العنوان الطاهر مكي.. وتشخيص أدواء الثقافة العربية (3 - 3)
الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود
تاريخ النشر السبت 01-يوليو-2017
مشاهدات 101
نشر في العدد 2109
نشر في الصفحة 64
السبت 01-يوليو-2017
الطاهر مكي.. وتشخيص أدواء الثقافة العربية (3 - 3)
يرى أن لليهود طريقتهم في التسرب إلى الشعوب فاستغلوا حب الإسبان للثقافة بتعيين سفير مثقف
شخَّص أزمة الثقافة في مصر بأزمة مثقفيها الذين نسوا كل المبادئ التي كانوا يؤمنون بها
حدَّد الثقافة بأنها موقف ومن لا موقف له ليس مثقفاً بل تاجر كلام
قصيدة النثر مصطلح ينقض بعضه بعضاً فالقصيدة لا تنسجم مع النثر مطلقاً
انتمى إلى دينه ووطنه وكان مثلاً في الشجاعة الأدبية ومواجهة الحقيقة
كان في تواضعه ومروءته وشهامته مثالاً للعالم الجليل والمثقف العظيم
الطاهر مكي لا تتناقض مواقفه في القضايا العامة والثقافية مع سلوكه العام، ولا يبتعد عما يمليه الضمير الحي الذي يعرف مصالح وطنه وقومه، ويفقه طبيعة الفطرة والإنسانية في الصورة النقية، ويرفض الفساد والظلم والقهر، ويقف إلى جانب الطهارة والعدل والكرامة، وفي الوقت نفسه يتابع ما يجري على الساحتين المحلية والعالمية متابعة دقيقة، ليعرف أبعاد ما يحدث ونتائجه، ولذا تأتي آراؤه واقعية واضحة.
في العام الماضي صدر قانون يتيح لليهود العودة إلى إسبانيا بعد قرون من طردهم منها ولا يتيح للعرب والمسلمين الفرصة نفسها، وبحكم أنه عاش في إسبانيا فترة طويلة في شبابه، وتابع تطورات الحياة فيها بعدئذ وعلاقته المستمرة عن طريق السفر لحضور المؤتمرات أو المناسبات، والاطلاع المستمر على أحداثها وأمورها كان جوابه العميق التالي مع بعض الإيجاز، يقول:
«من معجزات فرانكو أنه كان يرى أن سوءات العالم ثلاث: الصهيونية، والشيوعية، والماسونية، وكان يعتقد أن الصهيونية هي التي صنعت الشيوعية وصنعت الماسونية، لتصل إلى أهدافها، وتحقق مرادها، وبرغم كل الهجوم الأوروبي عليه، ورغم حملات حصاره، فإنه لم يسمح لهذه المؤسسات الثلاث أن يكون لها نفوذ في إسبانيا؛ لأنه كان يرى أن الصهيونية دعوة مخربة، وهي التي غذّت العالم بكل الأفكار التخريبية».
وقال د. مكي: إن اليهود لهم طريقتهم في التسرب إلى الشعوب، وعندما علموا أن الإسبان يهتمون بثقافتهم، ويعتزون بها إلى أقصى مدى، أرادوا أن يتقربوا من الإسبان، فعيّنوا سفيرهم في البرتغال المشهود له بالثقافة سفيراً لهم في إسبانيا، ودخل قلوب الإسبان ليس بوصفه سفيراً، ولكن بوصفه مثقفاً، فاستطاع أن يجمع الإسبان حوله.
وتابع: استطاع السفير «الإسرائيلي» أن يحصل على موافقة رئيس الأكاديمية الإسبانية بزيارة الأسر اليهودية في «إسرائيل» التي كانت تتكلم الإسبانية القديمة وطردت.
بعد أن عاد رئيس الأكاديمية الإسبانية إلى وطنه إسبانيا كانت أول كلمة يقولها: إن من الغباء ألاّ تعترف إسبانيا بـ«إسرائيل» وهي مركز من مراكز نشر الثقافة الإسبانية في الشرق الأوسط، وأردف أن من الأسباب التي أثارت حفيظة اليهود ظهور حركة في إسبانيا تدعو للاهتمام بالتراث الإسلامي، بدأت في أوائل القرن الماضي، وبدأت بشكل سهل، واستطاعت الحركة أن تنصف قليلاً الحضارة العربية، وعلى إثرها صار الإسبان يدرسون الفترة العربية على أنها ليست استعماراً، وبدؤوا يدرسون الحكم الثاني رجلاً عظيماً، وعبدالرحمن الناصر أعظم خليفة، ومسجد قرطبة أعظم مساجد العالم.
كل هذا أزعج اليهود وهم لا ينتظرون حتى تفاجئهم الأحداث، فبدؤوا من خلال الكنيسة لتحقيق ما يريدون، مستغلين أن إسبانيا توجد بها حرية للدخول والخروج في ظل القانون الإسباني، وانتقد د. مكي ركون العرب وكسلهم تجاه ما يحاك ضدهم من اليهود الذين لا يكادون يهمدون في سبيل توطيد مصالحهم ونفوذهم في العالم كله، برغم أن النصارى في إسبانيا يكرهون اليهود أكثر مما يكرهون المسلمين.
في ذلك الوقت كان لمصر معهد تنفق عليه، كان يرأسه رجل لا يؤمن إلاّ بنفسه، حتى إن إسبانيا شكت من أنه جمّد العلاقات الثقافية بين مصر وإسبانيا، وحال بين التواصل الثقافي بين إسبانيا ومصر. (رأي اليوم 4/3/2014م).
أزمة الثقافة بمصر
وفي حواره السابق، يشخص أزمة الثقافة في مصر، بأزمة مثقفيها الذين جاء ثلاثة أرباعهم من القرى حفاة، وبعد أن فتح الله عليهم وذاقوا طعم الترف، نسوا كل المبادئ التي كانوا يؤمنون بها، ويدعون إليها، وضرب مثلاً على هؤلاء المثقفين برفعت السعيد، مشيراً إلى أن يوسف والي، وزير الزراعة الأشهر، أعطى للسعيد (اليساري) 20 فداناً وزرعها له بالفاكهة، ثم بعد ذلك باعها بنصف مليون جنيه، ويضيف: ما زلت مؤمناً أن من يتولون مسؤولية الثقافة هم كارثة هذا الوطن، مشيراً إلى أن ظاهرة «عبده مشتاق» انتشرت انتشاراً كبيراً في أوساط المثقفين، لذلك فهو يحس بشيء من الأمل عندما يقرأ أن فلاناً اعتذر عن عدم قبول أحد المناصب.
وانتقد د. مكي غالبية المثقفين الذين هم جاهزون ومستعدون في سبيل الوصول لغايتهم أن يرضوا بكل شيء، ويوافقوا على كل شيء، ويدوسوا على كل شيء.
ويضرب مثلاً على تراجع حركة النشر الثقافي بمؤسسة «دار المعارف» التي تركها سيد أبو النجا، رئيس مجلس الإدارة، في السنة التي أنشئت فيها مجلة «أكتوبر»، وكان بها من الرصيد نحو سبعة ملايين جنيه إسترليني، وجاؤوا بأنيس منصور الذي عيّنه «السادات» رئيساً لتحرير «أكتوبر»، فتراجعت «دار المعارف» وانهارت، وتوقفت كل السلاسل الناجحة مثل: «تراث الإسلام»، «ذخائر العرب»، «المكتبة الأدبية».. وغيرها.
أما مؤسسات النشر التابعة لوزارة الثقافة فهي لا تنشر إلا للصحفيين رهبة منهم، وسعياً لكسب رضاهم، وكانت النتيجة أن انهارت الهيئات الثقافية الحكومية، وبدا أنها غير جادة في نشر الثقافة، وأصبحت تطبع الأعمال الكاملة لمؤلفين لا تقرأ كتبهم، وقال بأسى: توجد عندي وثائق بين مقاطعة كاتالونيا الإسبانية والدول العربية والإسلامية في القرن الرابع عشر، ولا أجد من ينشرها.
ورداً على سؤال: كيف ترى تعثر ثورات «الربيع العربي»؟ أجاب د. الطاهر: برغم أن خصوم الثورات العربية كثر وأقوياء، وعندهم خبرة في إفساد الثورات الطيبة، وبرغم كل المتاعب والبلاء، فإنني متفائل، ولكن الثمن قد يكون غالياً.
وفي حديث إلى صحيفة «الجريدة» الكويتية 5/8/2013م، حدد الثقافة بأنها موقف، ومن لا موقف له ليس مثقفاً، بل تاجر كلام، اليوم لم تعد ثمة مبادئ أو غايات محددة، وإنما ثمة من يبيع ويشتري ويستفيد، وتجده يرقص على كل الأنغام ويأكل على كل الموائد، إجمالاً اختفى المثقف الحقيقي في مصر منذ عهد الرئيس المخلوع «حسني مبارك»، والذين بقوا في الساحة إما اعتزلوا إذا كانوا من القدامى أو رحلوا، فيما تنقص الشباب خبرة وتجربة وقدوة.
قصيدة النثر والترجمة
وأجاب عن رأيه في قصيدة النثر بأنها مصطلح ينقض بعضه بعضاً، فالقصيدة لا تنسجم، قطعاً، مع النثر.
ويدلي برأيه في أحوال الترجمة في الوقت الراهن، فيرى أنها توقفت مع الجيل الماضي، مع محمد عبدالهادي أبو ريدة، ود. محمد عوض، وهما مترجمان عظيمان، ويشير إلى إحدى المؤسسات التي يفترض أنها أنشئت للترجمة خصيصاً حيث العجب العجاب، كأن يُنشر كتاب نشر في مكتبة الأسرة أو آخر مترجم منذ عشر سنوات أعاد مترجم آخر ترجمته، وأحياناً نجد المراجع يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه المترجم.
ويجيب عن سؤال لمجلة «الوعي الإسلامي»، العدد 570، ديسمبر - يناير 2013م) عن واقع الأدب العربي في الوقت الحالي بأننا نعيش على أدب أزمان خلت، حين كان العرب عرباً، أمَّا ما يملأ الساحة الآن فضجيج فارغ، وطبل أجوف، وسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، وعلى المستوى النقدي فطغيان الهزيل على الإبداع الجيد لا يفرز إلاَّ نقداً مشوهاً.
ويرى ألا أحد هناك يحترم وقته وجهده يريد أن يهدر قواه فيما لا يفيد، أما السطحيون والتافهون فيكوّنون عصبة بالغة الخطر عظيمة الشر، وعلى من يتصدى لهم أن يعاني وأن يمضي وقته يدفع عداوتهم، هذا إلى جانب عدم وجود مجلة أدبية متخصصة ومحايدة وموضوعية تنشر لك ما تريده، حتى وإنْ أنفقت عليها الحكومة، ثم هي على أي حال محدودة التوزيع، فما أهمية أن نكتب في مجلة يقتصر توزيعها على كتّابها ومن يتوقعون أن ينشروا فيها مقالتهم؟!
مثال في الشجاعة الأدبية
كنت أود الاستطراد لبيان كثير من مواقف الرجل في القضايا العامة والثقافية، ولكن أكتفي بهذا القدر، وهو عظيم بالنسبة لرجل عظيم في زمن عزّ فيه المثقف العضوي الذي تحدث عنه الشيوعي الإيطالي «جرامشي»، أو المثقف الملتزم الذي صوره ونادى به الوجودي الفرنسي «سارتر»، أو المثقف المسلم ذو الضمير الحي كما دعا إليه القرآن الكريم.
لقد انتمى الرجل العظيم إلى دينه وقومه ووطنه، وكان مثلاً في الشجاعة الأدبية ومواجهة الحقيقة المرة في بلاده بالتعبير الصريح عنها غير هيّاب ولا وجل.
لقد تحدث في مؤتمر للتواصل الثقافي مع إسبانيا ودول أمريكا اللاتينية، انعقد باتحاد كُتاب مصر منذ فترة عن ثمن الحرية للمثقفين والأدباء فأشار إلى ما جرى في أمريكا اللاتينية وقال: «إن ما حدث في الدول اللاتينية من أعمال قتل ونهب، هو أرخص ثمن للحرية الأدبية، وإن وضع أمريكا اللاتينية كان أسوأ من وضعنا الحالي بكثير، كانتشار الفساد المالي والإداري وجرائم القتل والنهب والسلب.
إن أمريكا اللاتينية من أكثر البلاد ديمقراطية الآن، ويؤمنون بالحرية الفرنسية، ويقدسونها؛ ما أدى إلى وجود عدد كبير من الشعراء والأدباء، وذلك لعدم وجود قيود عليهم، فكل منهم يستطيع أن يقول ما يؤمن به.
والدول اللاتينية تحترم الثقافة كثيراً، فمعظم السفراء من المثقفين والأدباء، والثقافة عندهم أهم من الثروة، فدولة البرازيل التي كانت تقتل الأطفال الفقراء لتنظيف المدينة، هي الآن بلد ديمقراطي من الدرجة الأولى».
لقد ظل عدة سنوات أستاذاً زائراً بجامعة بوجوتا الكولومبية، وعايش آداب أمريكا اللاتينية، وتعرف إلى الأدب المكتوب بالإسبانية في دولها، ورأى كيف دافع أدباء ومثقفو «جمهوريات الموز» كما كانت تسمى هذه الدول احتقاراً لحكامها الطغاة، عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، ودفعوا من أجل ذلك ثمناً باهظاً حتى غدت معظم بلادهم اليوم في مصاف الدول الديمقراطية الحرة، وبعضها حقق تقدماً اقتصادياً ملموساً.
هذا الوعي بقيمة الحرية آمن به د. مكي إيماناً كاملاً في الوقت الذي تحول فيه كثير من المثقفين المصريين والعرب إلى مجرد بهلوانات وأراجوزات وصبيان عوالم يمسحون أحذية الدكتاتوريات والاستبداد، بل تحول بعضهم إلى مستوى لا يليق بشخص يحمل أمانة القلم لدرجة أن أعلن وزير أسبق بفخر مخادع أنه أدخل معظم المثقفين الحظيرة!
أما د. مكي فقد ظل وفياً للعلم والمعرفة، ثابتاً على رأيه لا يرهب ولا يرغب، وكان في تواضعه ومروءته وشهامته مثالاً للعالم الجليل والمثقف العظيم، الذي يحبه المنصفون، ويحسده الظالمون، ويجمع على قيمته أهل العلم والفضل، وهو ما جعله يستحق عن جدارة جائزة التميز من جامعة القاهرة عام 2009م.
لقد بارك الله في عمره وعلمه، مثالاً للمعلم العالم العامل، حتى لقي ربه، رحمه الله تعالى.