; الشورى أم الاستبداد؟ (3) | مجلة المجتمع

العنوان الشورى أم الاستبداد؟ (3)

الكاتب د. عبد الله أبو عزة

تاريخ النشر الثلاثاء 12-يناير-1971

مشاهدات 14

نشر في العدد 43

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 12-يناير-1971

لم نتعرض في المقالين السابقين لعدد من المواقف التي استشار فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحابته أو بعضهم، وعزونا عدم بحثنا لهذه المواقف لأنها غير ذات صلة بموضوعنا، ومن هذه المواقف:

·       استشارة الرسول لصحابته في أمر لقاء النفير يوم بدر.

·       وقبوله مشورة الحباب بن المنذر يومها بالسيطرة على نبع الماء.

·       واستشارته أبا بكر وعمر في أمر الأسرى وتصرفه فيهم.

·       وقبوله مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق يوم الأحزاب.

·       واستشارته -صلى الله عليه وسلم- للسعدين في أمر الاتفاق الذي كان يريد إبرامه مع زعيمي غطفان يوم الأحزاب كذلك.

·       ومشاورته  لعلي وأسامة في أمر حديث الإفك، وحتى لا يظن أننا أغفلنا بحث هذه المواقف لأن دلالتها تناقض وجهة النظر التي اقتنعنا بها تتفق مع مبادئ الإسلام ومدلولات نصوصه العامة ومقاصد شريعته، فقد رأينا من الضروري إيضاح وجهة نظرنا حيالها.
ولقد فهم بعض من تعرضوا لموضوع الشورى من هذه المواقف أن ولي الأمر له أن يستشير من يشاء، وأن يدعم من يشاء، وربما كان هذا أحد الأسباب التي شجعتهم على القول بأن الشورى غير مُلزِمة.
 وغرضنا في هذا المقال أن نحلل هذه المواقف ونعرض فهمنا لها بما ينفي أن الشورى الإسلامية لا تنطوي على أية ضمانات ضد الفوضى.

·       قضايا على مستويات

هناك أساس عام نرتكز إليه وننطلق منه، وهو أن القضايا التي تعرض للأمير أو رئيس الدولة ليست كلها من مستوى واحد أو نمط واحد؛ فهناك القضايا الكبرى التي تمس مصلحة مجموع الأُمة والدولة، وهناك القضايا الصغيرة التي لا تتصف بهذه الأهمية، وهناك قضايا ذات طبيعة خاصة، كما أن هناك قضايا شخصية، وليس من المنطق والعقل في شيء أن تتشابه أساليب معالجة الأمير لهذه القضايا المتباينة.

وإذا نظرنا في جميع هذه القضايا -التي عددنا آنفا- لما وجدنا أكثرها من القضايا العامة، لوجدنا بعضًا منها يتميز بجوانب خاصة، في حين أن بعضها لا تعدو كونها قضايا شخصية. فلو أخذنا استشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين في أمر لقاء النفير يوم بدر وجدنا أنفسنا أمام قضية من طبيعة خاصة؛ ذلك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا (1)».
والذي نلاحظه في هذا الموقف أنه موقف مهم وعام، وأن الرسول استشار الناس، وأن الآراء قد اتفقت كلها على ما أحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ألا وهو لقاء النفير.

ولم يحدث في عملية الشورى هذه خلاف يمكن أن يُشكّل دليلًا على إلزامية الشورى من عدمها، لكن لماذا ركَّز الرسول في استشارته على الأنصار؟

لماذا ركَّز الرسول في استشارته على الأنصار؟

لم يوضح الإمام مسلم علة هذا التركيز، بيد أن ابن هشام يقدم لنا ذلك الإيضاح.

·       إن الشوري في القضايا العامة حق من حقوق الأمة؛ حيث يقرر «ممثلوها»، أهل الحل والعقد ما ترى فيه مصلحة لها، ضمن إطار المبادئ الإسلامية..  ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك مسائل خاصة يبت فيها «رئيس الدولة» حسب تقديره الخاص..  غير أن المصلحة تقضي أن تكون مثل هذه القضايا محددة

لقد مرَّت على المسلمين مئات السنين ودماؤهم تنزف، ومصالحهم تهدر نتيجة لفوضى الحكم والإدارة وعدم تنظيم عملية الشورى.. فهل في الإمكان وضع نظام دستوري مقتبس من المبادئ الإسلامية يلبي متطلبات «الدولة الحديثة»؟

فبعد أن سمع الرسول صلوات الله عليه أقوال أبي بكر وعمر والمقداد بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، تلك الأقوال التي فاضت بالإخلاص والحماسة، عاد -صلى الله عليه وسلم- ليقول: «ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَشيروا عليَّ أَيها الناس، وإِنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس (أي يشكلون الأغلبية) وأَنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله: إنَّا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإِذا وصلت إلينا، فأَنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أَبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخوف أَلَا تكون الأَنصار ترى عليها نصره إلَا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأَن ليس عليهم أَن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. 2» فتخصيص الأنصار بالمشاورة يعود إلى هذين السببين إذن.

·       قضية فنية محضة
**
أما قبوله -صلى الله عليه وسلم- لمشورة الحباب بن المنذر (3) فليس فيها أي غموض. إنها مشورة أحد الصحابة في قضية فنية محضة لم يعترض عليها أحد، ولم يحدث حولها خلاف، وهي بذلك لا تعد من قضايا الشورى العامة التي يمكن أن يستفيد منها من يرون الإلزامية أو من يرون عدمها.

وماذا عن قضايا الأسرى
** وأما قضية الأسرى فهي قضية صغيرة كذلك، وما زال رؤساء الدول حتى يومنا هذا وفي أكثر الأمم تعلُقًا بالديمقراطية «وهي ضرب من الشورى الإلزامية» يصدرون العفو عن السجناء أو الجواسيس أو الأسرى. ومثل هذه القضايا الصغرى يمكن أن ينص الدستور الإسلامي على تركها لرئيس الدولة يتصرف بها. وفضلًا عن ذلك فإن في ذكر قصة الأسرى كما أوردها الإمام مسلم في صحيحه ما يفيد أن الذين رأوا أخذ الفدية كانوا جماعة، وتنفي ما ذكر من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حصر المشورة في أبي بكر وعمر، ثم أخذ برأي الصديق وعدل عن رأي الفاروق (4).

·       مطلع رواية مسلم عن قضية الأسرى: «قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأُسارى؟»، فالذي يفهم من الحديث هنا أن الشورى حُصرت في أبي بكر وعمر، ولكن الجزء الأخير من الحديث يفيدنا شيئًا جديدًا، فحين جاء عمر في اليوم التالي فوجد الرسول والصديق يبكيان، وسألهما عن السبب «فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: أبكي للذي عرض عليَّ أَصحابك من الفداء لقد عُرِض عليَّ عذابهم أَدنى من هذه الشجرة (شجرة قريبة من نبي الله) (5)».
فرغم أن أول الحديث يشير إلى أن النبي وجَّه السؤال إلى أبي بكر وعمر إلا أن آخره يشير إلى أن عددًا آخر من الصحابة -لا نعلمهم- تدخَّل مؤيدًا وجهة نظر أبي بكر، وأن الموقف الذي اختاره تأثر بمشورتهم.

على أننا -رغم كل هذا- نرى في هذه القضية مسألة بسيطة مما يتصرف فيه رئيس الدولة حسب اجتهاده.

·       تصنيف القضايا
* ولسنا ندّعي حدوث تصنيف واعٍ للقضايا العامة وغير العامة في عهد الرسول أو عهد الخلفاء الراشدين، ولكننا نلاحظ -بشكل عام- أن النبي صلوات الله عليه كان يستشير.

استشارة عامة في القضايا الكبرى
وإذا تدبرنا قبول الرسول لمشورة سلمان الفارسي -رضي الله عنه- لم نجد فيه قضية؛ لأن المسألة فنية كما ذكرنا، فضلًا عن أنه لم يرد ما يفيد أن الرسول بادر بإفراد سلمان بالمشورة، كما لم يرد ما يفيد أن أحدًا اعترض على رأي سلمان (6). وعلى ذلك فإن هذه القضية لا مساس لها بموضوع الشورى.

·       المصالحة مع غطفان
فإذا انتقلنا إلى استشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للسعدين- رضي الله عنهما- في أمر المصالحة مع غطفان نجد أنفسنا أمام قضية مهمة، لكنها تشمل جانبًا خاصًّا.

لقد هم الرسول أن يعقد اتفاقية مع عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه.

فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح (7)، وبعث الرسول «إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه (8)»، وقد رفض السعدان الفكرة بعد أن استوثقا من عدم وجود وحي في القضية، وأن رفضهما لن يغضب حبيبهما محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (9).

والسؤال الذي يُمكِن أن يُطرَح هذا الموقف هو: لماذا اختار الرسول السعدين دون سائر الصحابة، بل واستدعاهما من بعيد واستشارهما وأخذ بما قالا؟

استشارة السعدين:

لا جرم أن في هذه القضية ما يُثير بعض الالتباس:

فالمسلمون يخوضون معركة حياة أو موت، والصلح قد يكون فيه خيرهم كما أنه ربما جلب لهم شرًّا مستطيرًا، ومع ذلك فقد خصَّ صلوات الله عليه اثنين من أصحابه بالمشاورة، واستدعاهما من بعد، ولم يستشر في القضية من هُم أرفع من السعدين منزلة، أعني الصحاب الأربعة الراشدين.

غير أن المشكلة واضحة كل الوضوح -من وجهة نظر كاتب هذه السطور- ذلك أن هذه القضية وإن بدت عامة في أحد جوانبها فهي قضية خاصة من جانب آخر، لقد كان الرسول هو القائد والزعيم، وكان المسلمون عامة في معركة، إلا أن الثمار التي جرى التفاوض بشأنها لم تكن ملكًا عاما للمسلمين، بل كانت ملكًا خاصًّا للأنصار لا يصح التصرف فيه دون استشارتهم هم دون سواهم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأنصار كانوا يُشكّلون الأغلبية العددية للمقاتلين المسلمين في تلك الواقعة؛ أدركنا سرَّ قصر الاستشارة على السعدين زعيمي الأنصار قاطبة. إن الأمر يعنيهم بالدرجة الأولى، يَعنيهم من حيث تكاليف الانفكاك السلمي، ويَعنيهم من حيث تكاليف مواصلة الجهاد والمقاومة.

وقد كانت نتيجة موقف السعدين خيرًا وبركة على المسلمين، ونصرًا مؤزرًا لم تضعف للمسلمين بعده شوكة.

وقد أدرك الرسول -صلوات الله عليه- هذه الحقيقة، فقال حين أجلى الأحزاب عنه: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم (10)».
وإذا انتقلنا لبحث استشارة الرسول لعلي وأسامة في أمر حديث الإفك نجد أن الأمر لا يحتاج إلى مناقشة، فالقضية محض شخصية، وقد استشار فيها صلوات الله عليه من تربطه بهما روابط شخصية وعائلية خاصة، زيادة على أواصر العقيدة والدين (11).

·          إن الشورى في القضايا العامة حقٌّ من حقوق الأُمة؛ حيث يُقرر ممثلوها، أهل الحل والعقد ما ترى فيه مصلحة لها، ضمن إطار المبادئ الإسلامية، ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك مسائل خاصة يبتُّ فيها رئيس الدولة حسب تقديره الخاص.

غير أن المصلحة تقضي أن تكون مثل هذه القضايا محددة.

لقد مرت على المسلمين مئات السنين ودماؤهم تنزف، ومصالحهم تُهدَر نتيجة لفوضى الحكم والإدارة وعدم تنظيم عملية الشورى، فهل في الإمكان وضع نظام شورى مقتبس من المبادئ الإسلامية يُلبِّي متطلبات الدولة الحديثة؟ نرجو أن نتمكن من بحث هذه النقطة في عدد قادم.

عبد الله أبوعزة

 

مصادر المقال:

(1)          مختصر صحيح مسلم، الحديث رقم (1156)، جـ (2)، ص (69 -70).
(2) ابن هشام مجلد (1)، ص (615).
(3) المصدر نفسه، ص (620).
(4) بابلي، (ص69).
(5) مختصر صحيح مسلم، الحديث رقم (1158).
(6) ابن هشام، مجلد (2)، ص (224)، وانظر تفسير الطبري «طبعة دار المعارف بمصر»، مجلد (14)، ص (58 – 71).
(7) ابن هشام مجلد (2)، ص (223).
(8) المصدر والصفحة ذاتهما.
(9) المصدر والصفحة ذاتهما.
(10)  صحيح البخاري «القاهرة: طبعة كتاب الشعب» جـ (5)، ص (141)، باب غزوة الخندق.
(11) ابن هشام، مجلد (2)، ص (301).

الرابط المختصر :