العنوان المسلمون في أمريكا.. السياسة الخارجية الأمريكية وتشكل الوصية الإسلامية الحلقة الثالثة والأخيرة
الكاتب د.إيفون حداد
تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1993
مشاهدات 8
نشر في العدد 1053
نشر في الصفحة 41
الثلاثاء 15-يونيو-1993
بقلم: د. إيفون حداد
إعداد: المؤسسة المتحدة للدراسات والبحوث – واشنطن
تستعرض المؤلفة في هذه الحلقة بداية الصراع الذي عانت منه المجموعات الإسلامية المتفرقة في الولايات المتحدة في الأربعينات وشعورهم بالضعف إزاء الحرب التي أشعلتها القوى الصهيونية بهدف الإجهاض المبكر لأي ظهور إسلامي على الساحة الأمريكية.. ورغم انتعاش المشاعر الإسلامية عام 1956 بسبب الموقف الأمريكي المتوازن تجاه العدوان الثلاثي على مصر إلا أن سرعان ما تلاشى هذا الشعور الإيجابي تحت وطاه الانكسار الذي حدث للعرب والمسلمين في حرب عام 1967 .. وما بين مد وجزر لتلك المشاعر المضطربة.. بدأ المسلمون في البحث الجدي عن دور له في إطار المجتمع الأمريكي بعد أن يئسوا من منافسة اللوبي الصهيوني في التأثير على السياسة الأمريكية الخارجية.. فإلى أين وصل المسلمون داخل "الولايات المتحدة" عبر هذه الرحلة الشاقة؟ هذا ما تجيب عنه المؤلفة خلال هذه الحلقة.
لقد عانى العرب الأمريكيون منذ مطلع القرن الحالي من الاضطهاد على المستوى المحلي وفي بعض الحالات تعرضوا للتفرقة العنصرية من خلال القوانين والسياسات المتعلقة بالهجرة من قبل الحكومة الأمريكية.
إن الحملات الصهيونية لجمع أموال التبرعات في الأربعينات تحت شعارات مثل «ادفع دولارًا تقتل عربيًّا» كانت باعثًا لغضبة طبيعية من المهاجرين العرب الذين بذلوا جهودًا لمقاومة تلك الحملة الدعائية الجائرة، وبلغ الإحباط أشُدَّه لعلمهم بصغر حجم الجاليات العربية وتبعثرها في مختلف أنحاء الولايات المتحدة ولانعدام الهياكل التنظيمية والمؤسسية التي تجمعهم بهدف التأثير عن السياسات العامة، وزاد شعورهم بالتهميش عندما علموا بأنه لا حول لهم ولا قوة في التأثير على الأولويات الأمريكية، أو على السياسة الخارجية الأمريكية وعدم وجود مداخل كافية إلى وسائل الإعلام تسمح لهم بتصحيح الأفكار الخاطئة التي كانت تنشر عن الموروثات العربية، وتبعًا لذلك قام أفراد قليلون بمهمة جمع المعلومات وإلقاء المحاضرات والندوات أمام كل من يود الاستماع ويحاول تقديم صورة عادلة وغير مبتسرة عن الشعب العربي.
وبحلول منتصف القرن الحالي بذلت بعض الجهود لتنظيم شكل مؤسس يجمع أفراد المجتمع العربي المسلم في "الولايات المتحدة"، وفي عام 1952 وتحت إشراف أحد محاربي الحرب العالمية الثانية وهو عبد الله إيجرام قاموا بإنشاء اتحاد للجمعيات الإسلامية في "الولايات المتحدة وكندا" يضم أكثر من عشرين تجمعًا للمهاجرين المسلمين وينسق الجهود من أجل توفير الخدمات الاجتماعية والثقافية والدينية لهذه المجموعات، إن اتحاد الجمعيات الإسلامية الذي شكل على غرار المنظمات المماثلة داخل المجتمع الأمريكي قد خدم الجانبين بحيث صار يوفر الإطار الروحي المقدس للشباب المسلم لكي يجتمع ويلتقي ويقدم الإسلام في إطار مشروع كأحد الأديان العديدة التي تكوِّن النسيج الأمريكي.
وفي الوقت الذي تصوِّر فيه تقارير صحفية ظهور "عبد الله إيجرام" أمام عدد من التجمعات في "إيوا" لشرح القضية الفلسطينية فإن اتحاد الجمعيات الإسلامية في وقته لم يكن قد انغمس بعد في نشاطات جادة لشرح قضية الوعي السياسي العربي، ولكن ما فعله الاتحاد كان هو توفير الهيكل البيروقراطي للحصول على الاعتراف بالإسلام كدين من قبل القوات المسلحة الأمريكية.
لذلك فإن مبادرة إدارة "أيزنهاور" بالسماح للمسلمين بإعلان عقيدتهم في بطاقات هويتهم قد اعتبرت من قبل المسلمين الأمريكيين خطوة هامة لإضفاء الشرعية للوجود الإسلامي في الإطار الأمريكي.
حرب عام 1956 وإعادة الثقة
وكانت حرب عام 1956 في "الشرق الأوسط" بمثابة شحنة كهربائية بالنسبة للمهاجرين العرب، إذ إن إصرار إدارة "أيزنهاور" على انسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية المحتلة "لسيناء"، وإدانتها للعدوان الإسرائيلي قد أعاد جزءًا من الثقة للمهاجرين العرب في أن "الولايات المتحدة" سوف ترتفع إلى مستوى مبادئها المعلنة، كما أن "الولايات المتحدة" أبدت مرة أخرى حرصها ورغبتها في تقوية القانون والنظام الدوليين، إن انسحاب قوات العدوان الثلاثي كان بمثابة الهزيمة النهائية للهيمنة الاستعمارية على شعوب المنطقة وعزز من إيمان العرب بقيام "الولايات المتحدة" بدور عادل ومتوازن، وصار "جمال عبد الناصر" الذي لمع نجمه في العالم العربي بطلًا قوميًّا في نظر الكثير من المهاجرين العرب في الولايات المتحدة، وصار هؤلاء المهاجرون يفتخرون بهويتهم وإرثهم القومي بدلًا من التركيز على الانتماءات الإقليمية والوطنية التي كانوا يتمسكون بها من قبل، وعززت مقاومة عبد الناصر للغرب الآمال في أنه يمكن للعرب يستطيعون حقيقة مقاومة أي غزو أجنبي، إن «انتصاره» قد غذى الشعور القومي لدى الجيل الجديد الذي صار يؤمن بالإمكانات المستقبلية والانتقام للحقوق العربية المغتصبة، والانبعاث للمشاركة الكاملة في صياغة العالم الحديث.
وفي منتصف الستينات أصبحت الهوية العربية مصدرًا للفخر بالنسبة للعرب في دولهم وللعرب المهاجرين على حد سواء، وجاءت هذه المرحلة بعد مرحلة التشرذم الإقليمي وصارت مؤشرًا يبعث على الأمل في إمكانية تحقيق وحدة تحت مظلة العنصر واللغة، وجاءت حرب عام 1967 والتقارير المشوهة التي كانت تصدرها أجهزة الإعلام الأمريكية لتزيد من إحساس المهاجرين العرب بأنهم مهمشون وعاجزون عن الحصول على تغطية إعلامية عادلة لشؤونهم، وكان هذا الشعور باعثًا لميلاد عدد من المنظمات العربية الأمريكية، ومن بين هذه المنظمات كانت الجمعية الوطنية للعرب الأمريكيين واللجنة العربية الأمريكية لمحاربة التمييز والاتحاد العربي الأمريكي لخريجي الجامعات وتزامن ميلاد هذه المنظمات مع الاعتراف الأمريكي بالهوية المستقلة للأقليات العرقية في أعقاب ظهور حركة القوى السوداء في "الولايات المتحدة".
