العنوان السودان: انقلاب «شوروي» في السودان!
الكاتب محمد حسن طنون
تاريخ النشر الثلاثاء 26-أكتوبر-1999
مشاهدات 24
نشر في العدد 1373
نشر في الصفحة 29
الثلاثاء 26-أكتوبر-1999
انتخابات المؤتمر الوطني استبعدت شيوخ الحركة الإسلامية وقدمت جيلًا منبت بماضي الحركة
اكتمل بناء المؤتمر الوطني السوداني بانتخاب عشرين عضوًا واستكمال العضوية بستة أعضاء، ولكن هل يعني هذا أن الأمر قد استقام، وأن العاصفة قد هدأت وبدأ عهد جديد للإنقاذ في السودان؟
الدكتور علي الحاج محمد بعد أن أعيد اختياره نائبًا للأمين العام أدلى بأول تصريح له قائلًا: «إن قيام المؤتمر التأسيسي يعني التحول من حزب الحكومة إلى حكومة الحزب»، وأضاف أن المرحلة المقبلة ستشهد توحيدًا في التصريحات بعد أن تم الاتفاق على الأهداف والوسائل والهياكل في المؤتمر التأسيسي.
يشك كثير من المراقبين المحايدين أن انعقاد المؤتمر التأسيسي قد احتوى التناقضات وقضى على الخلافات التي كادت تعصف بكيان الحركة الإسلامية.
لقد كان موقف المؤتمرين بعدديتهم الكبيرة، عشرة آلاف من شتى أصقاع السودان، يؤكد الإصرار على الوحدة بهتافاتهم المميزة «صف واحد لن ينهار» كل ما تم بعد انفضاض المؤتمر، يؤكد أن حالة من التوتر والقلق تخيم على الجو مما ينذر بأحداث تضع سلطة الإنقاذ في مهب الريح.
لقد وضح جليًا أن الخطة التي وضعتها أمانة المؤتمر لبناء الهياكل التنظيمية أعطت الولايات أكبر نصيب من المقاعد في مجلس الشورى 75 %، وذهبت 15 % فقط من المقاعد للقومية و 10 % أخرى لما يسمى الاستكمال، وجملة مقاعد مجلس الشورى 600 مقعد، مما تسبب في غياب كثير من القيادات التاريخية المشهورة في الحركة الإسلامية أمثال: السيد أحمد عبد الرحمن، ومحمد يوسف محمد، والشيخ محد الصادق الكاروري، والشيخ أحمد محجوب حاج نور، والشيخ عبد الجليل النذير الكاروري، وموسى حسين ضرار، ود. إبراهيم أحمد عمر، ويس عمر الإمام، ومصطفى عثمان إسماعيل، وقد أسعفت آلية الاستكمال بعضًا من هؤلاء في دخول المجلس وبقى الآخرون خارج المجلس.
انتخابات مجلس الشورى أحدثت شرخًا كبيرًا في جسم الحركة الإسلامية، إذ كان واضحًا أن مراكز القوى كانت تتحرك بصورة لافتة وحدث استقطاب حاد أكد أن الحال ليس على ما يرام، وأن الوضع مهتز داخل الحركة الإسلامية، ما لم يتدارك أولو الألباب الموقف قبل فوات الأوان.
كما أن مناخ انتخابات هيئة القيادة المكونة من 60 عضوًا برئاسة الدكتور حسن الترابي لم يكن صحيحًا أيضًا، وتتكون هيئة القيادة كالآتي:
8 أعضاء بحكم مناصبهم: الرئيس ونائبيه، والأمين العام ونائبيه، ورئيس المجلس الوطني، ورئيس الهيئة البرلمانية للمؤتمر الوطني.
26 عضوًا من الولايات - الولاة وأمناء المؤتمر.
20 عضوًا بالانتخاب المباشر من هيئة الشورى.
6 أعضاء استكمال تستكمل بهم هيئة القيادة عضويتها.
وقد أفرزت انتخابات هيئة القيادة نتائج مذهلة، حيث استطاع التيار المناوئ لمذكرة العشرة الشهيرة اسقاط أصحاب المذكرة جميعًا عدا د. غازي صلاح الدين، مما دفع البروفيسور إبراهيم أحمد عمر وزير التعليم العالي والبحث العلمي ورائد ثورة التعليم الجامعي في السودان إلى تقديم استقالته احتجاجًا على الطريقة التي اتبعت في الانتخابات، ود. إبراهيم أحمد عمر من بناة الحركة الإسلامية في السودان، وكان أمينًا عامًا للحركة في فترة سابقة ورئيسًا لمجلس شوراها، وهو يأخذ على الانتخابات أن الطريقة التي تمت بها تؤدي إلى هدم البناء الإسلامي الذي شيد طوبة طوبة منذ عام 1946 م - هذه الطريقة التي أدت إلى التكتلات والجهويات والقبائلية واللوائح والنظم التي وضعت بقصد استبعاد خيرة رجال الحركة الإسلامية من الساحة.
هذه اللوائح في نظر التيار الآخر حشدت ولاة الولايات وأمناء المؤتمر وهم (26) في الهيئة القيادية الستينية دون أن ينتخبهم المؤتمر العام، وإنما بحكم مواقعهم وكذلك (8) أعضاء بحكم مناصبهم الدستورية و (6) عن طريق استكمال، وهكذا لم يبق إلا عشرون جاؤوا بالانتخاب وسط جو انتخابی مليء بالتوتر والقلق، حيث كان واضحًا أن هناك قائمتين تتنافسان على المقاعد العشرين.
من نظرة فاحصة على نتيجة انتخابات هيئة القيادة نعلم أن الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير العلاقات الخارجية الذي أنقذته «آلية الاستكمال بعد أن تخطته الانتخابات» استطاع أن يحرز أعلى الأصوات في انتخابات هيئة القيادة، فكان أول العشرين الفائزين، ومع ذلك فإنه لم ينل سوى ثلاثمائة صوت من بين أعضاء مجلس الشورى البالغ عددهم 540 صوتًا، ومعنى هذا أن أكثر من مائتين وأربعين عضوًا من أعضاء مجلس الشورى لم يشاركوا في الاقتراع أي نحو 45 % من المجلس.
هيئة الشورى انتخبت عشرين عضوًا من جملة (64) مرشحًا بنسبة اقتراع لا تتجاوز 55 % ومع ذلك فقد أخفق كثير من شيوخ الحركة الإسلامية الذين عرفوا بجهادهم وزهدهم وعطائهم، حيث سدت اللوائح والتقدير الخاطئ والاستقطاب الطريق أمام الكفاءات المعروفة والمقدرة.
لا أحد من قيادات الحركة الإسلامية وقواعدها، فرح بهذه النتيجة ، لأنها تؤكد استمرار الأزمة واستمرار تصفية الحسابات مما يشل حركة الحزب والدولة، ومما يلقي بظلال سالبة على الشعار المرفوع منذ مجيء الإنقاذ:
«المشروع الحضاري» الذي يقصد به المشروع الإسلامي، بل يخشى كثيرون أن يؤدي هذا الذي حدث إلى نهاية لا يتوقعها ولا يريدها أحد.
كان المؤمل أن تتكون هيئة القيادة من الأعضاء الذين تنطبق عليهم صفات أهل الحل والعقد، أي أهل الشورى الذين هم أصحاب الرؤية الذين في مقدورهم إبداء الرأي وحل المشكلات، هم حقيقة قادة الرأي وأرباب السياسة وأمراء الجيوش، إن كنا حقًا نريد أن نؤسس دولة إسلامية على تقوى من الله ورضوان، ولكن للأسف من تنطبق عليهم هذه الصفات هم الآن خارج المجلس وخارج القيادة.
بعد نشوة انتصار الإنقاذ في اليوم الأول من الثورة غاب الوعي عند الإسلاميين ولم ينتبهوا إلى خطورة حل مجلس شورى التنظيم بحجة انتفاء دواعي وجوده بعد الإنقاذ، وغيبة الوعي هذه أدت في النهاية إلى تراكم المشكلات دون وجود آلية شورية لحلها وفتحت الأبواب، فدخلها كثيرون وتقلد بعضهم مناصب في غاية الخطورة من غير تربية، وارتفع بعضهم من غير التزام حقيقي بالمنهج وعهدت إلى بعضهم مسؤوليات من دون أهلية، فأصابت جسم الحركة آفات وتعطلت أعضاؤها بعاهات فكان افتتان البعض بالسلطة وزهد الآخرين وهم الأغلبية وجلوسهم على الرصيف يراقبون إلى أن استفحل الأمر واتسع الفتق على الراتق.
ثم ماذا بعد؟
بعض قدامي الإسلاميين يرون أن الحل في حزبين: حزب المؤتمر الوطني بتوجهاته الجديدة، وتنظيم الحركة الإسلامية حتى يستبين الطريق وتفاديًا للمشكلات.
ولكن هذا التوجه مرفوض لأنه سيؤدي إلى الانهيار التام وإلى حالة من التمزق كما هو الحال في ماليزيا وأفغانستان وأخيرًا في باكستان.
الحل أن يسترشد أبناء الحركة بمنهج الدين القويم في حل المشكلات، والقضاء على أسباب الخلاف والتنازع والتصارع.