العنوان السنانيري.. شهيد المحنة الرابعة
الكاتب المستشار عبدالله العقيل
تاريخ النشر الثلاثاء 17-نوفمبر-1981
مشاهدات 15
نشر في العدد 551
نشر في الصفحة 19
الثلاثاء 17-نوفمبر-1981
طلبت مني مجلة «المجتمع» الغراء أن أحدثها عن الأخ الشهيد محمد كمال الدين السنانيري الذي فاضت روحه قبل أيام في زنازين الظلمة وعلى أيدي الجلادين من زبانية العذاب وجلاوزة السلطة الذين سخروا طاقاتهم وإمكاناتهم لحرب الإسلام والتنكيل بدعاته في كل مكان، وخاصة في أرض الكنانة التي كان لها النصيب الأوفى من هذه المحن الأربع المتتابعة، حيث كانت محنة سنة ١٩٤٩/١٩٤٨ التي كان فيها اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا واعتقال المجاهدين في أرض فلسطين ووضعهم في معتقل الطور.
ثم كانت محنة ١٩٥٤ التي أزهقت فيها أرواح الشهداء عبد القادر عوده و يوسف طلعت وهنداوي دوير وإبراهيم الطيب ومحمود عبد اللطيف وغيرهم بالعشرات في سجن ليمان طره وغيره، ثم تبعتها محنة ١٩٦٥ التي استشهد فيها سيد قطب ومحمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل وغيرهم من كرام الإخوان.
ثم جاءت محنة ۱۹۸۱ على يد من باع البلاد والعباد لليهود والأمريكان وكمم الأفواه وصادر المساجد والجمعيات والصحف والمنابر وفتح السجون على مصراعيها لاستقبال قوافل الدعاة إلى الله من الشيوخ والشباب بل حتى والنساء والأطفال واستعاده بكل عتل باع نفسه للشيطان على إيذاء المؤمنين وأولياء الله الصالحين الذين رفضوا أن يحنوا ظهورهم لغير الله واستعلوا بإيمانهم على كل الطغاة مؤثرين ما عند الله على كل ما في الدنيا من متاع.
ولقد ظن هؤلاء الأقزام المهازيل من أصحاب الكراسي المتداعية أنهم بهذا البطش يسكتون صوت الدعاة إلى الله ويوقفون القافلة عن المسير وفاتهم أنهم بهذا إنما يحاربون الله وهو أقوى من كل قوي وأكبر من كل كبير، ولن تنفعهم فتاوى المرتزقة وكتابات الأدعياء باسم الدين من العلماء الرسميين وأشباههم من الذين يزينون لهم أفعالهم فقضاء الله آتِ لا ريب فيه
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾
لقد كانت معرفتي بالأخ الشهيد السنانيري منذ أكثر من ثلاثين عامًا حين ذهبت للدراسة بمصر سنة ١٩٤٩ بكلية الشريعة، حيث كان- رحمه الله- يتردد على طلبة البعوث الإسلامية من كل الجنسيات ويستطلع أحوالهم ويقضي مصالحهم ويشاركهم مسراتهم وأحزانهم فمن مشكلة التسجيل إلى الدراسة إلى السكن إلى شراء اللوازم إلى عيادة المريض وإقراض المحتاج، وكان يقوم بكل هذا وغيره دون أي تكلف بل سجية وطبيعة فيه وكان يتميز بالتواضع الجم والبساطة في كل شيء والبشاشة والبشر لا يفارقه في كل أحواله فهو يلقاك لقاء من يعرفك من سنوات يعانقك ويسألك عن أحوالك وبلادك ومشكلاتك ويقدم لك نفسه بأنه من تلامذة الإمام حسن البنا وأنت أخوه في الله والعقيدة جئت تزور مصر، فلابد أن تكون ضيفه وأن تستعين به في كل شيء وفي أي وقت فهذا واجب عليه وحق لك.
ويندر أن تجد طالبًا من بلاد الشام أو العراق أو المغرب أو السعودية غيرها من البلاد الإسلامية لم يسعد بخدمات السنانيري ومحبته وزياراته وتوجيهاته التي يسوق لك فيها مبادئ الدعوة بأسلوب مبسط مستشهدًا بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ومقتطفات من كلمات الإمام الشهيد حسن البنا مع إيراد الأمثلة من واقع الحياة المعاصرة، ويخرج بك من هذا إلى ضرورة العمل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ضمن جماعة مؤمنة على مفاهيم أصيلة وتحت قيادة رشيدة وفي إطار خطة محكمة تستمد ضوابطها من كتاب الله وسنة ورسوله ومنهج السلف الصالح، وكان يردد دائمًا أنه لا يفهم دعوة الإخوان المسلمين من لم يستلزم بأركان البيعة العشرة في الأصول العشرين التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا مستقاة من الكتاب والسنة.
كان صلبًا في مواقفه قبل السجن وأثناءه وبعده، فهو يقول ما يعتقد بأنه الحق ويلتزم به ما لم يتبين له خلافه وينزل عن رأيه إذا كان الإجماع مع سواه من إخوانه وكان حريصًا على الشريعة والدفاع عنها وإن اضمحلت في بعض النفوس، ويؤكد على ضرورة السير على منهج الإمام البنا في التوجيه والتربية والجهاد والحركة، ويحرص على العالمية في الدعوة، وفي تجواله وسفراته في البلاد العربية والإسلامية واهتمامه بقضايا المسلمين في كل قطر أكبر دليل فقد زار المجاهدين الأفغانيين مرات ومرات وعاش بينهم كواحد منهم جامعًا للكلمة وموحدًا للصف ومرشدًا للطريق الأقوم في العمل لدين الله وابتغاء مرضاته بالجهاد في سبيله حتى تعلق به أفرادًا وقادة شبابًا وشيوخًا إذ وجدوا فيه نموذجًا للورع والزهد في المأكل والملبس والسكن والمركب كما وجدوا فيه الحب الحقيقي في الله والإخلاص في العمل والصدق في القول، قليل الكلام كثير العمل يربي من يعيش معه برؤيته له في حركته وسكونه فيقتبس منه ويتعلم وما أكثر الإخوة الذين صاحبوه في السنوات الأخيرة واكتسبوا من هذه الصحبة الطيبة المباركة الصور الوضيئة لما يدعون إليه.
وتلامذته في البلاد العربية والإسلامية شواهد على ذلك.
عشت فترة الدراسة بالكلية أسعد بصحبته وأغنم من توجيهاته، ثم تخرجت من الكلية وغادرت مصر ودخل هو السجن في سنة ١٩٥٤ ولم يخرج إلا في أكتوبر سنة ١٩٧٤ وكان موقفه في السجن مثالًا للصمود والشموخ على الباطل المنتفخ الذي لم يترك وسيلة من وسائل الضغط والإرهاب والتعذيب والتنكيل إلا مارسها ولكن دون جدوى فأمامه جبل أشم ورجل عقيدة لا يضام ومؤمن لا يخاف الموت بل يستشرف الشهادة؛ لأنها أسمى أمانيه وغاية مطلبه.
وقبل عامين أو ثلاثة من الإفراج عنه جاءته قصاصة بخط يده من السجن يوصيني فيها ببعض الأمور ففاضت عيناي بالدموع بعد هذا الغياب الطويل وعرفت منها أن هذا الداعية الفذ لا ينسى وهو في أحلك الظروف وفي ظلمات السجون حقوق دعوته وإخوانه فياله من رجل والرجال قليل وياله من داعية اجتمعت فيه صفات الصدق والصراحة والوضوح والصلابة والاستقامة والعفة والورع والزهد والبساطة والتواضع والعزيمة والالتزام كان يأخذ نفسه بالعزائم دائمًا ويترك الرخص سواء أكان ذلك داخل السجن أو خارجه في الحضر أو في السفر، وكان من يصحبه يجد فيه النموذج الفذ للدعاة الصادقين الملتزمين بالعهد الأوفياء لأهل السابقة من إخوانه.
لقد عاش الشهيد السنانيري وله في قلب كل من عرفه من إخوانه الحب العميق والتقدير والإجلال لما حباه الله من خلال حميدة وصفات نبيلة هي سمت واضح لكل من تربى في مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا.
رحم الله شهيد دعوة الحق والقوة والحرية وجمعنا الله وإياه على سرر متقابلين في جنة الخلد التي وعد الله عباده المتقين.
والله أكبر ولله الحمد
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل