العنوان العرب بين اشتراكية الأمس.. وخصخصة اليوم
الكاتب عبد المنعم سليم
تاريخ النشر الثلاثاء 17-يناير-1995
مشاهدات 18
نشر في العدد 1134
نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 17-يناير-1995
مقال
لقد كانت الماركسية والاشتراكية أنسب النظريات التي تعطي الحكَّام كافة الصلاحيات لتسليط السياط على الظهور وفرض الولاء والاستكانة على الشعوب
صرَّح نائب رئيس الوزراء ووزير التخطيط في إحدى الدول العربية المشرقية «بأن قرارات الخصخصة التي أعلنتها الحكومة كانت ضرورية لإعادة النظر في وظيفة الدولة الاقتصادية وإن جميع مؤسسات القطاع العام بما فيها شركة الطيران سيتم طرحها للاكتتاب الشعبي وللمستثمرين، وإن الدولة لن تدير بعد الآن أي فندق أو مرفق صناعي فالنهج الاقتصادي الجديد يقوم على أساس اقتصاد السوق».
وفي دولة عربية ثانية - كانت ترتفع فيها أعلام الماركسية والاشتراكية بالأمس- أعلنت الجهات المسؤولة أن الخصخصة النشيطة طالت شركات الكهرباء والاتصالات والمواصلات والتعدين.
كما أنه في دولة عربية ثالثة لا يتوقف الإعلان عن بيع القطاع العام والشركات المختلفة في الداخل والخارج.. من أجل جذب المستثمرين.. وكافة المشترين.
ويعني هذا أن عمليات الخصخصة ماضية في طريقها على قدم وساق في العديد من أنحاء عالمنا العربي السعيد، أينما أمعنت النظر وأصغيت السمع، وجدت أخبار الخصخصة تطال كافة الشركات الكبرى والصغرى، وشتى الفنادق الشهيرة والمغمورة مع شركات المشروبات التي كان أهل الخصخصة اليوم يفخرون بتأميمها أو ملكية الدولة لها بالأمس وكأن الخصخصة صارت موضة ما بعد انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد أمريكا بالسلطة والسلطان والنفوذ والهيلمان.
إن السرعة التي تمضي بها الخصخصة، والأسلوب الذي تمضي عليه الخصخصة لافتان للنظر حتى إن الأمر يبدو وكأن هناك من يضغط على «زر» خاص فتدور عجلة الخصخصة أسرع من سائر العجلات على سائر الساحات، ورحم الله زمانًا كان الناس يلهثون فيه وهم لا يكادون يتابعون عجلة التأميم تدور بسرعة عجيبة وتطال كل شيء حتى «كير الحداد»، و«فأس الفلاح»، في أقصى القرى والنجوع، تحت شعار تأميم وسائل الإنتاج وتحرير كاهل العامل والفلاح، وضمان استقلال الاقتصاد الوطني، وفي ظل الرايات التي رفعت فوق الديار، رايات الاشتراكية والماركسية والتحول الاشتراكي العظيم والسعي لمجتمع الرفاهية المزعوم، والعيش في رغد النعيم الموعود.
محاولة للتفسير
ترى ماذا حدث بين الأمس واليوم؟ لماذا كان التهافت بالأمس والجري في اندفاع على طريق التأميم والقطاع العام، والسيطرة التامة للدولة على الكبيرة والصغيرة، ومحاربة الخاص واتهامه بالغش والخداع، والتآمر بالرجعية والثورات المضادة؟ ولماذا التهافت اليوم والجري في طريق الخصخصة وبيع العام ودعم الخاص والإشادة بدوره في البناء والتعمير والإنجاز والعطاء؟!
التفسيرات كثيرة.. والتعليلات عديدة.. إلا أن هناك تفسيرين رئيسيين أو يكاد يلتقي حول كل منهما كثرة من المفسرين خاصة من الذين عاشوا تجربة القطاع العام والتأميم والمصادرات بالأمس، ويعيشون تجربة الخصخصة وبيع العام ودعم الخاص اليوم.
يقول أصحاب التفسير الأول: كان العالم منقسمًا لمعسكرين يتجاذبه قطبان:
القطب الأول : الماركسي اليساري ومركزه "موسكو"..
والقطب الثاني: الرأسمالي صاحب النظام الحر ومركزه واشنطن.
وحين استقلت دول العالم الثالث انحاز كثير من حكامها للتجربة الماركسية فقد حسبوها أنسب ما تكون لظروف وأوضاع بلادهم حيث الخزائن فارغة والإمكانات مبددة والبناء يحتاج إلى البدء من الأساس بعد أن استنزف الغرب المستعمر الموارد وبطش بالإمكانات وترك الديار خاوية على عروشها، وفوق كل هذا أو قبل كل هذا كان هناك بريق النظريات والوعود برغد الجنات التي وردت في كتب وأفكار أصحاب النظريات، وقد استمرت هذه القيادات في حكم بلادها تحت أعلام الماركسية والاشتراكية إلى أن أفلست النظريات وانهار الاتحاد السوفييتي.. القدوة والمثال مصدر الدعم والحماية وكانت النهاية التاريخية الفاضحة للنظريات والمروجين للنظريات وتربعت أمريكا على عرش الكرة الأرضية في تمام الهيلمان والسلطان ولم تجنِ الشعوب المغلوبة على أمرها- بعد مسيرة بدأت من الستينيات وانتهت مع نهاية الثمانينيات- إلا الخسران والبوار والضياع، ولم يكن رد الفعل عند حكامها وقد صاروا وجهًا لوجه أمام قطب واحد، وكمٍّ ضخم من الأزمات والمشاكل إلا أن ينبذوا ما استلهموه من موسكو من مبادئ ونظريات وأفكار ونظم لينخرطوا في تجربة جديدة، هي تجربة الاقتصاد الحر تمشيًا مع الأوضاع الجديدة التي سادت على الساحة العالمية وفي محاولة لمواجهة الأزمات والمشاكل الداخلية.
الفريق الآخر وقد عاش التجربتين أيضًا يرى أن المسألة ليست بهذه البساطة والسذاجة ولكن لها وجهها الباطن، ومن ثم له رأى آخر، وهو أن دول العالم الثالث حين دخلت عصر ما يسمى بالاستقلال.. لم تحظَ باستقلالها كاملًا ولم تتحرر من كل قيود الاستعمار أو ضغوطه، بل إنها خرجت من ربقة الاستعمار القديم لتدور في فلك الاستعمار الجديد- الذي ابتكر لها نظمًا جديدة في الحكم وأساليب في التعامل والمعاملة غاية في الخبث والدهاء، ولم يكن ظهور النظم العسكرية التي جاءت وليدة للانقلابات العسكرية إلا ثمرة من ثمار الغرس الأمريكي.
الاستعمار الجديد
وقد رفعت هذه النظم العسكرية شعارات الحكم الوطني والتحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الصحيحة، ومحاربة الفساد، وفي نفس الوقت رفعت شعارات الماركسية والاشتراكية واليسار والثورات التقدمية، ثم بدأت تحكم القبضة على الأعناق من خلال العديد من الأجهزة الأمنية ووجهت عنايتها الفائقة إلى الأجهزة الإعلامية لبث الذعر في النفوس ولغسل أدمغة المحكومين.
لقد كانت الماركسية والاشتراكية أنسب النظريات والأفكار التي تعطي الحكام كافة الصلاحيات مع كافة الشعارات لتسليط السياط على الظهور وضمان فرض الولاء والاستكانة، فتَحْتَ شعارات مواجهة الثورات المضادة، والقضاء على الردة والرجعية، والحفاظ على المكاسب تمت مصادرة الحريات والأموال، وتم سحل الألوف واعتقال الألوف بل وقتل الألوف.
كما كانت الماركسية والاشتراكية أنسب السبل والوسائل لمد حبال الوصل مع "موسكو" وإنهاكها من خلال القروض والمعونات والأسلحة، وفي نفس الوقت هيأ التطبيق الماركسي والاشتراكي الفرصة لضرب الحركات الإسلامية، وملاحقة الدعاة إلى الله، فهم المتآمرون أعداء التقدمية والتحديث الذين يمثلون الرجعية الحاقدة ويتربصون بكل محاولات التقدم والنهضة.
وإضافة إلى كل ذلك فإنه حين طبقت الاشتراكية والماركسية وذاق الناس طعم القهر والكبت والحاجة والفقر، وسوء الأحوال والمآل عرفوا أن البريق كاذب، وأن أحلام الجنات والعدالة والديمقراطية الشعبية ليست إلا الخرافات والأكاذيب، وهكذا حوربت الماركسية بالتطبيق الماركسي.. حيث حل بالناس العري والجوع والتشتيت والتشريد.
الماركسية لصالح "أمريكا"
أي إن التطبيق الماركسي على ساحة الدول النامية ومنها الدول العربية حمل طوال سنواته كل المنافع والفوائد والثمار لواشنطن، وحملت "موسكو" والنظم الحاكمة أوزاره ودفعت الشعوب وحدها الثمن أكثر من فادح، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وإفلاس الماركسية على ساحته، كانت الماركسية قد أدت دورها المطلوب على ساحة العرب.
ويعني هذا في نظر أصحاب هذا التفسير أو الرأي، أنه كان هناك ضغوط على «الزر» بالأمس ليكون التوجه نحو الماركسية مذهبًا ومنهجًا، ويأتي الضغط اليوم على نفس «الزر» ليكون التوجه نحو الخصخصة واقتصاد السوق، ويعني أيضًا أن التحول أو التحويل إلى الماركسية بالأمس مثله مثل التحول أو التحويل إلى الاقتصاد الحر، والقطاع الخاص اليوم هو تحول أو تحويل أمريكي.
وأصحاب هذا التفسير لديهم العديد من الشواهد.. ترقى لمستوى الأدلة والتوثيق وإن كانوا يطرحون دليلًا طازجًا من خلال ما حدث ويحدث في "هاييتي".
فالسيد "أريستيد" الذي أعادته "واشنطن" إلى "هاييتي" رئيسًا باسم وتحت أعلام الديمقراطية ماركسي الاتجاه، والعسكر الذين خلعتهم أمريكا من مقاعد السلطة في هاييتي كانت تمدهم وكالة المخابرات الأمريكية بالدعم والتأييد والمال تثبيتًا لمقاعد السلطة تحتهم وهم يقبضون على زمام السلطة وزمام الرعية، أي إن المخلوع أمريكي، والعائد للسلطة ماركسي أمريكي، والأمثلة في غير "هاييتي" وعلى ساحة عالمنا السعيد أكثر.
وسواء كان الميل لهذا التفسير أو ذاك، فإن هناك أكثر من ظاهرة تستحق التسجيل:
الأولى: أنه في عهد الاشتراكية والماركسية وحيثما جرى تطبيقها بالأمس، وحيث ساد القطاع العام واندحر القطاع الخاص قد تمت مصادرة الحريات، واليوم وفي عهد الخصخصة وتفكيك أو بيع القطاع العام والإشادة بالقطاع الخاص، استمرت أيضًا مصادرة الحريات.
الثانية: أنه إذا كان التأميم مع اتساع القطاع العام قد شمل في عهد الماركسية والاشتراكية كل الساحات، وهيمن على الإعلام، فإن الخصخصة واقتصاد السوق قد طالا العديد من الساحات ولم يقتربا من الإعلام، إنه سلاح السلطان في العصرين أو العهدين، ولعل هذا يعد ترجيحًا لقول من يقولون إن الماركسية التي سادت على ساحتنا العربية بالأمس كانت ماركسية أمريكية، وإن الخصخصة اليوم على أنقاض الماركسية والاشتراكية هي خصخصة أمريكية، ولا نحسب أن ثمة فارقًا يلمسه المحكومون بين اليوم والأمس، ما دام الأمر يمضي من خلال الضغط على «الأزرار»، ونحن لا نملك «الأزرار»، ووسائل الإعلام والحريات أسيرة المصادرات.
[*] كاتب ومحلل سياسي مصري.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

