العنوان السودان: الإنقاذ يبدأ بإعلان معركة البناء والتنمية
الكاتب عبيد الأمين
تاريخ النشر الثلاثاء 26-سبتمبر-1989
مشاهدات 12
نشر في العدد 934
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 26-سبتمبر-1989
قام الفريق عمر
حسن البشير - رئيس مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني - بزيارة إلى مدينة عطبرة عاصمة
السكك الحديدية في السودان؛ حيث التقى بجموع حاشدة من العمال، الذين توافدوا
للتعبير عن تأييدهم غير المحدود للثورة، وما صدر عنها من قرارات رائدة في سبيل
إقالة عثرة السودان، وانتشاله من وهدة الإفساد السياسي.
وقد تحدث الفريق
عمر إلى العمال عن الاهتمام الجاد، الذي توليه الثورة لإعادة البنيات الأساسية،
ومنها قطاع النقل الذي تأتي السكك الحديدية على رأسه، وذكر بأن البناء الذي لا
يرتكز على أسس ثابتة ومنسجمة مع تأهيل الهيكلية العامة للاقتصاد السوداني لن يحقق
طموحات التنمية والتقدم، وأن اهتمام الثورة بالإنتاج، وبالإنتاج المتقن هو الشعار
الدائم، وقال: «إن الثورة لن ترحم من يقف عائقًا أمام الإنتاج أو معوقًا للعمل»،
وبذلك أعلن البشير بأن معركة البناء التي أطلقتها الثورة تعتمد الإنتاج والمثابرة
عليه.
ومن المنتظر أن
تحقق الزيارة نتائج إيجابية عديدة تعيد لأكبر مرفق في السودان مكانته الرائدة في
مجال النقل، ودعم التنمية الإقليمية والريفية، وحل الأزمات المتولدة عن ضعف
التواصل بين موانئ السودان ومناطق الكثافة السكانية، وفي منطقة الجزيرة قام العقيد
صلاح الدين كرار بزيارة إلى مناطق الإنتاج الزراعي، والتقى هناك بجموع المزارعين
وتحدث لهم عن وفاء الثورة بالعهد، الذي قطعته على نفسها بإيلاء كل الاهتمام
لتجمعات الإنتاج.
وقال: إن الثورة
تعمل لحل كل مشاكل المزارعين، ولن يحتاج المزارعون أن يعلنوا إضرابًا؛ حتى تلتفت
الثورة إلى قضاياهم، وكان المزارعون قد دخلوا في إضراب في الفترة التي سبقت 30
يونيو، ورفعوا الإضراب بعد قيام الثورة.
ومن جانب ثالث
أعلن وزير الصناعة الدكتور محمد أحمد عمر بأن وزارته تقوم حاليًا بتوفير المدخلات
الأساسية للإنتاج، وفي نفس الوقت أعدت مخططًا دقيقًا لتأهيل المشاريع الصناعية،
وأن كثيرًا من المصانع خضعت إشكالاتها إلى البحث العلمي، ووُضعت حلول شاملة لها.
وهكذا كانت هموم
الثورة نبيلة ومقدامة، فقد سجلت في محاضرها الأولى بأن الإنقاذ والتقدم يتم فقط
ببناء الذات والاعتماد على الذات، وأن كل استراتيجية لانتشال البلاد لا تسلك ذلك
النهج، فهي ضرب من أحلام اليقظة.
التأهيل:
طيلة العهود
الماضية علت في الأوساط المتنفذة نغمة وحيدة تردد بأن التقدم الاقتصادي والتنمية
نتاج شرعي للتصنيع، وعلى ذلك انغلق التخطيط السوداني في دائرة إنشاء المصانع،
وعملت المؤسسات المالية ووزارات القطاع الاقتصادي على إنشاء أكبر قدر من المصانع،
وفي زحمة تفاوت الكم وتعداده تناسى القيمون معاني الجدوى والإتقان والنوعية،
ووُردت للبلاد مصانع متأخرة التصميم، متآكلة البناء، ضئيلة الفائدة، وبدأت إشكالات
الصيانة والتأهيل، وتجاهلت الحكومات المتعاقبة والمولعة بالتصنيع وشعاراته تجاهلت
تمامًا الزراعة ومصادرها وعملية تخلف القطاع الزراعي، وأُهمل المزارعون، وأضحت
الزراعة مشاكل بحتة دونما إنتاج، وغدا مشروع الجزيرة - والذي ظهر دهرًا يؤدي دور
العمود الفقري للاقتصاد السوداني - نهبًا لسوء الإدارة والإهمال المقصود بفعل
الأولوية المتناقضة للإنتاج الزراعي، وبذلك تدنى إنتاج المشروع، الذي يشغل مساحة
تتجاوز المليون فدان. ومع انخفاض إنتاجية مشروع الجزيرة تضاءلت دخول سكان المشروع
ومزارعيه، والذين يشكلون نسبة تصل 17% من سكان السودان.
