العنوان العلامة ... محمد ناصر الدين الألباني: علم فقدناه .. وعلم ورثناه
الكاتب علي تني العجمي
تاريخ النشر الثلاثاء 12-أكتوبر-1999
مشاهدات 14
نشر في العدد 1371
نشر في الصفحة 46
الثلاثاء 12-أكتوبر-1999
لم تكد الأمة الإسلامية تفيق من فجيعتها بفقد عدد من العلماء حتى فجعت بعالم آخر ومحدث من طراز فريد هو العلامة محمد ناصر الدين الألباني، الذي انتقل إلى جوار الله تعالى يوم السبت قبل الماضي الموافق الثاني من أكتوبر عام 1999م.
لقد قضى الشيخ الألباني، يرحمه الله، زهرة شبابه وكهولته وشيخوخته في خدمة الحديث الشريف وعلومه دراسة وتدريسًا وتحقيقًا وتأليفًا وذبًّا عن حياضه من طعن الطاعنين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين.
وكان مُجَدِّدًا لهذا العلم الذي كاد يندثر في هذا العصر لما يتطلبه من جهد ومجاهدة، وصبر ومصابرة، وسهر ومكابدة في تصحيح صحيحه وتضعيف سقيمه ومعرفة أحوال رجاله. يدلنا على ذلك تلك الثروة التي خلفها ما بين مطبوع تداولته أيدي الناس، ومخطوط لم ير النور بعد. وكان، يرحمه الله، صاحب منهج متميز ينادي بالعودة إلى المنبعين الصافيين: الكتاب والسنة، داعيًا إلى التحرر من ربقة التقليد وقيود التعصب المذهبي الذي ظلت الأمة ترسف في قيوده قرونًا لم تخل من دعوات للمجددين، لعل منهم الشيخ ناصر، يرحمه الله، وكثيرًا ما كان يصر على آرائه متى استبان له الدليل ولو أداه ذلك إلى مخالفة جماهير الأمة وتأليب الطاعنين فيه. فكان أن خاض في سبيل ذلك معارك علمية لا تخلو من حدة من جانبه، رحمه الله، وكما يقول الذهبي عن شيخه ابن تيمية: «كانت فيه حدة يقهرها بالحلم».
ينحدر الشيخ من عائلة ألبانية نزحت إلى دمشق فرارًا من الحكم الشيوعي لألبانيا. وكان والده الشيخ نوح من مشايخ ألبانيا، تعلم في إسطنبول ثم عاد إلى بلده التي كان يحكمها أحمد زوغو الشبيه بأتاتورك، إذ سرعان ما ألزم المرأة الألبانية بنزع حجابها، فبدأت هجرة الألبان المسلمين خوفًا على دينهم، وكان من ضمنهم أسرة الشيخ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
بدأ الشيخ في دمشق حياته العلمية، إذ درس في مدرسة الإسعاف الخيري المرحلة الابتدائية، وتلقى عن والده بعض العلوم الشرعية فحفظ القرآن تلاوة وتجويدًا مع بعض الفقه الحنفي، وقرأ بعض كتب الصرف، كما قرأ "مراقي الفلاح" في الفقه الحنفي على الشيخ سعيد البرهاني. وخصه الشيخ راغب الطباخ بإجازة في الحديث بتزكية من الأستاذ محمد المبارك، الذي ذكر للشيخ ما يعرفه عن الألباني من إقبال على الحديث في تلك الفترة المبكرة من حياته.
وقد أتاح له عمله في إصلاح الساعات، كما يقول - يرحمه الله - مزيدًا من الوقت لكي يشبع نهمه العلمي وشغفه العجيب بالقراءة والاطلاع. وكان أول كتاب عكف عليه هو تخريج "الإحياء" للحافظ العراقي، وكان يستأجره كما يقول لأنه لا يملك ثمنه، حتى صمم على نسخه وتلخيصه مما شجعه فيما بعد على المضي في الدرب نفسه ومواصلة النهم العلمي وإشباع رغبته الشديدة في التبحر في علوم الحديث. ولم يكن الشيخ في ذلك الوقت قد أنهى العشرين من عمره، وقد ساعده على إشباع هذا الشغف اتصاله بالسيد سليم القصيباتي وابنه عزت، حيث كانا يملكان إحدى أكبر مكتبات دمشق، فكانا يمدانه بأي كتاب يحتاجه بدون أجر ولا تحديد لمدة زمنية حتى يأتي من يريد الكتاب فيبعثا إليه في طلبه.
وقد أراد الله عز وجل لذلك الفتى أن ينبغ في هذا الطريق رغم وعورته، خصوصًا أن المذهبية قد ضربت أطنابها في بيئته، ونار التعصب والتقليد اللتان كان يكتوي بهما قد زادتا من همته، وقوَّيتا عزيمته على خوض اللُّجج ومغالبة الأمواج ولسان حاله يردد كلام الشاعر:
لاستسهلن الصعب أو أدرك المنى *** فما انقادت الآمال إلا لصابر
حتى أنه اصطدم مرة مع والده الذي كان يرى أن حشو الضرس يمنع زوال الحدث الأكبر وبالتالي عدم صحة الصلاة، وقد حشا كبير أبنائه ضرسًا له وعلم به والده فخيَّره بين قلع الضرس أو مفارقة المنزل، فاختار الثانية. فما كان من الفتى الألباني - أي الشيخ ناصر - إلا أن ناقش والده ببراهين عقلية ونقلية فلم يستطع جوابًا إلا الصمت.
ولقد أدت به جرأته في آرائه وتمسكه باجتهاداته إلى إيغار صدور الكثيرين عليه، فلم يسلم من الوشاية والكيد من خصومه. فمرة يدعوه وكيل وزارة الداخلية لشؤون الأمن ليبلغه بمنعه من دخول بلدة إدلب وإبعاده إلى منطقة الحسكة.
ويتلقى مرة دعوة من الشرطة بوجوب مواجهة مفتي دمشق الذي اتهمه بإثارة الفتنة، ذلك أنه دخل أحد المساجد فوجد أناسًا لم يصلوا مع الجماعة انتظارًا لمجيء إمامهم الذي من مذهبهم ليصلوا وراءه جماعة ثانية، فذكر الشيخ هؤلاء بمخالفتهم للهدي النبوي فأوسعوه ضربًا وركلًا، ولذا اتهموه بإثارة الفتنة؛ بل إن الوشاية قد بلغت بخصومه أن تجاوزوا المدى إلى أبعد من ذلك بإباحة دمه على يد رئيس رابطة العلماء الذي أفتى بقتله.
وقد اعتُقِل الشيخ، يرحمه الله، في سجن القلعة، وهو المكان نفسه الذي حُبِس فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
ومع ذلك، فإن الشيخ، يرحمه الله، لم يكن يتوانى في إعلان خطئه متى تبين له، ولم يكن يضيره ذلك على الرغم من مكانته العلمية، فقد تراجع عن رأيه في بعض المسائل في كتابه "صفة صلاة النبي" بعد أن راجعه فيها الشيخ التويجري وأعلن ذلك صراحة في كتابه المذكور في طبعته السادسة.
وقال في تعليقه على أحد الأحاديث في "العقيدة الطحاوية" والذي كان قد ضعفه: «هذا ما كنت قلته منذ عشر سنين، ثم يسَّر الله لي جمع كثير من طرقه فتبين أنه صحيح بمجموعها».
ولأن الشيخ - كما قلنا سابقًا - ينبذ التعصب ولا يلتفت إلى قائل القول بقدر ما يعنيه مدى صوابيته، فقد رد على شيخ الإسلام ابن تيمية بعض قوله رغم ما يعرفه الكثيرون من انتماء الشيخ إلى المدرسة الفكرية لابن تيمية ومنافحته عنها وسيره على منوالها في تنقية العقيدة من الخرافات والشركيات ومحاربة البدع والخزعبلات.
ومن ذلك قوله في كتابه "مختصر صحيح البخاري": «قد يكون في بعض الأحاديث الموصولة جمل توهم القارئ العادي أنها في الصحة كأصل الحديث وليست كذلك في الواقع لأن لها علة لا ينتبه إليها إلا أهل العلم، والمصنف نفسه لا يعني صحتها».
وكان الشيخ يشير إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي ﷺ، أنه لما فتر عنه الوحي كان يصعد إلى الجبل ويهم أن يتردى منه، فيعقب، يرحمه الله، قائلًا: "فهذا مرسل ليس من حديث عائشة"، ويمضي قائلًا: «أعلم أنه قد يفتح علي نقدًا جديدًا، ولكن وجوب بيان العلم وحرمة كتمانه». يحملانني على ألا أبالي الناس رضوا أم سخطوا، وكأنه بذلك يتمثل منهج ابن تيمية الذي تحمل الكثير من الأذى في سبيل آرائه واجتهاداته، حتى سُجِن مرات من أجلها غير مبالٍ ولا هياب مادام قد توصل إليها عن بحث وقناعة وتجرد لا عن تعصب وتقليد أعمى، حتى غدت آراؤه من بعده إلى يومنا هذا معمولًا بها، خصوصًا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية في معظم القوانين الخاصة بذلك.
وعلى الرغم من ما كان يعتري الشيخ، يرحمه الله، من شدة في بعض ردوده إلا أنه كان يعرف لأهل الفضل فضلهم، ولأهل العلم قدرهم، من ذلك قوله، يرحمه الله، في مقدمة المجلد الثاني من سلسلة "الأحاديث الصحيحة" «مكتبة المعارف بالرياض، ص٥»: "سيرى القراء تحت الحديث الآتي: «طوبى للشام، إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه»، ردًا رصينًا هادئًا في تسع صفحات على تعقيب لأحد الفضلاء من المشايخ المكيين، وقد توفي، رحمه الله، منذ بضع سنين"، والكلام ما زال متصلًا للشيخ ناصر، "ذهب فيه إلى تضعيف الحديث المذكور في خطاب كان أرسله إلي، وقد نشطت للرد عليه لفضله وسلوكه طريق النقد النزيه".
والآن لعل من نافلة القول الحديث عن المؤلفات التي خلفها الشيخ والتي أودع فيها جهد ستين عامًا أو يزيد في مجال الحديث الشريف ما بين تأليف وتحقيق، منها على سبيل المثال: سلسلة الأحاديث الصحيحة، وسلسلة الأحاديث الضعيفة، وصحيح الجامع الصغير، وضعيف الجامع الصغير، وصفة صلاة النبي، وتحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، وحجاب المرأة المسلمة، والأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة، ومختصر صحيح البخاري، ومختصر صحيح مسلم، وصحيح سنن أبي داود، وضعيف سنن أبي داود وغيرها من المؤلفات الكثيرة التي تحتاج إلى صفحات لإحصائها، وما زال هناك مؤلفات مخطوطة لم تُطبع بعد.
وهناك أبيات طريفة للأستاذ محمد المجذوب، يرحمه الله، ذكرها في كتابه «علماء ومفكرون عرفتهم»، الذي أخذنا منه جانبًا كبيرًا من ترجمة الشيخ، يرد فيها على الطاعنين في العلامة الألباني يقول فيها:
قالوا: ألا كلمة في الشيخ تنصفه *** فقد طغى الجور حتى في الموازين
شُنت عليه حروب لا يسوغها *** عقل يرى الحق في ظل البراهين
فما عسى أن يقول الشعر في رجل *** يدعوه حتى عداء ناصر الدين
وأي ضير إذا فرد تجاهله *** وقد فشا فضله بين الملايين
يرحم الله الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة واسعة، وجعل كل ما خلف من علم في ميزان حسناته يوم القيامة، وأجزل له المثوبة جزاء ما قدمه للإسلام والمسلمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل