآخرين على ما اقترفوا من خير وشرٍّ.

السؤال الرابع: تثور نزعاتٌ نحو وحدة أو اتِّحاد في منطقتنا تحت شعارات القوميَّة العربيَّة أو القوى التقدُّميَّة، أو تطالب بتجمُّع إقليميٍّ كالغرب الكبير مثلًا. فما رأيكم في هذا اللَّون من التفكير؟ وهل عندكم بديل أو صيغة أخرى تقدّمونها للمجتمع المسلم؟

التجمُّعات الإقليميَّة في إطار التكامل الاقتصاديِّ والعمرانيِّ أمر لا حرج فيه، بل قد يكون من المصلحة العامَّة دراسة أقطار العالم الإسلاميِّ الرحب لإنشاء تجمُّعات كثيرة منتظمة شرقًا وغربًا وتكفل تقدَّمه الماديِّ والاجتماعيِّ.

والمغرب الكبير، أو وادي النيل، أو الجزيرة العربيَّة، أو جزائر إندونيسيا، أو غير ذلك من الوحدات الاقتصاديَّة المتناسقة يمكن أن تولد وتنمو داخل الكيان الإسلاميّ الموحّد الذي يجب أن يعود إلى الحياة الدوليَّة مرَّة أخرى. إنَّ الصعوبات الَّتي تتوهَّم أمام أي تجمُّع إسلاميِّ أقلّ من الصعوبات الَّتي انتصبت بالفعل أمام أيِّ تجمُّع عربيِّ.

ولكن أمام المناضلين المسلمين مراحل طويلة حتَّى يستطيعوا أن يقيموا جامعة إسلاميَّة ضخمة تلمّ شمل المسلمين وتداوي جراحاتهم وتحرّر مستعبديهم، وتردّ العدوان عنهم. ولا أدري لماذا يكون الوجود الصينيُّ واقعًا عاديًّا، فيصبح 800 مليون إنسان دولة موحدة، ويكون الوجود الإسلاميُّ خيالًا مستبعدًا؟ ولو كان اتِّحاد ولايات أو تحالف دول متآخية مثلًا.

 إنَّ شئون المسلمين للأسف لا تعالج بالعقل العاديِّ، فالتأثُّر بالاستعمار والتبعيَّة الذليلة للغزوِ الثقافيِّ هما أساس التجهُّم الغريب لكلِّ كلام عن الإسلام وأُمَّته الكبرى ووَحدتِه المنشودة.

إنَّ الغارة الاستعماريَّة الَّتي شنّتها أوروبا على الإسلام وأتباعه منذ قرنين تقريبًا استهدفت أمرين رهيبين.

الأوَّل: رفض أي تلاقٍ على الإسلام بين الشعوب المنتسبة له، وتمزيق الولاء

 الموروث نحو الجامعة الإسلاميَّة وإحياء نزعات قوميَّة حقيقيَّة أو مفتعلة، تجعل أبناء الأسرة الواحدة متناكرين، لا يلوي أحدهم على الآخر، ولا يحترم آصرة الدين المشترك.

وبذلك أصبح المسلمون أوزاعًا بين 60 أو 70 جنسيَّة في المجال الدوليِّ.

الثاني: تمويت الإيمان في ضمائر الأفراد بحيث ينفصل السلوك عن العقيدة، فينحرف هذا وتنكمش تلك، ويصبح المجتمع مسرحًا للمباذل المستقرَّة والأهواء المطاعة، والتيَّارات الطائشة، ثمَّ يتحوَّل ما بقي من دين إلى أشكال فارغة، وبدع حقيرة لا تغني عن أصحابها شيئًا.

وبكلا الأمرين نجح الاستعمار الحاقد في بلوغ أهدافه منَّا، وكان وصوله إلى إقامة إسرائيل سهلًا بعد التمهيد المزدوج الذي شرحناه آنفًا، إبعاد الولاء للإسلام في المجال العامِّ، توهين الرباط بالعقيدة في مجال العبادة والخلق وأنواع المعاملات الأخرى.

ونستطيع أن نقول دون مواربة أو مداهنة إنَّ كلَّ نزعة ترمي إلى إضعاف الإسلام -من حيث هو جامعة أو من حيث هو ضمیر فرديّ- ليست إلَّا امتدادًا للزحف الاستعماريّ والتفافًا خسيسًا حول بقايا الإيمان في قلوبنا.

ولن تجد إسرائيل خيرًا من هذه النزعات يعينها على البقاء ويضاعف انتصاراتها علينا ولا أدري كيف فشت هذه الخيانات الدينيَّة في أرجاء الأمَّة العربيَّة.

إنَّ هناك معادلة يجب أن يحفظها كلُّ عربيٍّ عن ظهر قلب هي أنَّ «عرب - إسلام = صفر» نعم العرب بدون دينهم لا يساوون شيئًا.

وقد كنَّا -نحن مسلمي إفريقيا- لا نفرّق بين العروبة والإسلام، كما أنَّ مؤرِّخي أوروبا لا يعرفون هذه التفرقة حين قال «غوستاف لوبون» إنَّ العالم لم يعرف فاتحًا أرحم من العرب.

حتَّى ظهرت البدعة المهينة الَّتي اختلقها ميشيل عفلق، واقترح فيها البُعد عن الإسلام طريقًا للبعث العربيِّ.

والواقع أنَّ الرجل بصيحته تلك كان يحفر القبر العربيَّ، ليدفن فيه أُمَّة ورسالة.

وليس غريبًا من مثله أن يصنع ما صنع، إنَّما الغريب أن يفتتن بنعرته بعض الناس فيسارعوا إلى الارتداد عن الإسلام والكفر بالله والمرسلين فماذا أفادوا؟ إنَّه لم تظهر دعوة أشأم على قومها وأبين فشلاً وأسوأ عقبى من هذه الدعوة المرتدَّة.

ولعلَّ العرب يعقلون بعد أن مسّ جلدهم لهب الأحداث، ويعرفون إلى أين قادتهم هذه الخدع، وكيف عفّرت وجوههم بالتراب.

وفرية أخيرة نريد دحضها، أنَّ الإسلام لا يعرف التعصُّب ضدّ أديان أخرى، ولا يجعل الاختلاف الدينيّ ذريعة قتال وخصام. ولو أنَّ البضعة عشر مليونًا من يهود العالم عاشوا بين ظهراني المسلمين ما أحسُّوا غبنًا ولا شكوا اضطهادًا، مثل ما وقع عليهم في أوروبا.

إنَّ أوروبا رمتنا بدائها وانسلّت. إنَّها كانت وما زالت تجعل الخلاف الدينيِّ والمذهبيِّ مثار حروب وعداوات، وهي بهذه العقليَّة تحاول تمزيق الكيان العربيِّ الَّذي عاش فيه المسيحيُّون دهرًا طويلًا مواطنين مكافئين للمسلمين في الحقوق والواجبات.

وهدفها إمَّا قتل الإسلام، وإمَّا خلق فتن طائفيَّة في كلِّ مكان. 

والخطَّة معروفة، وعلى المسلمين أن يزدروها ويزدروا مروجيها، ويفضحوا مَن وراءهم.  

إنَّ مطالبة العرب بالتخلِّي عن الإسلام سفالةٌ لا قرار لها، وإنِّي أقول لقومي: لا خيار لكم أمام مؤامرات عالميَّة واضحة، مطلوب منكم أن ترتدُّوا عن دينكم وأن تتنازلوا عن أوطانكم.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حَديث صَريح للشيخ محمد أبو زهرة

نشر في العدد 2

1011

الثلاثاء 24-مارس-1970

مع القراء

نشر في العدد 1

904

الثلاثاء 17-مارس-1970

مع القراء 1

نشر في العدد 2

909

الثلاثاء 24-مارس-1970