العنوان الدعوة أقدم من الدعاة
الكاتب عبد العزيز الحمد
تاريخ النشر الثلاثاء 18-فبراير-1975
مشاهدات 15
نشر في العدد 237
نشر في الصفحة 36

الثلاثاء 18-فبراير-1975
هناك أمر يواجهه الكثير من دعاة الإسلام، وخطأ يقع فيه الكثيرون ممن لا يدركون وسائل التربية الصحيحة؛ فتؤدي أخطاؤهم إلى آثار جسيمة لم تكن تخطر ببال، فالبعض من الدعاة يربطون المقبلين على الإسلام بشخصياتهم بحيث يكون إيمان هؤلاء مرتبطًا بإيمانهم، فإذا ارتفع إيمانهم أو انخفض تبعه ارتفاع أو انخفاض إیمان أولئك، وإن حدث وتراجعوا في إسلامهم تبعوهم على ذلك. وآثار هذا الارتباط الشخصي قد تتخذ صورًا كثيرة، تتمثل في تقبل المدعوين بكل ما يأتي من الذين يدعونهم من تصرفات وأقوال تقبلًا أعمى، دون عرضه على الإسلام ووزنه بميزانه، وما ذلك إلا لتعلقهم بذات وشخص من يدعونهم.
وقد وقع الصحابة رضوان الله عليهم في هذا المعنى الخاطئ حين تعلقوا بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينبههم على هذا الخطأ ويربيهم على التعلق بالله سبحانه وتعالى الذي لا يموت، فكان ما حدث في غزوة أحد حين أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، فألقى بعض الصحابة بأسلحتهم وجلسوا، فمر عليهم أنس بن النصر رضي الله عنه فقال لهم: ما أجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فماذا تنتظرون؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، وإنه والله لفهم واسع للإسلام وأبعاده تميز به أنس رضي الله عنه. نعم، ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فإن دعوته باقية لم تمـت، وعليكم أن تتموا الطريق الذي سار فيه «فموتوا على ما مات عليه».
وفي هذا نزلت ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144).
يقول سيد قطب رحمه الله في التعقيب على هذه الآية: «وكأنما أراد الله سبحانه بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي بينهم. وأن يصلهم مباشرة بالنبع. النبع الذي لم يفجره محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق، كما أومأ إليه من قبله من الرسل، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه».
وكأنما أراد الله سبحانه أن يأخذ بأيديهم، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى. العروة التي يعقدها محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها متمسكون، وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيلة، حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتل، فهم إنما بايعوا الله وهم أمام الله مسؤولون».
هذا هو الفهم الذي على الدعاة أن يعوه وأن يربوا عليه من يدعونهم «أن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ.. إن الدعوة أقدم من الداعية».
وقد عاد هذا الشعور.. الشعور بالارتباط بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف حرج وصعب، موقف ذهلت عنده العقول، ألا وهو موته صلى الله عليه وسلم، وحينها لم تكد عقول الناس تصدق أن رسول الله مات، فبين مكذب وبين شاكٍّ، سوى من فتح الله عليه ببصيرة نافذة وإيمان قوي وإدراك لطبيعة الإسلام. روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، وقال الزهري وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس وقال: اجلس يا عمر، قال أبو بكر: أما بعد.. من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ﴾( آل عمران: 144) قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر. فكان هذا الفهم الصحيح للإسلام عند أبي بكر رضي الله عنه عاصمًا لإسلام كثير من الناس، بعد أن كاد يزيغ قلوب كثير منهم لهول المصاب.
أما غير ذلك من العرب فقد ارتدوا عن الإسلام وامتنعوا عن الصلاة وعن أداء الزكاة، وبرروا ذلك بأنهم مرتبطون بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما وقد مات فلا.. وكادت تحصل الردة في مكة لولا أن قيض الله للمسلمين سهيل بن عمرو رضي الله عنه الذي كان إدراكه مماثلًا لإدراك أبي بكر رضي الله عنه، فقام في أهل مكة خطيبًا وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ (الزمر: 30)، وقال ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ﴾ (آل عمران: 144) فرجع الناس عن ذلك.
ولكي يتجنب الداعية الوقوع في مثل هذا الخطأ عليه أن يبدأ بغرس حب الله وحب الرسول صلى الله عليه وسلم في قلب من يدعوه، فيصبح قلبه مملوءًا بحب الله ومتعلقًا بالله عز وجل، فلا يتعلق قلبه بحب شخص إنما بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا فقد ذلك أصبح قلبه خاليًا مستعدًّا لأن يمتلئ بحب أي شيء فیمتلئ بحب الأشخاص دون حب الله كما يقول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
لذلك كان من الأمور الرئيسية في العقائد التي يغرسها الداعية في قلب من يدعوه حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما».
ولا يعني ذلك أن لا توجد بين الداعية ومن يدعوه علاقة الأخوة والحب في الله بل ذلك مطلوب، وإن التربية لن تؤتي ثمارها ولن تبلغ مداها إلا بوجود هذا الحب ولكنه في الله، وهذا الاستثناء له أهميته، وهو يعطي الحب معنى آخر، فهو مرتبط بالله عز وجل ثم يكون داخلًا تحت معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان».
وليتذكر دعاة الإسلام دائمًا أن الدعوة أقدم من الدعاة، وارتباطهم هو بالدعوة لا بالدعاة.
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