وبمجيء ثورة
الإنقاذ الوطني وبرنامجها التأهيلي برزت في الساحة العملية عدة إيضاحات تعيد صياغة
المشاريع الماثلة في خطط قصيرة الأجل؛ حتى تستكمل نواقصها.
والتأهيل
المطروح من قبل الثورة لا يقتصر فقط على سد النواقص في المشاريع الإنتاجية، وإنما
يمتد ليشمل البنية الأساسية بأكملها بما في ذلك الإنسان الذي هو الهدف والوسيلة في
التنمية. فالتأهيل يشمل تطوير قطاع النقل والمواصلات، وتجديد الشبكات الكهربائية،
وتوسيع الخدمات الصحية والتعليمية، كل ذلك يأتي وفقًا لأولويات تحددها موازنات
علمية دقيقة، وتبعًا لسياسة تخطيطية ترفض الارتجال والتنفيذ الاعتباطي العفوي.
التطوير:
لقد ورثت حكومة
الإنقاذ الوطني تركة مثخنة بالجراح في كثير من قطاعاتها، بالإضافة للانهيار شبه
التام في الإدارة المكتبية، فالقطاعات الإنتاجية خيم عليها الإهمال، وحطمها التخبط
مما جعلها عبئًا اقتصاديًا. فالقطاع الزراعي وقطاع الصناعة التحويلية خُطط في
البدء؛ ليكون إنتاجها رأسمال التنمية من جانب، وتُشكل قسطًا أوليًا في تحقيقها.
فصناعة السكر مثلًا نُفذت في مصانع الجنيد، خشم القربة، سكر كنانة، حجر عسلاية
وغرب سنار، وكانت الطاقة الإنتاجية القصوى للمصانع الخمسة تبلغ 740 ألف طن، أي
بفائض إنتاجي «للتصدير» 200 ألف طن مما يزود خزينة الدولة بمدخلات جيدة من العملات
الصعبة؛ حيث إن معدل الاستهلاك السنوي للدولة لا يتجاوز 540 ألف طن، وكان ذلك
مقررًا أن يتم في عام 1984/1985 إلا أن سوء الإدارة، وعدم جدية الحكومات السابقة
جعلت الإنتاجية الحقيقية لا تتجاوز 400 ألف طن، مما جعل العجز في مادة السكر يصل
إلى 150 ألف طن، بالرغم من أن بعض المصانع كان أكثر من فتح على مستوى الإنتاج
العالمي، كما هو الحال في سكر كنانة، الذي حقق عدة أرقام قياسية أثبتت أفضيلة
الاستثمار في ذلك القطاع. والجدير بالذكر أن مشروع كنانة نُفذ باستثمار كويتي،
سعودي، بريطاني، ياباني بالإضافة للسودان، والذي يمتلك فيه النسبة العليا. وقد صرح
أخيرًا العقيد صلاح كرار - عضو مجلس قيادة الثورة ومشرف اللجنة الاقتصادية - بأن
حكومة الإنقاذ أنفقت 21 مليون دولار؛ لتوفير سلعة السكر، ولإعادة تطوير قطاع
الإنتاج في السكر، وافقت على توفير 60 مليون جنيه كسيولة لمصانع السكر الأربعة،
بالإضافة إلى 3 ملايين دولار؛ لاحتياجاتها الخارجية، وأن الثورة قررت زيادة
المساحة المزروعة من القصب حتى يُعاد وفرة الإنتاج فيه، مما يترتب عليه زيادة
تشغيل المصانع، وبذلك تضيق الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج.
البناء:
إن معركة البناء
التي آلت الثورة على نفسها أن تخوضها ليست قضية وقتية يمكن حلها من خلال فترات
قصيرة، وإنما تحتاج إلى جهود متواصلة تأخذ في الحسبان تكامل العملية البنائية،
وتواصل أجزائها؛ لتُنسج وحدة متماسكة، تستطيع أن تلعب دورًا تنمويًا ضخمًا
ومتوحدًا في نفس الوقت. وإعادة صياغة البنية التحتية يمهد الطريق إلى تلافي
التشوهات في العملية التنموية، كما أن البنية التحتية تكون بمثابة دوافع أساسية
لانتظام سلك التنمية في جميع مراحلها، وإذا علمنا بأن السودان قطر، ذو المساحة
الجغرافية الشاسعة، فإن بناء البنية الأساسية يعني أكثر من ضرورة. وقد جاءت تصورات
الثورة؛ لتمكين تلك المبادئ والمفاهيم من الحضور، فالسكك الحديدية والتي تمتد
قرابة 4 آلاف كيلومتر على بقاع السودان المختلفة لا بد أن يُعاد لها دورها الرئيسي
بعد أن ضيعته عهود التيه. وكما قال الفريق البشير: «إنه يريد إعادة سكة الحديد إلى
العصر، الذي كان الناس تضبط ساعاتها بموعد دخول القطارات إلى المحطة»، وتأهيل
السكك الحديدية يسهل النقل في أحجامه الضخمة، وتوزيع المنقولات والبضائع والإنتاج
من وإلى أجزاء السودان المختلفة، ومع تأهيل السكك الحديدية يجب تطوير المنشآت
المرتبطة بها من موانئ ومراكز تخزينية، فبناء الصوامع للغلال يرتبط بالتوزيع
المنظم لذلك الإنتاج.
ولكي تزدهر
العمليات التنموية في الزراعة والصناعة التمويلية والتعدين والصناعة الإنشائية،
فلا بد من توفير الطاقة، وتسهيل الحصول عليها، ويرتبط ذلك ببناء السدود على
الأنهار حتى تتوفر طاقة كهربائية رخيصة في تكلفتها، ودائمة من حيث الوفرة. ويتطلب
ذلك إنشاء مرافق للطاقة متقدمة كتطوير خزان الرصيرص؛ حتى يساعد في توليد الطاقة
بحجم كبير، كما أن زيادة رفع الخزان تعني ضبطًا أكبر في تخزين المياه، مما يساعد
في تطوير الدورة الزراعية.
استثمار:
الإمكانيات
الهائلة التي يحظى بها السودان يمكن أن تشكل أرضية صلبة لبناء تنمية جبارة غير
الإمكانيات التي تتطلب جهودًا مضنية حتى يطوعها الإنسان لمصالحه ويسخرها من أجل
التنمية، ولا بد أن تتضافر أكثر من جهد ليحقق ذلك، ولهذا فإن إعادة بناء البنيات
التحتية يهيئ أجواء مناسبة؛ لجذب الاستثمارات العربية والأجنبية.
والاستثمارات
تحتاج بجانب قوانين استثمارية مرنة إلى وجود بنية تحتية تساعد في انسياب العمليات
الإنتاجية، وتطمئن المستثمر على مستقبل ممتلكاته. والاستثمارات العربية والمحلية
لن تغامر في أجواء منذرة بالتدهور الأمني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولهذا
فإن الثورة أولت اهتمامًا بالغًا باستتباب الأمن، وأعلنت تطوير الحياة الاجتماعية
في مجالات محو الأمية، وتوسيع نطاق التعليم، وتطوير الإدارة والمهارات الفنية،
وسعت إلى تحسين الأوضاع الصحية والمعيشية، بالإضافة إلى تأهيل قطاعات الخدمات من
مواصلات واتصالات وطاقة كهربائية، وما إلى ذلك. وبالرغم من ضرورة مد يد العون
للسودان في ظروفه الحالية، وتوجيه الاستثمارات العربية إلى ربوعه؛ تحقيقًا لفائدة
مزدوجة إلا أن البناء معركة ذاتية لا بد أن يخوضها الشعب السوداني وبسواعده وجهوده
العلمية والإدارية والفنية، ومتى أبرزت جهوده البنائية تقدمها وفعالية إنتاجيتها،
فإن الاستثمارات الخارجية والمحلية سوف تتزاحم عليه؛ طلبًا لكسب مزيد من المصالح.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل