; العروبة في نظر الإمام الشافعي | مجلة المجتمع

العنوان العروبة في نظر الإمام الشافعي

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

مشاهدات 13

نشر في العدد 1171

نشر في الصفحة 59

الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

بقلم. د محمد الدسوقي (*)

يعد الإمام الشافعي من أعلام الفكر الإسلامي، فهو فقيه، أصولي، محدث، شاعر لغوي، وهو إمام مذهب من المذاهب الفقهية التي يقلدها ملايين المسلمين اليوم. هذا الإمام ولد في غزة سنة ١٥٠هـ، ونشأ في مكة، وتأدب بآداب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، وقد نبغ في فقه الكتاب والسنة، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، وقال عنه أيضا فكان أفقه الناس في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وكان الشافعي مع نبوغه في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما، ودقة استنباط الأحكام منهما فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة، وكان إلى هذا يتمتع بقوة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة، ناظر كثيرًا من الذين أثاروا الشكوك والشبهات حول السنة النبوية، فأفحمهم وألزمهم الحجة، حتى سمي بناصر السنة كما سمي بواضع علم الأصول؛ لأن أول كتاب في هذا العلم وصل إلينا كان من تأليفه، وعلم الأصول يمثل أصالة الفكر الإسلامي أصدق تمثيل، فهو يقدم أصول المنهج للاجتهاد والبحث الفقهي.

لهذا الإمام الجليل آراء مهمة وقيمة في العرب والعروبة، وهذه الآراء لم تصدر عن نزعة عنصرية، أو عصبية جنسية، وإنما قال بها الإمام الشافعي إيمانًا بعالمية الإسلام، وأنه آخر الأديان السماوية، وأن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، وأن اللغة العربية أفضل اللغات، وأن على كل مسلم غير عربي أن يتعلم العربية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن المسلمين العرب يجب أن يكونوا قدوة لغيرهم وقادة لسواهم.

يقرر الشافعي أولا أن العروبة تكتسب باللسان فحسب، وأن المرء باللغة العربية وحدها يصير عربيًّا، فهو يقول: إنما صار غيرهم أي غير العرب - من غير أهله - أي اللسان العربي - بتركه فإذا صار إليه صار من أهله؛ فاللغة إذن هي رابطة النسب بين العرب، والآصرة التي تجمع بينهم، وتجعل الإنسان منهم، وإن لم يكن من قريش أو من غيرها من قبائل العرب المشهورة، فمن أهمل العربية من العرب، أو انتقل إلى لغة سواها ضاع نسبه بين العرب وإن مت بصلة القربى إلى عدنان أو قحطان.

ثم يقر الشافعي ثانيًا أن اللغة العربية التي جعلها محور النسب بين العرب أكمل اللغات ألفاظًا وأوسعها مذهبًا، وأعذبها منطقًا، وأبينها دلالة، وهي فضلاً عن كل ذلك لغة الكتاب العزيز الذي ختم الله به الكتب، وأنزله على خاتم الأنبياء والمرسلين، ليكون للناس كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، دستور هداية للتي هي أقوم. فهو يقول: "ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا وأكثر ألفاظا"، ويقول أيضا: "وأولى الناس بالفضل من لسانه لسان النبي، ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل السنة أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه".

والشافعي في هذا النص يذهب إلى أن العرب أحق الناس بالفضل لأن لغتهم لغة النبي الذي بعث رحمة للعالمين، فلا يجوز أن يكونوا أتباعًا للسان غير لسان رسولهم، وهذا يعني أن العرب - أهل هذه اللغة - أفضل الشعوب، وأن هذه الأفضلية مردها إلى الإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم والذي كلفوا بحمل أمانته، وتبليغ دعوته ونشر تعاليمه، ومن ثم وجب عليهم أن يكونوا أهلاً لهذه الرسالة المقدسة، وتلك المهمة السامية وعليهم على أن يبلغوا دعوة الإسلام بسلوكهم وأفعالهم، قبل أن يقوموا بذلك بأقوالهم، عليهم أن يكونوا مثلاً عليا لتلك المبادئ والتشريعات التي صلح عليها أمر الدنيا والآخرة.

ومن أجل ذلك يرى الإمام الشافعي أن على كل من ليس عربيًّا من المسلمين أن يتعلم اللغة العربية ما بلغه الجهد، وعبارته في هذا: "فعلى كل مسلم أن يتعلم لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح، وغير ذلك".

وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه . كان خيرًا له (نصوص الشافعي في هذه الكلمة منقولة من كتاب الرسالة بتحقيق الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله).

ويتضح من هذا مدى حرص الشافعي على أن تكون اللغة العربية لغة جميع المسلمين، لأنها لغة كتابهم، ولسان رسولهم، ولذا يطلب من كل مسلم غير عربي أن يتعلم هذه اللغة، وأن يبذل أقصى جهده وطاقته في ذلك، فكلما ازداد معرفة باللغة العربية كان خيرًا له.

وإذا كان الشافعي قد قرر فضل العرب على غيرهم، وبيّن أن لسانهم مقدم على كل لسان فإنه لم يكن مدفوعًا في ذلك كما أومأت في مستهل هذه الكلمة باعتبارات جنسية أو عنصرية فهو بعيد كل البعد عن التعصب الجنسي أو العنصري؛ لأنه يؤمن بأن منزلة الناس عند الله إنما تقاس بالتقوى والعمل الصالح، وأن الناس سواسية كأسنان المشط يتفاضلون بما يقدمون من طاعات وقربات، ولكن هذا الإمام كان مدفوعًا باعتبارات دينية خالصة أساسها أن لغة القرآن الكريم يجب أن تسود بين المسلمين، ويجب ألا تنتصر عليها لغة أخرى، لتكون هذه الأمة التي اختارها الله لتكون أمة وسطًا، وشاهدة على الناس، فتكون أمة واحدة دينها واحد، وقبلتها واحدة، ولغتها واحدة، ومقومات شخصيتها واحدة.

ويؤخذ من آراء الإمام الشافعي في العروبة أن الإسلام هو الذي حول الفنيقيين والفراعنة والبرير وغيرهم إلى عرب، لقد بدل لغتهم، وغير أعرافهم، وجعلهم أمة واحدة، ومن ثم يجب أن يظل الإسلام بمبادئه وتعاليمه هو الرابطة التي تجمع بين هذه الشعوب، كذلك يؤخذ من هذه الآراء وجوب حماية اللغة العربية ونشرها، وأيضا نشر الإسلام وتبليغ رسالته إلى كل إنسان في أي مكان، فلا يكفي أن نقدم الإسلام لغير العرب بلسانهم، وإنما ينبغي علينا بالإضافة إلى هذا أن نحرص على نشر اللغة العربية بين غير العرب من المسلمين، لتزداد الروابط قوة، وتكون السيادة للغة والقرآن في العالم الإسلامي.

وبعد.. فإن العروبة في نظر الإمام الشافعي لا تنفصل عن الإسلام والعرب لم يكن لهم فضل إلا بهذا الدين، فهم بناته وحماته، ويجب أن يظلوا كذلك دائما، وعلى الأمم الإسلامية التي لا تتكلم العربية أن تعمل على التمكين للغة القرآن بين أبنائها، لتكون هذه اللغة في القريب إن شاء الله لغة التخاطب بين المسلمين جميعا.

لقد قضى الإسلام على النزعات الجاهلية في التعصب الإقليمي، ودعا إلى وحدة لا تنفصم عراها بين المسلمين في كل مكان، وجعل العربية عنصرًا من عناصر هذه الوحدة فليحرص المسلمون على هذه اللغة فهي لغة كتابهم ولسان رسولهم وصدق الله العظيم (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 193-195).

  • أستاذ الفقه والأصول - كلية الشريعة - جامعة قطر
الرابط المختصر :