تأثير السياسة الخارجية الأمريكية على المسلمين في "الولايات المتحدة"
وفي عام 1963 تم تكوين اتحاد الطلاب المسلمين (MSA) في عدد من الجامعات الأمريكية، بواسطة مجموعات صغيرة من الطلاب المسلمين الأجانب الذين ليس لهم علاقة حميمة بالقومية العربية، وكان معظمهم من الإخوان المسلمين، ومن بينهم عدد لا بأس به من الباكستانيين الذين رأوا أن الهوية العربية تفرض عليهم قيودًا، وكان اتحاد الطلاب المسلمين معتدلًا في بداياته ولكن عضويته ازدادت بصورة سريعة في الفترة التالية لحرب 1967، واكتسب قوة كبيرة بعد حرب عام 1973 التي لم تحاول فيها الولايات المتحدة حتى مجرد أن تقف في الحياد إزاء مشكلة "الشرق الأوسط"، وفي مطلع السبعينات على سبيل المثال ظهر "إسماعيل الفاروقي"، وهو مهاجر فلسطيني والذي كان يكتب عن الهوية والقومية العربية وتحول إلى الكتابة عن الهوية الإسلامية وأصبح واحدًا من أهم قيادات الحركة الإسلامية وأحد أبرز المدافعين عنها داخل "الولايات المتحدة".
وكان سقوط "شاه إيران" عاملًا مُهِمًّا في إذكاء جذوة الهوية الإسلامية في "الولايات المتحدة"، وكان الشاه يصنف على أساس أنه عدو للعرب لأنه كان يزود "إسرائيل" بالنفط، إضافة إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية على عهد "هنري كيسنجر" قد زادت من قوة الشاه على حساب العرب، وكانت "إيران وإسرائيل وتركيا" تقوم بمهمة الدول الحليفة المسؤولة عن احتواء العرب، وسمحت الولايات المتحدة للشاه بالسيطرة على جزر عربية استراتيجية تقع في الخليج، وعزز إقصاؤه عن الحكم الاعتقاد بأن الإسلام المنظم يمكنه توفير الطاقة اللازمة لتحريك الجماهير لإزاحة الأنظمة الفاسدة، وكانت الأنظمة العربية تبدو على أنها صنيعة للولايات المتحدة وعاجزة عن الحركة أمام "إسرائيل".
إن هذا الأمل المتجدد في قوة الإسلام كان عاملًا مهمًّا للغاية في التأثير على تفكير عدد من المسلمين أثناء بحثهم عن تعريف لدورهم في إطار المجتمع الأمريكي.
وظهرت عدة حقائق ذات أهمية خاصة خلال السنوات الأخيرة لتؤثر على أحاسيس العرب المسلمين وشعورهم بذاتيتهم وكينونتهم في "الولايات المتحدة".
وكان من بين تلك الحقائق نمو قوة اللوبي الإسرائيلي في "الولايات المتحدة" مما كان له أبلغ الأثر على المجتمع الإسلامي الأمريكي، إن الصمت الأمريكي عن الغزو الإسرائيلي "للبنان"، وعجز الأنظمة العربية عن عمل أي شيء لحماية المواطنين العرب من القبضة الطويلة للقوات الإسرائيلية قد أدى إلى المزيد من اضمحلال فكرة توازن الموقف الأمريكي.
ويعلم العرب جيدًا أن إسرائيل تجد القوة بفضل ضخ 3 بليون دولار سنويًّا من أموال دافع الضرائب الأمريكي إلى إسرائيل واستعمال حق النقض «الفيتو» الأمريكي داخل "الأمم المتحدة".
ويرى العرب أن هذه الأشياء جوهرية وأساسية في قدرة إسرائيل على احتقار القوانين الدولية ومواصلة سياساتها الاستعمارية داخل الأراضي المحتلة دون التعرض للعقاب، ويعتقد العرب بأنه خلال الغزو الإسرائيلي "للبنان" في 1982 وما تلَى ذلك من التردي المستمر في العلاقات كان أمرًا متوقعًا وذلك بسبب قوة اللوبي الإسرائيلي وقدرته في التأثير على الرأي العام الأمريكي وعلى أعضاء الكونجرس، إن إدراك العرب بقوة اللوبي الإسرائيلي وما يستتبع ذلك من سخط العرب الأمريكيين قد أدى إلى ظهور عدد من الخيارات بالنسبة لحياة المسلم في "الولايات المتحدة" وفقد بعض المسلمين الأمل في التأثير على الحكومة الأمريكية لكي تنتهج سياسة متوازنة وآثروا الاكتفاء بدور هامشي في ما يتعلق بنشاطهم السياسي، بينما اختار البعض الجانب الآخر وسعى إلى لعب دور أكبر في مسيرة السياسة الأمريكية.
من الواضح أن السياسة الخارجية الأمريكية كان لها دور مؤثر على هوية المسلمين وطريقة اختيارهم للمشاركة في الحياة الأمريكية، وأدت الممارسات الأمريكية في منطقة "الشرق الأوسط" على مدى الأربعين سنة الماضية إلى استعداء غالبية المسلمين الأمريكيين، وكان العقد الماضي على وجه التحديد فترة صعبة بالنسبة للمسلمين وهم يحاولون التعايش في مناخ مليء بروح العداء.
ونتيجة لذلك سعى المسلمون إلى تأطير هويتهم بعدة طرق، وتحديد خياراتهم بحيث نتج عن ذلك ظهور سمات خاصة ومفاهيم واتجاهات محددة وبصورة عامة أصبحوا يتركزون في مجموعتين كبيرتين.
أثَّر المناخ العدائي على الدين في "أمريكا"
1-استمر البعض في اعتبار أنفسهم عربًا أمريكيين ورغم أنهم مسلمون إلا أنهم عمومًا علمانيون ويرون أن الدين مسألة شخصية بين الفرد وربه، وأصبح هؤلاء يركزون على الهوية العرقية المبنية على الانتماء للتراث واللغة، وهذا يشمل المسيحيين واليهود من الدول العربية، وباعتبارهم يشكلون غالبية المسلمين العرب في "الولايات المتحدة" فإنهم يتكونون من نوعين - يمكن أن يطلق على بعضهم أمريكيون مسلمون - وأولئك يعتبرون أنفسهم مواطنين أمريكيين وأعضاء في المجتمع الإسلامي ويريدون "لأمريكا" أن تكون بمستوى تقاليدها وقيمها المعلنة، أما الآخرون فهم ما يمكن أن نطلق عليهم « لا مسجديين Unmosqued» وهؤلاء مسلمون اسمًا ولكنهم يجدون انتماءهم من خلال المنظمات السياسية والعرقية.
إن العرب الأمريكيين يحاولون دائمًا الوصول إلى القطاعات الأخرى من المجتمع للعمل معها سويًّا من أجل رفعة "الولايات المتحدة"، وإيجاد مكان يشعر فيه غير معتنقي الديانتين المسيحية واليهودية بأنهم في بلادهم، ولخلق وطن أمريكي يمكن أن يرقى إلى مستوى إمكانياته ومثله العليا، وتضم هذه الشريحة أعدادًا ضخمة من الجيل الثاني والثالث والرابع من المسلمين المولودين في "أمريكا"، ومن بين هؤلاء عابدين جبارة رئيس اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة التمييز والذي تقاسم رئاستها مع مؤسسها السيناتور السابق جيمس أبو رزق اللبناني المسيحي الأصل، وهذه المنظمة التي تضم المسلمين والمسيحيين الأمريكيين من أصول عربية قد عملت منذ أواخر السبعينات على لفت انتباه الأمريكيين إلى وجود العرب بين ظهرانيهم، والتمييز العنصري الذي يتعرضون له، وإلى السياسة الأمريكية غير العادلة في "الشرق الأوسط".
إن العرب الأمريكيين المسلمين لديهم تحفظ من تصوير الإسلام على أنه يحمل قيمًا مختلفة عن القيم اليهودية - المسيحية التي تسود حضارتها بجانب الاتهامات المستمرة للإسلام بأنه يحض على العنف.
ويقول هؤلاء بأنهم قلقون من أن "أمريكا" نفسها لا ترتفع إلى مستوى مثلها، وتم الإعراب عن هذا المفهوم بصورة واضحة في المقتطفات المذكورة أدناه من خطاب الملكة نور الأردنية والذي ألقته في "الولايات المتحدة":
«إن قلقنا يزداد بشدة من الفجوة التي تزداد بين المثل الأمريكية المعلنة وما يمكن أن نعتبرها تصرفات أمريكية غير مشجعة في منطقة "الشرق الأوسط"، إنني أرى "أمريكا" التي تشجع المفاوضات بين العرب والإسرائيليين ولكنها هي نفسها التي ترفض فتح باب الحوار مع الممثلين المنتخبين من قبل الشعب الفلسطيني.. وإنني أرى أمريكا التي تعترف ضمنًا بعدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة ولكنها تستمر في زيادة مساعداتها السنوية "لإسرائيل"، وتساعد بذلك "إسرائيل" في مواصلة بنائها لتلك المستوطنات.. وإنني أرى "أمريكا" التي تسأل "الأردن" والفلسطينيين وغيرهم من العرب بأن يظهروا الاعتدال والشجاعة، في الوقت الذي نرى فيه أن العون العسكري الأمريكي لإسرائيل يتسم بعدم الاعتدال من حيث الكمية إضافة إلى افتقاره بشدة لروح الحل في تطبيقه للعقوبات القانونية التي تحكم طريق استعمال الأسلحة المقدمة "لإسرائيل".. وأرى "أمريكا" التي تتحدث عن العدالة والسلام في "الشرق الأوسط"، ولكنها تساعد في استمرارية الممارسات الإسرائيلية غير الشرعية وذلك من خلال معوناتها المادية السخية.. وأرى أمريكا التي تدعي تقييم الاعتدال العربي ولكنها في نفس الوقت تتبع سياسات الدعم اللا محدود "لإسرائيل".. كما أنني أرى "أمريكا" التي تتوقع من العرب أن يدخلوا إلى مفاوضات السلام بدون شروط مسبقة بينما نجد في نفس الوقت أن سياسات "أمريكا" نحو "الشرق الأوسط" تستمر في عكس العديد من الشروط الإسرائيلية.. إنني اعتقد أن الوقت قد حان بالنسبة للولايات المتحدة لكي تسأل نفسها الأسئلة الصعبة التي يسألها الآخرون في منطقة "الشرق الأوسط" وفي أنحاء كثيرة من العالم: لماذا ترفض هذه الدولة التي أعطت للعالم مفهوم حق تقرير المصير تطبيق نفس الحق على الفلسطينيين؟».
2-وتشمل الشريحة الثانية أولئك الذين يمكن أن يطلق عليهم مسلمين في "أمريكا" وهم الناس الذين يعرفون أنفسهم بالتحديد بأنهم مسلمون ورافضون دائمًا للثقافة الأمريكية.
وهؤلاء أيضًا ينقسمون إلى مجموعتين فرعيتين... فمن جانب واحد هناك هؤلاء الذين دفعت بهم مشاعر الرفض وعدم الثقة إلى انسحابهم من الحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية، والمسلمون الأمريكيون الذين اختاروا الابتعاد عن النظام السياسي يعرفون العلاقة بين الله والإنسان علاقة أساسية ولا يحاولون التأثير على العالم من حولهم، وهؤلاء الذين يقعون تحت أسار التوتر بين الصورة المثالية للوطن حيث تمتزج الإخوة بالرباط الاجتماعي وحقيقة التجربة لمناخ لا مبالٍ وفي بعض الأحوال معاد، فهؤلاء المهاجرون ينظرون إلى مجتمع أعيد تشكيله من خلال هدف ثابت ومتناغم تحت مظلة الإسلام كطريقة تجعلهم يدخلون في إطار المجتمع الأمريكي وهؤلاء إسلامهم يركز كل الجهود في هذه الحياة على أمل الحصول على الثواب في الآخرة ومن بين هذه المجموعات جماعة التبليغ والتي تركز أساسًا على الجوانب الروحية.
والنوع الآخر من المسلمين في "أمريكا" هم أولئك الذين ينظرون إلى العداء الأمريكي للإسلام بأنه استمرار للصليبية وهؤلاء يرون أنهم ملزمون بتغيير هذه الحقيقة، وهدفهم هو تحقيق السلام والعدل من خلال أسلمة "أمريكا"، وهذا الاتجاه سار فيه عدد كبير من المسلمين خلال العقد الأخير، ومن خلال هذه النظرة فإن الإسلام يعتبر دعوة فريدة للحياة أسسها الله للبشرية.
وبحيث يجب الربط بين الدين والسياسة لضمان العدالة والحرية، وهذه النظرة تعطي نوعًا من التماسك الخاص والدعم لمجتمع يمر بفترة اضطراب مليئة بالرفض، وتوفر الفرصة للكراهية والخوف.. إن المسلمين الذين يلجؤون لهذا الاختيار يصنفون بأنهم يتطلعون إلى أخوة عالمية لا تمارس التمييز بين البشر على أساس الجنس أو اللون أو اللغة أو الهوية الوطنية، إن هذه النظرة لها بعد عالمي وتسعى إلى تحويل العالم لذلك فإن الاستقلال من الإطار الأمريكي يمكن احتواؤه ولا يفسر على أساس أنه نتيجة لرفض الثقافة المضيفة، ولكن على أساس أنه تكليف إلهي حتمته الظروف لانحراف "أمريكا" عن الحياة الأخلاقية التي ترضي الله.
إن المسلمين في "أمريكا" يقفون ضد الكراهية الأمريكية للإسلام وضد الأذى المستمر ويخشون من فكرة أن يلفظهم النظام عندما يدعو القادة الأمريكيون بلادهم بأنها يهودية - مسيحية وهؤلاء المسلمون يؤكدون أن على الإسلام أن يسود وذلك لأن "أمريكا" وإسرائيل تخططان لتدمير العقيدة الإسلامية والمسلمين، وهؤلاء الذين يؤمنون بهذه الفكرة يفقدون
الأمل عمومًا في تغيير الوضع الراهن أو إصلاحه.
ويعتقدون أن "أمريكا" تهيمن عليها مجموعات ذات مصالح خاصة تسببت في انحرافها عن القيم والنظرة التي كانت في السابق متسقة مع التعاليم الإلهية.
وهكذا فإن "أمريكا" ليست محتاجة فقط إلى الإنقاذ وإنما إلى تحول "راديكالي" يحفظها لكي تؤدي مهمتها وتصبح "أمريكا" التي تعيش مطيعة لربها ومستسلمة لإرادته، وتجد نفسها في الإسلام.
إن هذه النظرة قد تم الإفصاح عنها في خطبة دينية ألقيت في المركز الإسلامي "بهارتفورد" بولاية "كونيتكون" في خريف عام 1984 بواسطة "إبراهيم فريد الكيلاني" نائب رئيس كلية الشريعة "بجامعة عمَّان" "بالأردن" - آنذاك والذي كان في زيارة بدعوة من وكالة الإعلام الأمريكية.
«أيها الإخوة المسلمون إن هناك مشاكل تواجه المسلمين في العالم فهم يتعرضون للمذابح في "لبنان وفلسطين والفلبين والهند"، ولا أحد يهتم! إنكم تعلمون أن الأمريكيين شعب حساس للغاية، وهم عاطفيون وهم لا يحبون العنف ويهتمون بأمور المضطهدين واليوم كنا في "بوسطن" حيث كانت هناك مظاهرة ضخمة ضد إجراء التجارب المعملية على الحيوانات الثديية، ولديهم جماعة السلام الأخضر، وهم يعرضون حياتهم للخطر من أجل حماية الحيوانات من خطر الموت ويحتجون، ويمارسون الضغط، ويتظاهرون ويهتفون بأعلى الأصوات، وعندما تكون المسألة متعلقة بأرواح المسلمين يلتزمون الصمت وتوجه أموال ضرائبهم وطائراتهم ودباباتهم وقنابلهم لقتل المسلمين.
انظروا إلى عقيدتكم إنكم أيها المسلمون تعامَلون معاملة أقل من الحيوانات، هل سمعتم بأي صرخة احتجاج لوقف المذبحة؟ لقد سموا "بيروت الغربية" بأنها «مسلمة» وأعطت تلك التسمية تصريحًا "لإسرائيل" بتدميرها ودكها، لقد استعملت "إسرائيل" القنابل الانشطارية والفوسفورية وحتى قنابل «الفراغ Vacu - um» لتدمير المسلمين ما الذي أوصلنا إلى هذا المصير؟ ولماذا تآمر علينا المسيحيون واليهود لتدميرنا؟ أيها الإخوة والأخوات، إن الله قد أوضح لنا في القرآن بأن هزائمنا بسبب ضعف إيماننا.. وكلما ابتعدنا عن الإسلام، ابتعد عنا الله، وكلما لهثنًا طلبًا لصداقة ورضا الغرب وتجاهلنا تعاليم الله في الطاعة والالتزام سنكون هدفًا للتصفية من قبل قوى التآمر اليهودي - المسيحي المشترك.
ماذا حدث للمسلمين حتى أصبحنا هدفًا تجرب عليه "أمريكا" أسلحتها؟ ماذا حدث لنا كأمة حتى يتم اختيار لحوم المسلمين للاختبار؟ إن القنابل المسيحية تلقى بواسطة شباب اليهود فوق المسلمين في "بيروت" لتجربة وتحديد فعالية القنابل الفوسفورية في إحراق الأجساد الحية، إن القنابل الانشطارية تلقى لتتفجر وتمزقكم، من هناك لينقذكم؟ من سيقف معكم؟ ليس لدينا قيادات تزمجر بأصواتكم، وليس هناك جيش ليحميكم، لماذا نحن عاجزون؟ لماذا تخلى عنا الله؟».
إن هذا التصوير الإعلامي السلبي للأمور لدى العرب والمسلمين قد ترك آثاره على المسلمين الأمريكيين وما زال المسلمون يتساءلون عمَّا سيكون عليه وضعهم مستقبلًا في "الولايات المتحدة" وهم يناضلون من أجل صياغة مستقبلهم في مناخ مليء بالعداء والكراهية تجاه الإسلام.
هل سيستطيع مسلمو أمريكا الشمالية في الاستمرار كمجتمع إسلامي نابض وفاعل، وقادر على المشاركة الكاملة وبحُرية في إطار هذا «الموزاييك» الديني، وأن يساعدوا في صياغة مستقبلهم كمجتمع يقبل بالتنوع والتعددية؟ إن حقيقة أن الدين الإسلامي ليس مقبولًا من قِبل البعض في "الولايات المتحدة" قد تعني أن البعض قد يشعرون بذلك ورغم هذا فإنهم قد وصلوا إلى ذلك الموقف بكل حُرية وعن اقتناع باختيارهم.
ومهما يكن البديل فإن مسلمي "أمريكا" يتمسكون بقوة بالأمل في أن أبناءهم لن يذوبوا في الثقافة الغربية بحيث يتخلون عن عقيدتهم وأنهم سوف يستمرون في التمسك وممارسة قيمهم المقدسة المنبثقة عن إرثهم الإسلامي.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل