العنوان الديمقراطية الانتقائية .. وصناع الشر!
الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود
تاريخ النشر الثلاثاء 07-يوليو-1998
مشاهدات 17
نشر في العدد 1307
نشر في الصفحة 31
الثلاثاء 07-يوليو-1998
المفارقة التي يصنعها الغرب الاستعماري تجاه الشعوب العربية والإسلامية في مجال الديمقراطية ومجالات أخرى، ليست خافية على أحد، أو لم تعد خافية، وأيضًا لم تعد هذه المفارقة خاضعة لما يسمَّى بنظرية المؤامرة، لأن المؤامرة حقيقة قائمة على أرض الواقع، لا تتخفى ولا تتسأل، ولكنها صريحة جهيرة إلى حد الوقاحة في بعض الأحيان لقد حشمت الولايات المتحدة أساطيلها وطائراتها وجنودها. لتغزو «جرينادا» قبل أعوام لتعيد الرئيس المنتخب بمعرفة الشعب إلى سدة الحكم، وتطرد العساكر الذين سطوا على السلطة بقوة السلاح، وتؤدبهم أمام العالم كله، وكان لها ما أرادت.
وقامت الولايات المتحدة والغرب الأوروبي وبابا الفاتيكان بالعمل سنوات طويلة حتى تم
إسقاط النظم الشيوعية الاستبدادية في أوروبا وآسيا وإفريقيا، وبدأت الانطلاقة من بولندا أول النظم الديكتاتورية انهيارًا أمام طرقات المتظاهرين الثائرين، وكان الدعم الغربي الحرية الشعوب ضحية الشيوعية بلا حدود حتى استعادت حريتها وديمقراطيتها واستقرارها!
ولكن الموقف بالنسبة للعالم العربي والإسلامي يختلف تمامًا، فالغرب الاستعماري وقف من التجارب الديمقراطية العربية والإسلامية. موقفًا معاديًا في مجمله محايدًا في بعضه، والعداء والحياد معروف سبب كل منهما.. وأقرب الأمثلة:
1-عندما فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية في انتخابات الجزائر عام ١٩٩١م، هاج الغرب وماج، ولم يترك شعب الجزائر العربي المسلم ينعم بتجربته الديمقراطية، وصور جبهة الإنقاذ بالغول الذي سيلتهم الناس ويهضمهم في جوفه بعد أن يلفظ عظامهم، مع أن أعضاء هذه الجبهة أثبتوا وجودهم في حل مشكلات الشعب من خلال البلديات في عرض الجزائر وطولها، وكانوا مثالًا للتفاني في أداء الواجب، ولم يعرف عنهم أن استغلوا مناصبهم لمصالحهم أو نهب أموال الدولة.
وفوجئ العالم بالعصابات العسكرية الحاكمة تقبل رئيس الجمهورية الذي قبل الديمقراطية، وتلغي الانتخابات، وتضع الفائزين وأنصارهم في معتقلات التعذيب والتصفية في جنوب البلاد الملتهب صيفًا وشتاء وتعلن الحرب على الشعب العربي المسلم الذي رفض الجريمة والمؤامرة ورأينا أخيرًا أن العصابات العسكرية الحاكمة تتصارع فيما بينها، ومن أجل الولاء للسيد الفرنسي أو السيد الأمريكي، وتعبر عن ذلك بذبح المواطنين الآمنين وتنسب ذلك إلى ما يسمَّى بالجماعات الإسلامية والغرب بقيادة أمريكا يزغرد في كمه، لأن مصالحه لم تمسسها يد بسوء ومازال الغاز الجزائري يتدفق، والنفط الجزائري يتدفق، والحكومة الجزائرية تستدين، وتستدين والطبقة الحاكمة تزداد ثراء وغنى وبذخًا، وولاء للاستعمار، وإصرارًا على قتل شعبها ترى لو سارت الأمور عقب الانتخابات على طبيعتها وتولت الجبهة الحكم هل كانت الأمور ستصل إلى هذا السوء من المؤكد أنها لم تكن ستصل، ومن المؤكد أيضًا أن اللصوص والقتلة من الحكام والعساكر ما كانوا سيستمرون في النهب والقتل، ولكن الاستعمار أراد لهم الاستمرار، ومنحهم التأييد، وسكت عن وأد الديمقراطية!
2ـ في نيجيريا أكبر بلد إفريقي مسلم جرت انتخابات الرئاسة، وفاز فيها رجل الشعب النيجيري واسمه «مسعود أبيولا» ولكن الغرب الديمقراطي الذي يحافظ على مصالحه النفطية والاقتصادية في نيجيريا وغيرها لم يقبل اللعبة الديمقراطية، وأخرج من بين الكواليس العسكرية كولونيلا، مجهولًا سطا على السلطة، وأدخل الرئيس الفائز ومؤيديه إلى جحيم السجون وأقام محاكم عسكرية ظالمة، وعلق على المشانق من علق، وظل الكولونيل السعيد يحكم بالحديد والنار سنوات عديدة ثم أراد تجميل وجهه القبيح، فنصحوه بإجراء انتخابات صورية تشارك فيها أحزاب مصنوعة لا شعبية لها، وظن أنه سيخدع الشعب والعالم، ولكن الشعب النيجيري قادته فطرته إلى مقاطعة الانتخابات وأخفق الديكتاتور في تجميل وجهه القبيح!
3ـ في أفغانستان وبعد هزيمة الاتحاد السوفييتي على أيدي المجاهدين، وتعلق قلوب الملايين في العالم العربي والإسلامي بإقامة دولة مستقلة تعتمد الشورى والتسامح والمساواة، تدخلت اليد الغربية السوداء، وأشعلت الفتنة، وزودت الأطراف المتناحرة بالسلاح والعتاد حتى رأينا مجموعة من الطلاب «الطالبان»، يمتلكون طائرات وصواريخ ويكتسحون بقية المتصارعين، ويقيمون نظامًا قبيحًا بشعًا، ليس من الدين وليس من الأخلاق، وليس من الفطرة، ويقدمون أسوأ صورة يمكن أن تلصق بالإسلام والمسلمين والأب الروحي في واشنطن يغذيهم بوسائل القتل والدمار والخراب، ولا يخجل بعدئذ أن يعلن عن وساطته بين الأطراف المتحاربة لتحقيق السلام!
لا ريب أن المؤامرة الغربية الوقحة ضد شعوبنا حقيقة مؤكدة، ولكننا لا ندين قبل أن تدين أنفسنا، فقد سمحنا لهم بتحقيق مآربهم وغاياتهم، وهم وجدوا لدينا، بحكم عوامل عديدة، استعدادًا نفسيًّا لتقبل المؤامرة ولو بطريق غير مباشر، فالتفتنا إلى ذواتنا نتصارع ونتلاكم ونتقاتل، وتركنا أعداءنا على الأبواب يرقبون ما يجري ويستمتعون وينتظرون حتى تسقط الثمار من تلقاء نفسها وهو ما يحدث ويجري بالفعل!
المضحك أن الذين يصنعون الشر، يؤيدون الأشرار الديمقراطيين، وفي الغرب يحترمون اليهود المحتلين لفلسطين؛ لأنهم ديمقراطيون ويعبرون الديمقراطية عن التهام الأرض العربية وتدنيس العرض العربي، والأمر ذاته بالنسبة للبوسنة وكوسوفا، حيث يحترمون الديمقراطية الصربية في إبادة شعب مظلوم لا حول له ولا طول... أليس ذلك من طرائف الديمقراطية الانتقائية التي ينصح بها صناع الشر في العالم؟ وإلى متى يقبل الضحايا هذه النصيحة؟
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل